مواضيع

مواطن القصور في مفهوم السلميّة المطلقة

إن المفهوم المطلق للسلمية لم يكن بمقدروه الإجابة على بعض الإشكالات حوله، أو أن يلبّي الحاجات الموضوعية للثورة الشعبية في البحرين في مرحلة لاحقة من الثورة بسبب:

أولاً: أن النظام استطاع مصادرة الزخم الثوري الشعبي الذي كان يجمع مئات الآلاف من المواطنين في تظاهرة واحدة، من خلال وسائل منها: القتل العشوائي، والقمع والاعتقال، وترهيب بعض الجمعيات السياسية والنقابات العمالية لفك الإضراب عن العمل، كما أن النظام نجح في ضبط إيقاع الجمعيات التي نأت بنفسها عن التصعيد في الخطاب السياسي والمطالب والفعاليات الاحتجاجية، ونتيجة لذلك استشعرت بعض القوى في الساحة الحاجة لوسائل ضغط جديدة على النظام تعوّض افتقاد الساحة للفعاليات الجماهيرية الكبرى.

ثانياً: إن النظام استطاع أن يتعافى من حالة اللاتوازن قبال المد الشعبي الثوري، وأعاد استخدام الوسائل القمعية القديمة وبوتيرة أشد، في الوقت الذي استشعرت فيه شرائح شعبية كثيرة أن الدعوات في الساحة بالتزام السلمية المطلقة لا تنسجم مع الواقع والفطرة الإنسانية والعرف الدولي في الاحتجاجات.

ثالثاً: إن تمادي النظام الحاكم في جرائمه كان غير مسبوق، حيث أقدم النظام على ارتكاب الجرائم الفادحة ضد الإنسانية والدين، مما خلق واقعاً جديداً وعناوين دينية جديدة على الساحة لم تكن حينها موجودة عند انطلاق ثورة 14 فبراير، من قبيل «الوظيفة الشرعية للمؤمنين قبال الاعتداء على بيوت الله وأعراض المسلمين»، وغير ذلك من المواضيع والعناوين الناتجة من تطورات الصراع بين الشعب والنظام الحاكم، مما استدعى – بمقتضى الحال وضرورته – تفسيراً وفهماً أشمل وأوضح لمفهوم السلمية من المنظور القرآني على اعتبار أن الساحة الثورية أصبحت منشغلة بفهم النظرة الدينية للمقاومة المشروعة وللسلمية وحدودها وغاياتها.

رابعاً: إن من طرحوا وجوب تبنّي السلمية كخيار استراتيجي اعتمدوا على دعوى أن المنهج السلمي هو المعتمد دولياً على المستوى الشرعي والقانوني والحقوقي، وأن العمل بما يخالف هذا المنهج يعني فقدان الشرعية والتعاطف على المستوى الدولي، كما أغفل هؤلاء – قاصرين أو مقصرين – عن أصالة مفهوم «المقاومة المدنية والمسلّحة» في القانون والعرف الدولي كبديل لمفهوم السلمية حين تفشل وحدها في تحقيق أهدافها، فمفهوم «المقاومة المدنية والمسلحة» قد وُلِد من رحم ظلم الاحتلال والاستعمار ويعني: انطلاق حركة جماهيريّة على مستوى واسع تتخذ المقاومة والسلاح وسيلة للتحرّر من الاستعمار أو الاحتلال أو الأنظمة الفاسدة، ويعدّ «الكفاح المسلّح» أحد الخيارات التي تلجأ إليها الشعوب والأحزاب السياسية والجماعات الثورية، كأداة ضمن أدوات عدة، ولها ساحاتها التي لا تنتقص من مفهوم السلمية ولا تناقض مفهومها الذي له ساحته ومجال عمله المناسب، وينطبق ذلك أيضاً على مفهوم «المقاومة الشّعبية» كأداة أخرى، والتي تقوم على انخراط المجاميع الشعبية في فعل المقاومة المدنية ولكن بوسائل سلمية، كالانتفاضات والإضرابات والعصيان المدني وغيرها من الأشكال، والتي أثبتت جدارتها في تحقيق بعض الأهداف الملموسة كما حدث في الهند عند مواجهة الاحتلال البريطاني بقيادة غاندي.

يقول الأستاذ عبدالوهاب حسين: «المقابلة بين المرونة والعنف في محلها، ولكن وضعهما في سياق الجهاد السلمي والجهاد المسلح غير صحيح، ولا يدل على فهم دقيق لمعنى العنف، فمعنى العنف في اللغة: الغلضة والقسوة، ومعناه في الاصطلاح (حسب فهمي الخاص): الاستخدام غير المشروع للقوة، وعليه يخرج عن دائرة العنف، مثلاً: كل كفاح مسلح ضد الاستعمار، وكل استخدام للقوة بأساليب شرعية في الإصلاحات الداخلية والمطالبة بالحقوق الشعبية العادلة، إذا كانت راجحة بدرجة كبيرة، وعجزت الأساليب السلمية عن تحقيقها، وأغلقت السلطات أمامها أبواب الحوار.

كما يخرج عن دائرة العنف: إقامة الحدود والقصاص التي قال الله تعالى عنها: <وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ>[1]، ويدخل في العنف الإرهاب السياسي الذي يعني إلغاء الآخر بأساليب الضغط غير المشروعة، وتدخل فيه الاغتيالات السياسية للمعارضين خارج دائرة القانون، وكل العنف (حسب التعريف السابق) حرام في الشريعة الإسلامية»[2].


  • [1]. البقرة: 179
  • [2]. كتاب ذاكرة شعب، جزء 1، الأستاذ عبدالوهاب حسين، صفحة 41، دار العصمة – البحرين

المصدر
كتاب تيار الوفاء الإسلامي .. المنهج الرؤية الطموح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟