البراءة والولاء
جدول المحتويات
الإمام الحسين(ع): «إنا أهل بيت النبوة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجلٌ فاسقٌ فاجرٌ شاربٌ للخمر، ملاعب للقرود، قاتل النفس المحترمة، ومثلي لا يبايع مثله».
تمهید
«كربلاء» اختزلت كل الأحداث على أرضها، و«عاشوراء» حوت كل معارف الإسلام بين ساعاتها، وقف «حزب الله» في جبهة، ووقف «حزب الشيطان» وعبدة الطاغوت في الجبهة المقابلة، فكانت ملحمة الإيمان والتقوى التي كُتبت بمداد الدم، ورُسمت بمأساة الهمّ، ونُقشت بأوجاع الأطفال والحرم، فكان «الولاء لله» والبراءة من «أعداء الله».
وهكذا انقسمت البشرية إلى مسارين:
مسار العبودية لله جل جلاله، ومسار العبودية للشيطان، وحزب الله هم الغالبون، فهو موعودٌ بالنصر، مسددٌ من السماء، والعاقبة للمتقين.
مثلي لا يبايع مثله
فقيام الإمام الحسين(ع) وثورته لا تختص بشخصه المقدس، ولا أن قيامه كان على شخص يزيد «لعنه الله»؛ بل القيام واجب على كل من يعيش الحسين(ع) في مبادئه ومنطلقاته وأهدافه، وبما يحمله من فضائل ومعنويات إلهية، وما يمارسه من أعمال صالحة ربانية، فـ«مثل الحسين(ع)»: في كل زمان ومكان لا يمكن أن يرضى بـ«مثل يزيد» لعنه الله في الفسق و الفجور و اقتراف المعاصي واجتراح السيئات.
فثورة الإمام الحسين(ع) على كل الطواغيت!
ثورةٌ أمثورةٌ شعاع
فثورة الإمام الحسين(ع) بندائها: «مثلي لا يبايع مثله» ترسم الخط للثوار والثورات، ورفض الأطهار أن يبايعوا الأرجاس، أو أن يقبلوهم حكاماً على العباد، و يسلموهم أمر البلاد.
فكانت «الثورة الأم» في كربلاء كالشمس التي تشرق على جميع المظلومين، ليقوموا بـ«الثورات الشعاع» ويسقطوا عروش الطغاة، فكان كل ما لدينا من عاشوراء.
البراءة روح الثورة
روح الثورة والدم الجاري في عروقها هو البراءة من أعداء الله جل جلاله، وكما كان الإمام علي(ع) هو المعلن للبراءة في بيت الله تعالى عندما نزلت سورة التوبة، وكانت البراءة من الكافرين المشركين، كان الإمام الحسين(ع) هو المعلن للبراءة – بدمه وروحه وسبي حريمه – في أرض الفداء كربلاء الطفوف، وكانت البراءة هذه المرة من المنافقين، وهكذا يستمر خط الثورة باستمرار البراءة من كل الطواغيت الظالمين.
الحب والبغض في الله
إن من أوثق عُرى الإيمان: أن تحب في الله وتبغض في الله، وتعطي في الله وتمنع في الله. وكل من لم يحب على الدين، ولم يبغض على الدين فلا دين له. وفي الزيارة: «إني سلم لمن سالمكم، وحرب لمن حاربكم، وولي لمن والاكم، وعدو لمن عاداكم».
فالحب والبغض والمودة والعداوة، والولاء والبراءة .. هي أمور لابد أن تنبع من «الرؤية الكونية التوحيدية»، فتترشح على «الجوانح» لتتوشح النفس بالأخلاق والصفات الفاضلة، ثم تسري على «الجوارح» لتتجسد في العمل والممارسة الخارجية.
فنحن عبيد الله تعالى، ومقتضی عبوديتنا له وربوبيته لنا أن يكون الحب والمودة ولاء له، ولمن يأمرنا الله بحبه ومودته والولاء له، وعليه: فلا معنى لمودة «أعداء الله» والولاء للكفرة بأحكام السماء، فهم أعداء الله وأعداؤكم، فلا توالوهم، يقول الله تعالى <يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ>[1].
ولا ينبغي لمن يدين بدين التوحيد ويلتزم بشريعة سيد المرسلين، أن يقدم مصالحه الشخصية ومنافعه الدنيوية وأغراضه الحزبية على مصالح الدين والأمة الإسلامية، و ذلك من خلال عقد المعاهدات والروابط بينه أو «حزبه» وبين أعداء الله من الكفار والمنافقين! والجلوس مع أعداء الله في السر أو العلن، وإظهار التودد لهم والسعي لإرضائهم؛ كي يؤمّنوا لك ولـ«حزبك» منافع فردية أو عائلية أو حزبية، أو يدرؤوا عنك بعض الأضرار والمخاطر الدنيوية، فإن مثل هذا الأمر يعتبر من الخيانة للأمة، وهو خروج من ولاية الله ودخول في ولاية الشيطان!
إن من يعيش مثل هذه العلاقات الودية مع أعداء الله وأعداء الأمة الإسلامية، ويكيد في الخفاء ضد مصالح العباد والبلاد، هو إنسان يعيش الضلال عن سواء السبيل، والبعد عن الصراط المستقيم. <وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ>[2].
وهذا يجر إلى الغواية وعدم الوصول إلى الغاية، ويستحيل عندها تحقيق كمال الإنسانية والوصول بالأمة إلى عزها وكرامتها، وإسعاد شعبها في الدنيا والحياة الآتية، وهذا هو سر تأخر «الأمة الإسلامية» وشعوبها في مثل هذه الأيام؛ حيث تعيش الود والحب مع الاستكبار العالمي وأعداء البشرية!
حبكم لهم لا يدفع شرّهم عنكم
فأعداء الله هم أعداؤكم في إيمانكم، لا ينفع التودد لهم أو إقامة علاقات المحبة والتصالح والتعايش الدائم معهم؛ وذلك لأنهم أعداء لكم ما دمتم على إيمانكم، ومتى ما سنحت لهم الفرصة فإنهم سوف يقتلون رجالكم ويسلبون نساءكم ويروعون أطفالكم، ويذيقونكم من العذاب أصناف البلاء.
<إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً>[3] فهم لا يقابلون الحب بالحب، والمودة بالمودة، وذلك لأن قلوبهم مُلئت عليكم حقداً وبغضاً بسبب إسلامكم وإيمانكم، <وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ>[4]، فهم ينتظرون الفرصة للقضاء على الإسلام، وسلبكم نور الإيمان، وإذاقتكم الأذى حتى ترجعوا كافرين وتصيروا فاسقين .. <إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ>[5].
وهذا هو دأبهم، وهذه سنتهم وسيرتهم على العداء، وضعوا منهجهم من سالف الأزمان إلى هذه الأيام لا يكفّون عن المؤمنين، ولا يهدأ لهم عيشٌ حتى يقضوا على دين الله جل جلاله، وشريعة خاتم المرسلين(ص).
حبكم لهم موجب لغضب الله عليكم
والإنسان المؤمن في حبه وبغضه، وفي ولائه وبراءته، ناظر إلى ربه وإلى يوم آخرته، فلا يقدم نفعاً في الدنيا تكون عاقبته جهنم والنيران وسخط الرحمن.
أ فلم يسعَ البعض لتكوين علاقات المودة والمحبة مع الكفار والفسقة؟! هل من أجل تأمين بعض المصالح الشخصية أو الحزبية بتوفير حفنة من الأموال، أو حفظ الأهل والأولاد؟!
فإذا كانت العلاقات من أجل هذه المنافع الدنيوية الزائلة، من خلال هذه العلاقات المحرمة، والاتكال على شرار الناس، بدل التوكل على رب الناس، فمن الواجب أن يصحو الإنسان من سكرة هذه الدنيا والتخلص من أكدارها وآسانها، ويفتح بصيرة قلبه على الآخرة وما سوف يعانيه من أليم العذاب وشدة العقاب،بسبب هذه المودة للكفار والمحبة للمنافقين الفجّار، ليرى أن مودتهم ومحبتهم والولاء لهم هو الذي أوجب المصير إلى النار والخلود في جهنم ومقاساة أشد العذاب <لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ>[6].
فلن ينفعكم – يوم القيامة – أرحامكم ولا أولادكم الذين قدمتم حمايتهم وحفظهم من أذى الكفار من خلال المودة لهم على صيانتكم وحفظ أنفسكم من عذاب الله جل جلاله.
وعليه: لا ينبغي للإنسان المؤمن أن يخون الله جل جلاله ورسوله(ص) والمؤمنين، من خلال موالاة أعداء الله جل جلاله وأعداء الدين، من أجل الأرحام والأولاد، والمصالح الشخصية والحزبية، فليس شيء من هذا يغني من الله جل جلاله يوم القيامة!
العذاب الإلهي في الدنيا
وغضب الله جل جلاله بسبب موالاة أعداء الله لا يقتصر على الحياة الآخرة؛ بل إنه ينزل على الناس في الحياة الدنيا ليجعلهم يعيشون الشقاء والضنك وظلمة الحياة!
سنّة التعميم
إن الحب والبغض، والرضا والسخط، والولاء والبراءة، هو الذي يجمع الناس في الفعل واللعن، والعذاب الدنيوي والعذاب الأخروي! يقول الإمام علي(ع) في قصة ثمود: «أيها الناس إنما يجمع الناس الرضا والسخط وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمهم الله بالعذاب لما عموه بالرضا، فقال سبحانه: <فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ>»[7].
فالعذاب الدنيوي نزل على الجميع، على من عقر الناقة وعلى من رضي بذلك، ولم يختص العذاب بالذي باشر المعصية فحسب، والسرّ في ذلك وجود الحب والرضا بين عاقر الناقة وبقية القوم، وهذا هو الموجب لنزول العذاب على الجميع! وهذه سنّة إلهية في تعميم العذاب الدنيوي: <فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ>[8].
«الفعل والمعصية» نُسبت إلى الجميع، عاقر الناقة ومن رضي بفعله <فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا>[9]؛ حيث نُسب فعل العقر للجميع، مع أن العاقر هو رجلٌ واحدٌ، والسر في ذلك هو وجود الرضا بين عاقر الناقة والأمة، فلما رضوا بفعله كانوا معه في الفعل والمعصية! وهذه سنّة الله في تعميم الفعل.
«العذاب الأخروي» يشمل الذين باشروا المعصية ومن رضوا بفعلهم كذلك، يقول الإمام علي(ع): «إياك أن تحب أعداء الله أو تضفي ودك لغير أولياء الله، فإن من أحب قوماً حُشر معهم!».
«اللعن» والطرد من رحمة الله جل جلاله لم ينصبّ على خصوص قتلة الإمام الحسين(ع)؛ بل شمل كل من أعانهم وشايعهم ورضي بعملهم إلى يوم القيامة .. «وَلَعَنَ اللهُ اُمَّةً قَتَلَتْكُمْ وَلَعَنَ اللهُ الْمُمَهِّدينَ لَهُمْ بِالَّتمْكينِ مِنْ قِتالِكُمْ» وفي موضع آخر «اللهُمَّ الْعَنِ العِصابَةَ الَّتِي جاهَدَتِ الْحُسَيْنَ عَلَيْهِ السَّلأم وَشايَعَتْ وَبايَعَتْ وَتابَعَتْ عَلَى قَتْلِهِ. اللهُمَّ الْعَنْهم جَميعاً».
إنها سنّة التعميم – في اللعن – النابعة من الحب والبغض والولاء والبراءة.
القرب الإلهي في البراءة والولاء
إن التقرب إلى الله تعالى يكون بالطاعات واجتناب المحرمات والموبقات، والولاء لأولياء الله والبراءة من أعداء الله من أعظم ما يتقرب إلى الله به .. «اللهُمَّ إنِّي أتَقَرَّبُّ إلَيْكَ في هذَا اليَوْمِ، وَفِي مَوْقِفِي هَذا، وَأيَّامِ حَيَاتِي بِالبَرَاءَةِ مِنْهُمْ، وَاللعْنَةِ عَلَيْهِمْ، وَبِالْمُوالاةِ لِنَبِيِّكَ وَآلِ نَبِيِّكَ عَلَيِه وعَلَيْهِمُ السَّلامُ»[10].
دعاء أهل الثغور بين البراءة والولاء
إن هذا الدعاء العظيم للإمام زین العابدين(ع) يسطّر لنا أبهى الصور المشرقة والتعاليم الربانية للبراءة والولاء، حيث:
يعيش الإنسان مشاعر المجاهدين ونضال المضحين، ويدعو لهم بالتوفيق والتسديد والنصر على عدوهم «وَكَثِّرْ عِدَّتَهُمْ، وَاشْحَذْ أَسْلِحَتَهُمْ، وَاحْرُسْ حَوْزَتَهُمْ، وَامْنَعْ حَوْمَتَهُمْ، وَأَلِّفْ جَمْعَهُمْ، وَدَبِّرْ أَمْرَهُمْ، وَوَاتِرْ بَيْنَ مِيَرِهِمْ، وَتَوَحَّدْ بِكِفَايَةِ مَؤَنِهِمْ، وَاعْضُدْهُمْ بِالنَّصْرِ، وَأَعْنِهُمْ بِالصَّبْرِ، وَالْطُفْ لَهُمْ فِي الْمَكْرِ».
يدعو(ع) على أعداء الله بأشد العذاب، وأن ينزل عليهم أصناف البلاءحتى يرجعوا منهزمين مخذولين «اللَّهُمَّ افْلُلْ بِذَلِـكَ عَدُوَّهُمْ، وَاقْلِمْ عَنْهُمْ أَظْفَارَهُمْ، وَفَرِّقْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَسْلِحَتِهِمْ، وَاخْلَعْ وَثَائِقَ أَفْئِدَتِهِمْ، وَبَاعِدْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَزْوِدَتِهِمْ، وَحَيِّرْهُمْ فِي سُبُلِهِمْ، وَضَلِّلْهُمْ عَنْ وَجْهِهِمْ، وَاقْطَعْ عَنْهُمُ الْمَدَدَ وَانْقُصْ مِنْهُمُ الْعَدَدَ، وَامْلاْ أَفْئِدَتَهُمُ الرُّعْبَ، وَاقْبِضْ أَيْـدِيَهُمْ عَنِ البَسْطِ، وَاخْزِمْ أَلْسِنَتَهُمْ عَنِ النُّطْقِ، وَشَـرِّدْ بهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ، وَنَكِّـلْ بِهِمْ مَنْ وَرَاءَهُمْ، وَاقْـطَعْ بِخِزْيِهِمْ أَطْمَـاعَ مَنْ بَعْدَهُمْ».
بل إنه(ع) يواصل الدعاء على أعداء الله جل جلاله، ويدعو على نسائهم وأرحامهم وطعامهم وشرابهم «اللَّهُمَّ عَقِّمْ أَرْحَامَ نِسَائِهِمْ، وَيَبِّسْ أَصْلاَبَ رِجَالِهِمْ، وَاقْطَعْ نَسْلَ دَوَابِّهِمْ وَأَنْعَامِهِمْ، لاَ تَأذَنْ لِسَمَائِهِمْ فِي قَطْر وَلاَ لارْضِهِمْ فِي نَبَات».
والسر في كل ما تقدم من الدعاء بالرحمة للمؤمنين والعذاب على الكافرين هو أن يسود الدين ولا يعبد إلا الله جل جلاله، فلا يطاع ولا يصمد إلا إليه وحده لا شريك له، حتى لا يعبد في بقاع الأرض دونه، ولا تعفار لأحد منهم جهة دونه، حتى يهتدي الناس بنور الإسلام، ويفوزوا بسعادة الدارين الدنيا والآخرة.
تعليق واحد