مواضيع

شهادات السجناء في أحداث سجن جو

– إفادة أحمد العرب: جراحٌ غائرة

      في العاشر من مارس ٢٠١٥م، وبعد صلاة الظهرين مباشرة، وبينما كنا في الساحة الخارجية للعنبر (مبنى ٤)، وصلنا خبر اعتداءٍ على امرأة من ذوي أحد المعتقلين في مبنانا، مبنى رقم واحد.

      فجأة، عمّ النفير في السجن. بدأ ذلك مع الشباب في مبنى ٤ ثم انتقلت العدوى إلى بقية المباني. خلال دقائق، كانت أول الخطوات في تصاعد الأحداث هو طرْد الشرطة من داخل المباني. تمّ ذلك دون أدنى جهد، حيث هرب الشرطة دون مقاومة، وبعدها سيطر الغضبُ على الجميع، وبدأ الشباب بخطوات السيطرة على المباني من خلال إحكام الابواب وتكسير مرافق العنابر وإشعال حريق في منتصف الساحة الخارجية، قبل أن ينتقلوا إلى أسطح المباني معلنين السيطرة التامة.

      وتمكّن شباب مبنى ٣ و ٦ – الصغار في السن – من نقل المواجهات إلى خارج مبانيهم، ومن ثم الرجوع الى داخل المباني بعد كرٍّ وفرّ مع الشرطة المذهولين ممّا يحصل.

      بعد مرور ما يقارب النصف ساعة؛ وصلت قوات سافرة وقوات الدرك الأردني إلى السجن، وحصل استنفار كبير، في حين واصل الشّباب المقاومة من أسطح المباني، بما في حوزتهم من أدوات للدفاع.  وقد تركّزت مقاومة الشباب على قناني الماء.

     لم يتأخّر الوقت، حتّى قامت قوات الشرطة والشغب باقتحام مبنى رقم ٤ بعد أن فشلوا في ذلك بعد محاولتين لاقتحامه. خرجوا وعليهم الذّلة، وبينهم إصابات بليغة. بعدها، قاموا بتسلّق أعلى مبنى ٤ من الخارج بعد أن أطلقوا الغاز المسيل للدّموع لتفريق الشباب. أطلقوا كمياتٍ غزيرة. بعد أن دخلوا المبنى؛ بدأ رنين القنابل الصوتيّة ورصاص الشوزن يعم المبنى.

    أخرجوا السجناء إلى الساحة الخارجيّة وهم يُشبعونهم ضربا بالهراوات والإهانات والشتائم. تنقلوا من مبنى إلى آخر، حتى كان مبنانا آخر المباني التي تم اقتحامها.

    منذ صلاة الظهرين وحتى العاشرة والنصف ليلاً؛ كان الترقّب سيّد الموقف، وذلك لهوْل ما رأيناه وسمعناه من صراخ الشّباب في المباني الأخرى. إلى أن آن الأوان! واقتحموا المبنى الذي أُحكمت أبوابه بشدّة، حيث اضطر القوات إلى استعمال منشار آلي لقطع الباب.

وينه أولاد المتعة!

     لحظات فقط واستطاعوا الدّخول مع خطة مسبقةٍ لطريقة الهجوم. قاموا بتوزيع أنفسهم إلى صفّين، على طول الممر الطويل، وأخرجوا الشّباب واحدا تلو الآخر، مع إجبارهم على الركض بينهم، لكي يقوم كل واحد من القوات بضربه بالهراوات. استمر ذلك إلى أن اكتمل عددنا جميعا في الساحة الخارجية.

     كان أوّل صراخ سمعناه منهم هو قولهم: “وينه ولاد المتعة”. شُتمنا بأفظع الألفاظ، وتم تفريق السجناء السنة عنّا. وأكثرهم (٩٩٪) من الأجانب. هكذا كان معيار قوات السجن، وهذا هو مقياسهم: “شيعة روافض مجوس، وسنّة أخوان مكرمون”.

   وبينما نحن كذلك، جاء شرطي من الإدارة ومعه قائمة من الأسماء. كان أوّلها سماحة المجاهد العلامة الشيخ محمد علي المحفوظ، وكذلك اسم سماحة السيد أحمد الماجد، والشيخ زهير عاشور، وآخرين.

    تمّ أخذهم إلى مبنى رقم ١٠ المستحدث، وكان سبب نقلهم إلى هناك هو اتهامهم بأنهم محرّضون. وجرت هذه العملية في كل المباني.

    مضى الليل في هذه الأجواء السوداء. بقينا في العراء حيث الجو البارد. كنا حفاة، متكدسين على بعضنا البعض في أطراف الساحة، دون حراك. ممنوعون حتى من دورة المياه. دون أكل، ودون ماء.

     ما أن حلّ الصباح، ومع بزوغ الفجر، بدت نواياهم الحاقدة. قاموا بتفتيش العنابر وتكسيرها، وتمزيق المصاحف وكتب الأدعية، لم يكونوا يتورّعون عن فعل أفظع الجرائم. وما أن انتهوا من ذلك، حتى بدأوا بسحب واحد تلو الآخر، بشكل ممنهج، وأدخلوهم داخل العنبر لتعذيبهم بأبشع الوسائل. كانوا يجبروهم على إخراج الهواتف النقالة التي كان يهرّبها الشباب، أو تلك التي كانوا يحصلون عليها عن طريق رشوة أحد الشرطة (المرتزقة).

     كان اختيار الأشخاص يتم من قبل الإدارة التي جنّدت العديد من المخبرين داخل العنابر. كانوا يدخلون السجناء إلى داخل العنبر، ويجرون عليهم العذاب باستعمال الهراوات والأسلاك والضرب العشوائي. وصلت أساليبهم إلى حدّ تعرية الشباب والتحرش بهم.

    في اليوم التالي؛ زادت أساليبهم وحشية، وكانوا يختارون أشخاص تحدّدهم الإدارة بناءا على  “سوابق” مخالفات عليهم. مسلسل متواصل من التّشفي والحقد الدفين لم ينقطع طيلة اليوم.

     حين جنّ الليل، حسبنا أن الأمور ستهدأ، ولكن المسلسل لم ينته بعد! أمروا بحلاقة رؤوس جميع المعتقلين، وحلق لحاهم. وويلٌ لمنْ يحين دوره للحلاقة! فما إن يتوجّه إلى داخل الممر المؤدي إلى الحلاق حتى يتم ضربه وإجباره على الزّحف، إلى أن يصل إلى الحلاّق. وهكذا استمرّ الوضع بعد الانتهاء من الحلاقة أيضاً.

  وفي اليوم الثالث؛ كانت المجزرة الكبرى في ساحة المبنى! حيث تفنّنوا – منذ ساعة الفجر الأولى حتى الظهر- بتعذيب السجناء الشيعة جميعا، دون ذنب أو جرم أو تهمة. كانت التهمة هو أنهم “شيعة رافضة مجوس”.

    كانت أساليب التعذيب لا تُحصى. يجبرون الشباب على تقليد الكلاب، حركةً وصوتا. وإجبارهم على الزحف على بطونهم، مع ضربهم أثناء الزحف. وإجبارهم على الدحرجة حتى يتوقفوا مجبرين بسبب الدوار والغثيان. كان التعذيب يتمّ بكلّ ما في حوزة القوات من أسلاك وهراوات وأهواز. وكانوا لا يكفّون عن الشتم والإهانات والشماتة. مضت الساعات على هذه الحال، حتى تساقط الشباب واحد تلو الآخر مغشى عليهم.

     انتهت المجزرة بقدوم أحد المسؤولين الكبار الذي ادّعى بأنه لا يعلم بشيء. وفي الحقيقة، جاء لتبدأ المرحلة الثانية من العذاب.

مرحلة الخيام

     تمّ نقلنا في باصات إلى الساحة الخارجية لمبنى رقم ٣ حيث نُصبت هناك خيمة كبيرة. تمّ إدخالنا إلى داخل الخيمة، وكنّا – كما نحن دائما – متفائلين بأن تكون هذه محطة الفرج، ولكن خاب تفاؤلنا! فقد كانت أفجع وأطول مرحلة.

    ثمان وخمسون يوما من العذاب، كانت بدايتها في هذه الخيمة. بقينا فيها لمدة ثلاثة أيام، قبل أن يتم نقلنا إلى خيمةٍ نُصبت في ساحة مبنى رقم ٦. كان الوضع مأساوياً جدا. لا الليل ليل، ولا النهار نهار. كان الشرطة والمرتزقة الأردنيون يتعمدون إهانتنا وإذلالنا وتعذيبنا.

    تعددت الأسباب، وتعدّدت الأساليب. بعضهم كان يأتي في مجموعةٍ من المرتزقة ويسأل عن أبناء منطقة معينة ليتمّ إخراجهم وتعذيبهم لمجرد أنهم من هذه المنطقة. و آخرون يأتون لإخراج أحد السجناء الذي حصلت بينهم و بينه مشادة في فترات سابقة. آخرون يأتون بناءا على القضايا المتعارف عليها، وخصوصا قضايا القتل، حتى وإن كانت تعود لزمن طويل. وصل الحال بهم إلى أن أحدهم كان يجول رفقة المرتزقة ويتأمل في وجوه السجناء، ويتوقف عند أحدهم ويقول له: “شكلك مو عاجبني”، ليبدأ في تعذيبه بعد ذلك.

أساليب التعذيب: تقبيل أحذية المرتزقة

    كانت أساليبهم في التعذيب هي ذاتها: من إجبارٍ على الزّحف على البطون، والدحرجة، وتقليد الحيوانات، والسّب والشتم. وزادوا أساليب أخرى حيث يتم تعليق الشخص بما يسمى (فيلقة) لمدة ساعات، وأخذ الشخص إلى مبنى الإدارة وتصميده وتعليقه والتفنن بتعذيبه لساعات، أو إجبار الشخص على الوقوف رافعا إحدى رجليه ويديه الاثنتين حتى يسقط من التعب، أو إجبارهم على الانبطاح على الأرض أمام أرجل أحد المرتزقة.

    وقد وصل بهم الأمرُ إلى حدّ إجبار الشّخص على تقبيل احذيتهم. وكان أكثر السجناء تعرّضاً للتعذيب هم أصحاب القضايا في فترة ما يُسمى “السلامة الوطنية”، وبالخصوص المتهمون في قضية دهس المرتزق كاشف، حيث كانوا يُعذبون طوال اليوم. كما تم استهداف صاحب الثالثة والخمسين عاما، شقيق المرأة التي انتفض بسبب الاعتداء عليها سجن جو. ومن شدة ما تعرَّض له من تعذيب؛ أصيب بوضع نفسي عصيب، و قاموا بإعاقته بعد كسر حوضه. هذا مختصر المختصر بالنسبة للحالات الخاصة.

أطباء وممرضون في زيّ الجلادين

      أما الحالات العامة من أنواع التعذيب والتي تطال الجميع، فهي تشمل ما يلي:

      إجبار الجميع على الخروج في طابورٍ منتظم. كل شخص حسب رقمه و ترتيبه. وإجبارنا على الصراخ برقمنا مع كلمة “سيدي”، وما أن ننتهي من ذلك حتى يتم إجبارنا على الركض حول الخيمة حفاة الأقدام، في ظل البرد القارص. ومن ثم يأتي الإذلال الممنهج في الانتظار الطويل في طابور الحمام. حمامان فقط يستعمل ٢٦٠ شخصاً!

    كنّا نُجبر على الوقوف قبال الحائط، دون أيّ همس أو نفَس، إلى حين الوصول إلى الحمام. وهناك نُمنح فقط نصف دقيقة لقضاء الحاجة، مع سيل من الإهانات والشتائم. كنّا نتعرّض لكلّ ذلك في كل وقت، بما في ذلك حين نؤدي فرائض الصلاة.

     بعدها يأتي دور طابور الإفطار. القوات كانت تُجبرنا على أن نقف في الطابور، وأيدينا على الرؤوس، مع إلزامنا بإنهاء الوجبة في زمنٍ قياسي، وفي العراء، قبل التوجّه نحو داخل الخيمة. وبعد ساعة، يتواصل مسلسل الإجبار على الخروج في طابور، والجلوس تحت أشعة الشمس والغبار لساعات، دون حراك، مع حرمان انتقاميّ من دورة المياه.

    هي طوابير لا تنتهي من الانتظار المهين. يتجدّد طابور آخر في المساء. ساعات أخرى من الإهانات، ومن الحرمان من النوم. مع اختيار عشوائي لبعض السجناء لتعذيبهم وإمطارهم بالإهانة المعهودة من أفواه الوحوش. وحين يضطرون لنقل أحدهم إلى العيادة الخاصة في السجن؛ فإنه ينال نصيبا إضافيا من الضرب والإهانة، يتشارك في تنفيذه الممرضون والأطباء، الذين يخلعون الرداء الأبيض ويرتدون زيّ الجلادين.

شرور مسؤولي النوبات

     كان كلّ مسؤولي النوبات يأتون وعلى أكتافهم الشّرور. كانوا يختارون أشخاصا معينين حسب مزاجهم، ويمضون السهرة معهم في وجبات لا تنتهي من التعذيب والإهانات. في نوبات أخرى يتم أخذ أسماء أشخاص من قوائم المخبرين، ومنهم الذين أحيلوا إلى النيابة العامة للتحقيق حول أحداث السجن.

      مع مرور الوقت، أُفتتحت كابينة اتصال يُسمح فيها للشخص بالاتصال بأهله لمدة دقائق معدودات. ولكن الويل لمنْ تُمنّيه نفسه بالاتصال! كان الطريق إلى هذه الكابينة يُشبه الذهاب، مع سبق الإصرار، إلى وكر التعذيب.

      في فترة لاحقة، سُمح للزيارات العائلية، وبدأت “التحركات” المعتادة باتجاه المحاكم، ونقل المرضى إلى مواعيدهم في المستشفيات. ولكن ذلك لم يخل من انتقام أيضا. كانت هناك ١٥ قطعة فقط من الملابس المخصصة للزيارات والخروج للمواعيد خارج السجن، والتي كنّا نُجبر على ارتدائها. كنا نذهب إلى الزيارات أو المحاكم أو المستشفيات دون استحمام. كان الاستحمام جماعيا، ويتم في وقت الظهيرة، ولا يُسمح إلا باستعمال الماء فقط. وكان يتوجب علينا ارتداء الملابس نفسها التي كانت علينا، حيث لم نكن نملك غيرها. كنا نضطر للذهاب إلى الزّيارات والخروج لمواعيد المستشفى والمحاكم رغم ما نعانيه من تعذيب. كنّا نريد أن نطمئن أهالينا، وأن نتزوّد بأخبار أحبتنا في بقية المباني. كنا نعتبر ذلك نوعا من التضحية المتبادلة.

    من بين المآسي الآخرين تلك التي يعانيها السجناء الجُدد الذين يتم إحضارهم إلى السجن. فور استلامهم من الجلاوزة، ينهال عليهم أشد العذاب. كانوا يخصّصون هذا الاستقبال الخاص للسجناء الشيعة الذين يعتبرهم المرتزقة “كفارا ومجوسا”.

أحوال المباني الأخرى: الشّر يعمّ على الجميع

   في الخيمة المخصصة لصغار السّن، من سجناء مبنى ٦ و٣، مارس المرتزقة فنونا أخرى من الإجرام والدناءة. كانوا يعرّون السجناء من ملابسهم، ويتحرشون بهم جنسيا. في بعض الحالات كان ثمة اغتصاب أيضا. الأشد من ذلك، كانوا يجبرون البعض على التحرّش بزملائهم السجناء. منْ يمتنع عن ذلك يكون قد اختار الويل والثبور من أكثر الخلق شّرا وإجراما.

    في مبنى ١٠ كان السجناء يقاسون أشد أنواع التعذيب والحرمان. هناك “توصية” على هؤلاء من كبار المسؤولين. كان من بين السجناء في هذا المبنى علماء دين، وعلى رأسهم العلامة الشيخ المحفوظ. كانوا يُجبرَون على نُجبر عليهم. تعرضوا للإهانة بحلق الرأس واللحية بالكامل. حوصروا بالإهانة من خلال إلزامهم بإنشاد النشيد “الوطني” بصوت مرتفع. كان لوناً من البشاعة التي تفوق سوادَ الليل وقساوة الحجارة.

   ومن الحوادث الاستثنائية التي وقعت في مبنى ٤، أنّ مشادةً وقعت بين عنصر من المرتزقة وأحد المعتقلين الذي قام بضرب المرتزق. هذا المرتزق قام بإلقاء قنبلة صوتية داخل الخيمة، وتم إخراج جميع السجناء الشيعة، الكبير والصغير، وبينهم الشيخ علي المسترشد، وأجبروا على نزع ملابسهم كلها، عدا الملابس الداخلية، وأجبروهم على التدحرج والزحف أرضاً. كانوا يسكبون عليهم الماء البارد وهم على هذه الحال، مع وجبات لا تنقطع من الضرب بالأسلاك والأهواز والهراوات، وسيلٍ فاحش من السباب والشتائم.

     كلّ ما ذكرته هو عبارة عن موجز الموجز، ومختصر المختصر لعنوان عريض اسمه: أحداث ١٠ مارس، والتي يعجز عن تدوين تفاصيلها أيّ شخص. ما جرى خلال ٦٠ يوماً وأكثر كان معاناة ومأساة وعذابا خرقَ أجسادنا وأرواحنا، ولازالت جراحها غائرة حتى اليوم

المصدر
كتاب زفرات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟