الشهيد رضا الغسرة.. راوياً للزفرات البطولية ( افادة الشهيد )
نحتفي في هذا الإصدار بالإفادة الخاصة والمطوَّلة التي قدّمها الشهيد رضا الغسرة لأحداثِ سجن جو، وهي إفادة وفّرها الشهيد عبر تسجيل صوتي خاص وطويل معه قبل استشهاده بأيام، وبعد نجاحه الجديد في الهروب من سجن جو في الأول من يناير ٢٠١٧م.
في هذه الإفادة؛ قدّم الشهيد معلوماتٍ هامة حول أحداث مارس، كما تطرّق إلى تفاصيل تُنشر لأول مرة حول تلك الأحداث، وحول بعض أبطالها، وبينهم شهداء الإعدام سامي مشيمع، عباس السميع، وعلي السنكيس. وتمثل إفادة الشهيد الغسرة اختصاراً للبطولةِ داخل السجون الخليفيّة، وتعكس المعدنَ الأصيل للسجناء الأحرار وهم يواجهون الجلادين والمرتزقة.
بداية العاصفة
أبدأ باسم الله وبالصلاة على رسوله وأهل بيته الطيبين الطاهرين
كانت الأحداثُ في السجن تنشبُ بين فترةٍ وأخرى. كان المشهد معهوداً، وحتى قبل أن تنفجر الأوضاع على المستوى الذي كانت عليه في ١٠ مارس ٢٠١٥. حين كنّا في مبنى العزل، كنّا نسمعُ ونعاين ونتابع ما يجري، وخاصة المبنى رقم ٦ (المخصّص للبالغين سن ١٨ سنة إلى سنّ العشرين)، وكذلك مبنى رقم ٣ (المخصّص للأعمار ١٨ لما هو أدنى). السجناء من هذه الأعمار إقدامهم أكثر، وحماسهم أكبر، وعادةً ما تكون ردات فعلهم سريعة. وقد أثبتوا شجاعةً لافتة. ونظرا للظروف القاهرة، فقد كانوا معروفين بالتمرد. كان مبنى رقم ٣ معروفا بكثرة الأحداث، وغالبا ما يُسمع دوّي صفارات الإنذار هناك. باختصار، فإن المشاكل في هذا المبنى كانت شبه روتينية.
في يوم الأحداث، ١٠ مارس، كنا في مبنى العزل. انتهينا من تناول وجبة الغذاء، حيث كانت الزنازن حينها مفتوحة على بعضها في وقت الوجبة. عدت إلى الزنزانة لأخذ قسط من الراحة والنوم قليلا. وقبل ذلك أجريت محادثة مع أحد الأصدقاء المتواجدين خارج البحرين. كانت المحادثة بواسطة هاتف بحوزتي تم تهريبه. استلقيت على السرير، على أمل أن يأخذني الإستلقاء إلى نوم سريع. في الأثناء، سمعتُ بعض أصوات الصراخ والتكسير. كان ضرباً يتوالى على الأبواب، وكأن هتافات بدأت تطرق الأسماع. في الوهلة الأولى، لم أعر الأمر أي اهتمام بالغ. لا شك أنها مشكلة عابرة معتادة في مبنى رقم ٣.
تحسّستُ مكان نومي على أمل الاستسلام إلى النوم. ولكن فتحت الهاتف، وعرفت من الأخبار أن قوات المرتزقة هاجمت مبنى ٣. كانت الأخبار تتوالى بكثرة، ولكن لم تكن الصورة واضحة ودقيقة بالنسبة لي.
الهواتف المهرَّبة والأخبار المسربة
كانت الهواتف منتشرة في ذلك الوقت بحوزة المعتقلين. الكثير من الأخبار المتداولة لم تكن دقيقة. فهناك المئات من المعتقلين، من مختلف الشرائح والمستويات، والهواتف المهرّبة متاحة لكل هؤلاء، حتى أن بعضهم أنشأ حسابات خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي. الأخبار بعضها مبالغ فيها، أو ناقصة، وفي بعض الأحيان متضاربة. كان ذلك طبيعيا بسبب غياب الخبرة لدى بعض المدونين، كما أن بعضهم لا يملك رؤية واضحة لكيفية الاستفادة من هذه الأجهزة.
ولأنني كنت استعمل هاتفي في التواصل مع بعض المعتقلين في سجن جو، ومنهم سجناء في مبنى ٣. وحيث أني لم أستلم ذلك اليوم رسالة منهم بشأن ما يجري في السجن، فلم أكن متحمّساً، في باديء الأمر، لاستطلاع ما يجري.
سيطرة السجناء على مبنى ٣
تغيّر اتجاه الاهتمام فجأة. ارتفعت الأصوات، وبدأت المؤشرات توحي بأن الأمر غير اعتيادي. كان عليّ أن أتحقّق بنفسي مما يجري. لحسن المصادفة، فقد كانت القاعة الخارجية لمبنى العزل مفتوحة، وكذلك كانت أبواب الزنازن. لم تكن الصالة الخارجية والزنازين تُفتح على الدّوام، والأمر في ذلك يخضع لمزاج قوات السجن.
كان من الواضح أن الفوضى عمّت الأرجاء. الخوف الذي ذبّ في نفوس المرتزقة لم يسنح لهم بإغلاق باب الصالة أو أبواب الزنازن. كما أن بعضهم فرّ هارباً خارج المباني.
ذهبت لأسترقّ النظر من بعض الفتحات الصغيرة التي كانت في باب الصالة المُطل على العنبر الشمالي (عنبر١). لقد غمرتني الدهشةُ وأنا أرى بعضَ الشباب يفترض أن يكونوا في عنبرٍ آخر. ناديتُ عليهم وسألتهم عمّا يجري. أخبروني أن مبنى ٣ ومبنى ٤ تمت السيطرة عليهما. أضاف أحدهم: “إن حالة الغضب تعمّ المكان”. سألت عن سبب ذلك، فقيل لي أن المرتزقة اعتدت على إحدى النساء أثناء الزيارات العائلية، وقد غضب السجناء لأجل ذلك، وإلى أن تدحرجت الأحداث مثل كرة النار.
المرأة التي تمّ الاعتداء عليها هي شقيقة حسين، المعروف بـ”الضخم”. وهو شقيق الشهيد أحمد عبد النبي، وخال الشهيد علي عبد الغني، وابن خالة الشهيد عيسى قمبر. وحسين هو أحد المعتقلين القدماء، ويمتاز بخفّة دمّه وصفاء سريرته، كما أن قلبه عامر بالإيمان، وهو أحد ضحايا بطش النظام الخليفيّ المجرم.
في فورة الأحداث، سألني الشباب المتجمهر في الخارج عمّا إذا كنّا نريد أن يُفتح لنا باب العزل. لم أتردّد في الإجابة، وقلت لهم على الفور: “نعم.. افتحوه!”. حسين البناء أيّد فتح الباب، وكذلك فهد، غير أن ماهر الخباز لم يكن مطمئنا للعواقب نتيجة إلى التجارب السّابقة، ولكنه لم يعترض على فتح الباب.
خطة هروب جماعية في فورة الأحداث
فُتح باب العزل، وخرجت بسرعةٍ لاستكشاف محيط السجن. كنتُ أرمق البصرَ في كل الاتجاهات. الخطة الآن هي التفكير في هروب جماعي، وبأكبر عددٍ ممكن. استعنتُ ببعض الشباب لمعرفة حجم الإستنفار الأمني. صعد بعضهم إلى سطح المبنى ليستكشف الأحوال عن كثب، وأكدوا لي بأن القوات قليلة جدا، وهم يحاولون السيطرة على الأوضاع قبل أن تكبر، وخوفاً من الإجراءات التي قد تُتخذ ضدهم. حتى أن مدير السجن لم يُبلّغ وزارة الداخلية في بداية الأمر خشية أن يلحقه إجراء عقابي من قِبل الوزير.
لكي أكون على بيّنة أكثر من المشهد؛ صعدتُ إلى سطح المبنى، وتيقّنتُ أن قوات المرتزقة ليست متأهّبة للحدث. كان الإرباك يحاصرها من كلّ الزوايا، ولم تكن تحمل أسلحة. لقد جاءت انتفاضة السجناء مفاجئةً للجميع.
خاطبتُ الشباب وقلت لهم: “الهدف يجب أن يكون نحو تكسير القيود، نحو التحرّر والحرية. لا ينبغي أن نكتفي فقط بإظهار الإحتجاج”.
بعد حديث لم يطل كثيرا بيننا؛ أعددنا خطةً طارئة للإستفادة من انفلات الوضع، والقيام بمباغتةٍ هجومية على مكان “الكونتر”، على أن يكون طريق الخروج من مبنى ١ (الأقرب إلى البوابة الرئيسية لمعسكر جو). كان الطموحُ أن يكون الهروب جماعياً، ولمئات السجناء. أما وسيلة النقل إلى داخل المناطق في البحرين؛ فلها خيارات متعدّدة جرى وضعها في الاعتبار.
كنّا جادين في الأمر، وعاقدين العزم على تنفيذ الخطة. على المستوى الشخصي؛ فقد كنتُ أرجحّ أن أتعرّض للتعذيب في حال تمّ القبض عليّ أثناء محاولة الهروب، بل وأنْ أستشهد أثنائها، على أن يتم تعذيبي بدون القيام بهذا الأمر. وقد كنا ندرك أن القوات بعد أن تسيطر على الأوضاع ستقوم بالإنتقام من الجميع. لم أكن أتمنى أن يتم تعذيبي لمجرد إظهار الإحتجاج، وكيف والظرف كان مؤاتيا لتنفيذ هروبٍ آخر من السّجن!
في كل الأحوال، اتفقنا ضمن مجموعةٍ من الشباب على خطّة الهروب الطارئة، وكنا نحسبُ أنه فوْر قيامنا بمباغتةٍ هجومية فسوف يلتحق بنا الكثيرون.
انتقلنا بهدوءٍ ناحية “الكونتر”، ولكنه كان مقفلا، وكانت المفاتيح بحوزة بعض السجناء. في هذه الأثناء حدثَ جدل بين الأخوة، فذهبت ريحنا، وصعُبت علينا المهمة وفق الخطة المرسومة.
ناقشنا خطةً أخرى لمحاولة الهروب، فاقترح أحدهم أن يكون الهجوم من سطح المبنى، غير أن هذه الخطة لم تكن واقعية، فليس من المتاح تنفيذها على طريقة المباغتة الجماعية، وسوف يكون من السهل على القوات إلقاء القبض علينا، حيث أن القفز من أعلى سطح المبنى لن يكون مثل الهجوم الجماعي، كما أن بقية السجناء لن يلتحقوا بنا بهذه الطريقة.
كان عزمُ الشباب فولاذياً وقوياً، وقد تمكّنوا من كسْر بابٍ حديدي بواسطة الدّفع المتكرر والهزّات القوية.
لجأنا بعدها إلى أحد أبواب الطوارىء الخلفية، على أمل أن نقوم بذات الخطة المعدّة سلفاً، وقد تمكّن الشباب من تحريك الباب، إلا أن الوقت لم يكن في صالحنا. حيث إن تغيير الخطة الأولى، والتفكير في البدائل، ومضي الوقت مع محاولات تكسير الباب؛ كلّ ذلك مرّ في ظلّ محاولة القوات الخليفية تدارك الوضع، والسيطرة على مباني السجن. كما أنّ عيون المخابرات داخل المباني وخارجها كانت حاضرةً، وقد تنبّهوا لأبواب الطوارىء. وبالفعل، بعد أن تمكّنا من تحريك الباب وكسره؛ راقبتُ خارج الباب من ثقبٍ صغير، ورأيتُ أحد المرتزقة من أصول يمنية يُدعى (عبدو) مصوِّبا سلاح الشوزن نحو الباب، وكان في وضعيّة الإستعداد.
لا مجال لفقدان الأمل. قلتُ للشباب وقتها: “بما أنهم تنبّهوا لهذا الباب؛ فليبقَ الشبابُ في مكانهم، ويتظاهرون بأنهم ما زالوا يحاولون تكسيره للتمويه عليهم”. وتوجّهت بمعية عددٍ آخر محاولين فتح منفذٍ آخر عند البوابة التي تقع عند مكان الحلاقة.
كانت القوات الخاصة ( قوات معكسر سافرة) أسرعُ منا. فما إنْ مضينا نحو الباب، حتى عرفنا أنّ قوات خفر السواحل طوّقت منفذَ البحر، وأن قوات (سافرة) وصلت بأعدادٍ كبيرة وقامت بتطويق المباني. عدا ذلك، كانت المروحية أيضا حاضرة، وقامت بالتحليق على علوّ منخفض. وفي النتيجة، فاتنا الأمرُ، ولم يُكتب لنا النجاح وقتها لتنفيذ الهروب.
سيطرة كاملة على المبنى.. بمقاومة باسلة
فقدنا الأملَ في الهروب. بدأ الحديث بيننا عن مقاومةِ قوات المرتزقة الذين طوّقوا المباني. لا أحد يشكّ أنهم “لن يرحموا أحدا إذا أصبح في قبضتهم”.
في الأثناء، صعدتُ أنا وبعض الأخوة إلى السطح. استعنّا بصندوق خرطوم إطفاء الحريق في الصعود. رأيت الأبطال في مبنى رقم ٤ وهم يقاومون ببسالةٍ القوات المحيطة بالمبنى. كانوا يرمونهم بالمكيّفات وقناني المياه. كان الشباب ملثمين، لكني تمكّنتُ من التعرُّف على اثنين منهم. ناديتهم، ولفتُّ انتباههم إلى وجود كاميرا مراقبة مستحدثة، فقاموا بتحطيمها لكي لا ترصد حركة الاحتجاج والمقاومة.
اقترح عليّ أحدُ الشباب حينها أن نصعد إلى سطح المبنى. صعد بعضُ الشباب، وكانوا حوالي ٤ أشخاص، ولحقتُ بهم. تمكّن الشبابُ من تحطيم أحد الأبراج، وقاموا بإتلاف مواسير خزانات المياه. بدأنا نقاوم القوات التي تحاصر المبنى بما نملك من بعض قناني المشروبات الغازية أو المياه. اكتشفنا أيضاً كاميرا منصوبة للمراقبة، وقمنا بتحطيمها.
قبل هذا، كان هناك شرطي من أصول سورية يُدعى خالد، ويلقب بأبي وليد ( البعض يقول بأنه عراقي، ولكن يبدو بأنه ينحدر من منطقة دير الزور في سوريا) قام هذا المرتزق برمي قنابل صوتية ومسيلة للدموع على المبنى.
بعد كرّ وفرّ؛ نزلنا إلى داخل المبنى، وتعاهدنا أن نقاوم بجد وجهد وبسالة، وبما أوتينا من قوة. كان بين صفوفنا شباب متهمون في قضايا جنائية، ولكنهم كانوا من خيرة الأشخاص الذين ثبتوا عند المواجهة. وقد تقدّموا الصفوف، وفاق بعضهم في شجاعته بعض السياسيين، وهم في نظري محلّ اعتزاز وافتخارٍ وشرف.
حاولت قواتُ المرتزقة استعمال وسيلة المكر، وإقناع الشباب بفتح الباب، لكن الشباب كانوا واعين لهذه المسألة. ومن خلف الأبواب؛ جرى جدالٍ محتدم بين الشباب وقوات المرتزقة (قوات سافرة) المكوَّنة في جلِّها من شرطة الدرك الأردني. كانوا يرمون الشباب بأقذع الكلمات، من سبٍّ وشتم وازدراءٍ بمعتقد الشيعة، ويهدّدون بالاعتداء على أعراضنا وأخواتنا، وبعبارات ساقطة تعكس “أخلاق” هذه القوات ( ومن هذه العبارات: “يا أبناء المتعة”، “سنتمتّع باخواتكم”…).
لقد واجه المرتزقة صعوبةً بالغة في اقتحام المبنى، رغم أنهم مدججين بالسلاح وبأعدادٍ غفيرة، ونحن عزّل ومحاصَرون. حتى أن السلك الشائك الذي يحيط بالساحة الخارجية للمبنى لم يتمكنوا من اجتيازه، رغم أن الشباب أثناء سيطرتهم نجحوا في اجتيازه، ولم يكونوا يملكون العتاد والتجهيزات التي تملكها قواتُ المرتزقة.
صعد المرتزقةُ سطح المبنى، وحاولوا كذلك كسْر الباب، وكان الشبابُ يقاومونهم بكلّ ما يملكون. وقعت إصاباتٌ في صفوف الشباب، بين بليغة ومتوسطة، وأذكر من بين المصابين الأخ البطل علي صنقور الذي أصيب بطلقةِ غاز مسيل للدموع في صدره، وكذلك أحد شباب مدينة عيسى (م،س).
بطبيعة الحال، لم تكن المواجهة متكافئة في العدّة والعدد، فضلا عن ناحية الموقع، حيث كانوا يرموننا بطلقات الغاز من الأعلى، ونحن في الأسفل، ولا نملكُ ما نردّ به عليهم.
تراجعنا إلى داخل المبنى، وهم في الأعلى. واستخدمت قوات المرتزقة حينها سُلّماً طويلا لتجاوز السلك الواقع بين جدار المبنى في الساحة الخارجية، وهم مستمرون في سبّنا وشتمنا والتهجم على عقائدنا، ونحن نردّ عليهم: “نحن أبناء علي وشيعته”. وكنا نردد “الهوسات” الحماسية والدينية التي تقوي عزيمتنا، وتُبدي اعتزازنا بالدين وبالتشيع.
أذكر من بين ” الهواسات” التي كنتُ قد رددتها في تلك الأثناء، وبشكل جماعي:
“نحن أنصار الزكيه
كيف لا نهوى المنيه
نحن أنصار الحسين
نحن أنصار الزكيه
في طفوف الغاضرية
نحن أنصار الحسين”
وكان الشبابُ يندفعون بحماسٍ مع هذه “الهوسات” وغيرها، ويزداد إقدامُهم وشجاعتهم. وما كان من المرتزقة وهم يسمعون “الهوسات”؛ إلا الرّد بالكلام البذيء والساقط، مع سيلٍ من التهديدِ والوعيد.
استمرّت محاولاتهم إلى وقت صلاة المغرب في اقتحام المبنى، ولكن دون جدوى.
المفاوضات الأخيرة قبل اقتحام المبنى
بعد وقت صلاة المغرب؛ بعث لنا المرتزقة من وراء الباب أحدَ الشباب الذين كانوا متواجدين عند “الكونتر”، وقد أصبح في قبضتهم. وقال لنا بأن ضابط قوات “سافرة” يقول لكم: “الأمور خرجت عن إدارة سجن جو، وأصبحت في يد القوات الخاصة”. وأكمل: “عليكم أن تخرجوا طواعية، ولن ينالكم أيّ أذى، أو أن تترقبوا شيئا لم تروه في حياتكم”.
وقع اختلاف بين الشباب. هناك منْ كان يدفع باتجاه محاولة التفاوض مع القوات “علّ وعسى ننجو من جحيم التعذيب المتوقع بعد تمكن القوات منّا”، كما قال هؤلاء، وهناك منْ كان مصرِّاً على استمرار المواجهة وعدم الاستسلام. وبحسب هذا الفريق فإن “التعذيب واقع لا محالة على الجميع في كلّ الأحوال، والأفضل أن يقع التعذيب ونحن قد فعلنا ما بوسعنا، وقاومنا إلى آخر الوقت”.
لم يجتمع الشباب على رأي واحد، وقد لا يكون ذكر الأسماء مناسبا، إلا أن أصحاب رأي المفاوضة ارتأوا الذهاب إلى الزنازن، في حين بقي الشّباب الذين كانوا يرون بضرورة المقاومة.
في هذه الأثناء، تمكّنت القواتُ من الدخول إلى الساحة الخارجية بواسطة السُلّم المتحرك، وكانوا يرمون علينا القنابل الصوتية والغازات المسيلة للدموع لإجبارنا على التراجع نحو الخلف. وكان الهدف هو القيام من فتح البوابة التي كنّا خلفها. وهي تقع في وسط المبنى، وفيها ممر.
بقينا في منتصف المكان. على يسارنا الممرّ الذي يؤدي إلى البوابة المُطلّة على الساحة الداخلية، والذي تقف خلفه القوات. وفي قبالتي كان عنبر ٢، ونحن في المبنى الشمالي.
لم يبقَ في هذه الأثناء من الشباب إلا النفر القليل، وكانت قوات المرتزقة قد استعانت بمنشار حديد يعمل بالبانزين لقطع الباب. كنّا نشاهد شرارَ الحديد وهو يتطاير من الباب. كان نذيراً بالجحيم الذي سيحرق السجن.
استغرق المرتزقة وقتا طويلا لقطع الباب. كانوا يواجهون مناوشات متقطعة من الشباب. لم يتمكنوا من قطْع الباب وتنفيذ الإقتحام الكامل إلا في حوالي الساعة ١١:٣٠ أو ١٢:٠٠ من يوم العاشر من مارس ٢٠١٥م.
ما زالنا نعد خطة الهروب.. ولم نيأس
على ضفاف ما كان يجري في السجن، كنتُ أنا وحسين البناء نعمل على خطة للهروب مجدّداً من سجن جو بعد أن ألقي القبض علينا في العملية السابقة. لم يكن أحد يعلم بها غيرنا، وكنّا نعمل بصمتٍ ودون أن يشعر بنا أحد. إلا أن ما حدث في يوم ١٠ مارس جعلنا نعملُ على خطّةٍ طارئة، وبهروبٍ جماعي، ومع الإستفادة من فرصة انفلات الوضع. بعد أن أصبح موضوع الهرب في ذلك اليوم “أمرا مستحيلا”، قال لي حسين: “رضا.. لا أعتقد أن خطتنا السرية ستنجح بعدما حدث اليوم”.
قلتُ له: “لا تيأس، ويجب أن نحافظ على خطتنا السرية. لا يجب أن نفقد الأمل”.
لستُ أنسى أن هروبنا الأول من سجن جو نجح رغم التعقيدات الكثيرة. وكان سرّ نجاح عملية هروبنا هو توسلنا بأهل البيت (ع). كنّا قد عملنا وخطّطنا واجتهدنا، ولكن التوفيق كان بالتوكل على الله سبحانه وتعالى، والتوسل بأهل البيت(ع) الذين كان ظلّهم معنا. وحين تمّ إلقاء القبض علينا بعدها، كنتُ أقول في نفسي: “لعل ذلك لخير لا نعلمه”. وفعلا تبيّنت لي الحكمة بعد هروبنا الأخير في الأول من يناير ٢٠١٧م.
العودة إلى مبنى العزل وبدء التعذيب
حين كنتُ مع الشباب خلال المواجهات، وأثناء الصعود فوق سطح المبنى، وما رافق ذلك من أحداث؛ كنتُ أحاول التنكر لكي لا تتعرف عليّ القوات الخليفية فيما بعد. ارتديتُ لباس “بنجابي” وغطيت وجهي باللثام. تعمّدت ألا أكون في الصفوف الأماميّة، بما في ذلك حين ذهابنا إلى “الكونتر” في محاولة لفتحه وتنفيذ خطة الهجوم الجماعي. كانت العيون الشّريرة مسلّطة علينا، أنا وحسين البناء، بسبب هروبنا السابق من السجن. كما اخترتُ هذه الطريقة في التنكُّر لكي أمنع أيّ احتكاكٍ بيني وبين أي من الشباب. وكان الشّبابُ الذي يعرفوني مدركين لطبيعة هذا الموقف.
وبسبب هذه الظروف الخاصة بي، وقبل دقائق من اقتحام المبنى من قبل قوات المرتزقة؛ دفعني الشبابُ للعودة إلى مبنى العزل، حتى لا أتّهم بالتحريض، وأمنحُ الضّباط والمرتزقة فرصةً سانحة للإنتقام ضدي.
في الواقع، كان هذا الخيار صعبا ومؤلما جدا. لم أكن لأقبلَ أن أترك الشبابَ وأفارقهم في هذه اللحظة الحرجة، وكنتُ مصرِّاً على أن أكون معهم، ولينالني ما ينالهم. غير أنهم أجبروني على العودة إلى مبنى العزل، ودفعوني دفعاً إلى هناك، وقالوا: “إنّ ما سيُصيبك إنْ كنتَ معنا سيكون أكثر ممّا سيجري علينا”. كان ذلك مفهوماً، خاصة وإني قادمٌ من مبنى العزل، وكانت الإدارة تعتبر أيّ فعلٍ أقوم به يعني محاولة للهرب. أذكرُ أنني كنتُ أجمع نواة الزيتون لعمل المسابيح، فاتهموني أنني أجمعها لتنفيذ محاولة جديدةٍ للهروب، وظنوا أنني أريد أن أستخدمها لأرميها على عيون الشرطة. كانت هناك خزعبلات كثيرة يخترعها المرتزقة من كل حركةٍ أقوم بها. في كلّ الأحوال، أدخلني الشبابُ مبنى العزل، وأحكموا غلقَ الباب علينا، لكي يبدو الأمر وكأن أحداً لم يخرج منا وقت الأحداث.
في هذه الأثناء؛ كانت القواتُ قد دخلت إلى المبنى. راقبتُ ما يجري من بعض الثقوب في الباب، وهي ذاتها التي رأيتُ منها بداية الحدث. كانت عقارب السّاعة تتجه نحو الساعة الحادية عشر والنصف ليلاً. وكان ذلك آخر مبنى تمّ اقتحامه في سجن جو ذلك اليوم.
أذكرُ بكلّ فخرٍ أنّ آخر شخص وقف أمام المرتزقة وتصدّى لهم؛ هو الأخ البطل عبد الله من بلدة كرزكان، حيث واجههم واشتبك معهم بالأيدي، وقد أحاطته المرتزقة وانهالت عليه بالضرب. كذلك الحال كان مع الأخ علي صنقور، غير أني لم أره وقتها، ولكن نُقل لي فيما بعد عن صموده حتى النهاية.
تحرّكت القوات جهة اليمين (مبنى العزل)، ولاحظوا أن الباب مغلق، فقاموا بفتحه. دخلَ علينا عددٌ من الضّباط، وفي ظني أن بينهم ضابطا إماراتيا، واثنان من البحرين، ومعهم أربعة عناصر من أفراد الدرك الأردني. كانت زنزانتي هي الأولى، ومعي الشهيد سامي مشيمع، فبادر ضابط بالسؤال: “من أنت.. من أنت؟”. فأجاب عنصرٌ مسلح من المخابرات يرتدي لباسا مدنيا، وكان ملثما، وقال: “ما تعرف ذي من؟ هذا رضْوُوا إلّي هرب من السجن، وذي سامي إلّي قتل شرطي”.
أثار الأمر استغرابي الشّديد، وقلتُ في نفسي: “الآن ستبدأ حفلاتُ التعذيب، والله المستعان”.
مثلُ ذئب جائع صرخَ علينا الضابط، وأمر بإخراجنا لكي يضمّنا مع السجناء الآخرين.
كانت القواتُ قد انقسمت إلى فرقتين في ممرّ العنبر الآخر وهم يُخرجون الشبابَ إلى الساحة الخارجية. كان يمرّ عليهم كلُّ سجين، وتنزل عليهم الضرباتُ من كلِّ الجهات، بالهراوات وأعقابِ البنادق. اجتمعت عليهم كلّ البشاعة، وكانوا يبصقون ويرمون عليهم الشتائم، ويضربون بكلّ ما امتلكت أيديهم النجسة. أصواتُ صراخ الشبابِ كانت تهزّ أبداننا هزّاً، وصدى الهرواتِ التي كانت تنزلُ عليهم كأنها صاعقةٌ حلّت على قلوبنا.
اختلف الضبّاط فيما بينهم. منهم منْ يقول إن النزلاء في مبنى العزل يجب أن يتم خلطهم مع السجناء الآخرين، وآخر يقول: “خذوهم لينالهم العقاب مع غيرهم”. في الأثناء، قام أحد الضبّاط بإجراءٍ اتصال وهو يبتعد قليلا عنا، ثم ما لبث أن عاد وقال: “رضا الغسرة وحسين البناء والمحكومون بالإعدام لن يتم إخراجهم”، وأضاف: “يجب أن يبقوا في العزل ويتم إحكام الأقفال”.
عاينوا الأبوابَ، ولاحظوا أن الأقفال وقعَ عليها التخريب، وبدا بعضها ملتوياً من شدّة الضرب، فسألونا: “منْ فعل هذا؟”. قلنا لهم: “شباب ملثمون لا نعرفهم”. لكنهم أخرجونا إلى القاعةِ الداخلية في مبنى العزل، وأجبرونا على الوقوف مقابل الجدار. أوقفونا في صفين، الصفّ الأول مقابل الجدار، والصف الآخر خلف الصفّ الأول مقابل الجدار، أي أنّ أمامه الصفّ الأول. وكان نصيبي في الصفّ الثاني، وأمامي علي الطويل، وكان مصاباً في ذلك الوقت في النخاع الشوكي، ويشكو من آلام ومتاعب صحيّة.
سأدافع عن نفسي.. والشهادة أمنيتي
عاد الضبّاطُ إلى المبنى الآخر، وأبقوا على بعض قوات الدرك الأردني لحراستنا. كنتُ أسمعُ أصوات الشبابِ وهم يتعرّضون للضرب والتعذيب الوحشيّ. كان سماع أصواتهم أقسى من التعذيب نفسه، وكنت أقول في نفسي: “يا ليتني أكون معهم لينالني ما يصيبهم”. خرجتُ روحي إلى عند الشّباب. كنتُ سارحاً، ولم أشعر بالمرتزقة المجرمين حولي، وكلُّ شعوري كان موجّهاً نحو الشباب. تذكرتُ العهدَ الذي عاهدته نفسي: “لن أسكت عن أيّ مجرمٍ يقوم بالإعتداء عليّ، وأن أطلبَ الشهادة، وأرجو أن أصبرَ وأثبتَ في الدّرب”. كنتُ أطلب من الله تعالى أن يُلهمني الصبرَ، وأن يهبني منزلة الشهداء. ولكن إحساساً يخالطني في تلك اللّحظة، يُشبه الحزن: “ربما لم أكن مستحقا للشهادة لضعفٍ اعتراني، أو تردُّد خالجني”. وقدّر الله، وما شاء فعل.
حرّك إحساسي بما حولي ما قام به أحد المرتزقة الذين يقفون خلفي. رفسني بقوةٍ على ظهري. قمتُ له على الفور وقلتُ له مهدِّدا: “لا تضرب!”. ردّ عليّ: “شو؟!”. قلتُ له بنبرةٍ أشدّ: “قلتُ لك لا تضرب”.
وجرت مشادّة كلاميّة بيني وبينه، وقام برفْع الهراوة وكأنها سيف قاطع، وضربني ضربةً شديدةً على رأسي كادت تغشيني، وانتفخ رأسي بشكل سريع. ولأنها من الأمام؛ فقد شُجّت جبهتي، ونزف الدّم على وجهي، وكأني في ساحة حرب. لم ينل ذلك من عزيمتي، وأخذت أصرخُ في وجهه وأتحداه، كنت أريد أن أنقض عليه وأأخذ بثأر إخوتي.
في الأثناء، سمع أحد الضّباط صراخي العالي، وجاء مسرعاً وهو يقول: “من.. من.. من ذي؟”. رآني وأنا أغرق بالدماء وهو يقول: “شفيك رضْووا؟!”. فأجبته: “لماذا يضربني؟” وعقّبتُ مباشرةً: “الذي يمدّ يده عليّ سأردّ عليه بالمثل، ولستُ خائفا من شيء، وأفعلوا ما بوسعكم.. أنا هنا جالسٌ، ولم أرتكب ذنبا أو أعتدي على أحد”. وأعدت الكلام مجدّدا: “إذا اعتدى عليّ أحدٌ من غير سبب، فلن أقبل حتى لو كلّفني تمرّدي حياتي”.
اندهشَ الضّابطُ من جرأتي، وأخاله لم يكن يتوقّع أن أجيبه بهذا الأسلوب، وبهذه النبرة المملوءة بالتحدّي. فاضطرّ إلى أن يُبعد المرتزق الذي ضربني، وسألني عن مكان زنزانتي، فأشرتُ له عليها، غير أنه أخذني إلى غرفة الأخ ماهر الخبّاز. وقد طلب منّي أن أغسل وجهي، وأزيل بقعَ الدّم الفائض منه. بعد أن غسلتُ وجهي، أعطاني المنشفة الخاصة بماهر، وقال لي: “نشّف ويهك”. وبعدها أعطاني قنينة ماء كانت في يده، وقال لي: “اشرب”. ثم قال لي: “هل رأيت يا رضا! لو كنتَ مكاني فلن تعاملني بهذه الطريقة. انظر كيف عاملتك؟!”.
بعدها أبقوني في مكاني، وأمر الضّابط القوات بألا يقتربوا مني، وحذّرهم من التعرُّض إلينا.
لقد كان تصرّفه غريباً. أحسستُ حين سألني أول مرّةٍ عن زنزانتي أنه ينوي البحث عن الهاتف النقّال، حيث كانوا يبحثون عن الهواتف بعد انتشار صور كثيرة من داخل السجن وإذاعة أنباء ما يجري أولا بأول.
وجدَ علي الطويل أنها فرصة مناسبة وأشار عليّ أن أُخبر الضّابطَ عن حالته الصحية وألا يتعرّضوا له. وفعلتُ ذلك على الفور، وأخبرته أنه مريض. سألني عن اسمه، فسمح له بالعودة إلى زنزانته.
وبينما كنّا نعدّ أنفسنا للجلوس، جاء الرائد حسن جاسم، وكان وقتها رئيس مركز، وقال للقوات: “سجناء العزل لا يخرجون، وعليكم أن تُصلحوا أبوابهم هذه الليلة، وأن تُغلقوها بإحكام”.
وهذا ما حصل بالفعل، وقاموا بإصلاح الأبواب، وأغلقوها علينا حتى الصباح، حيث كان موعدنا مع أحداثٍ جديدة.
تعذيب مفتوح.. بشرط ألا يموت المعتقل
كان الواضحُ من الأوامر التي جرى تعميمها؛ هو إعطاء الضّوء الأخضر لكلّ عناصر القوات بممارسة كلّ أشكال التعذيب، إلا القتل. يأخذون المعتقل إلى العيادة حين يشعرون أن روحَه على مشارفِ الموت. كانوا يتحرّزون من أن تنقلب عليهم الأمورُ بشكل سلبي في حال استشهد أحد المعتقلين. ولكن أفعالهم الإجراميّة سترتدّ عليهم، وهذه التضحياتُ لن تذهب سدى.
لقد اعتدوا على الجميع، لم يراعوا كبيرا في السّن، ولا جريحاً. أخذوا بعض المصابين إلى مبنى العزل، حيث كنّا، ثم أخذوهم إلى الفناء الخارجي. كان من بينهم أبو محمد، نادر العريض، من المنامة، وعلي صباح، وحسين أبو بدر، وهؤلاء رجال كبار في السن. كانوا إذا رأوا رجلا كبيرا وقواه تنهار من التعذيب يأتون به عندنا. وسمعتُ الضابط يقول لهم: “أي شخصٍ يتعرّض لإصابةٍ بليغة مميتة خذوه فورا على العيادة أو الإسعاف”.
حملة على الهواتف.. وكشف منْ صعدوا سطح المبنى
في صباح اليوم التالي، ١١ مارس ٢٠١٥م، كانت القواتُ تقوم بفرز شريحتين، الأولى تضمّ الذين صعدوا سطح المبنى، والأخرى من الذين يمتلكون أجهزة هواتف نقّالة.
كنّا نسمعهم. آهاتُ التعذيب تصلنا بشكل واضح، لأنّ التعذيب كان يجري في “اللنغر”. كانت الإدارة لديها معلومات من بعض الواشين عن بعض الأشخاص الذين يمتلكون هواتف، إضافة إلى معلومات حصلوا عليها سابقا بشكل أو آخر. ولكن الإدارة كانت تواجه صعوبةً شديدة في السابق لتنفيذ هجوم على العنابر بسبب اكتظاظ أعداد المعتقلين، وحالة التوتر التي كانت تسود السجن، حيث اندلعت مناوشات واشتباكات كثيرة، لكنها لم تكن بمستوى يوم ١٠ مارس.
من بين الذين أخذوهم للتعذيب، وكنّا نسمع آلامهم؛ كان الأخ عيسى المشعل من بلدة كرانة. وقد تعرّض لتعذيبٍ شديد لانتزاع اعترافه بشأن الهاتف النقال. بعدها أخذوا أحمد العرب، وكانوا يعذّبونه ويستميتون في تعذيبه. سماعُ صرخات آلامه قطّعت قلوبنا مثل منشارٍ حاد. كنّا نتمنى أن نتعرّض للتعذيب، نشعرُ أن ذلك أهون من سماح صراخ أحد يتعرّض للتعذيب. كان عذابا نفسيا أشدّ علينا من أيّ عذاب جسدي.
لم نكن نملكُ إلا الدّعاء والتضرّع لله سبحانه وتعالى. توجهنا إلى الله بأن يربط على القلوب، ويهوّن المصاب، ويكشف الكرب والبلاء. كنت أدعو إلى جانب قراءة زيارة عاشوراء التي كنت مواظبا على قراءتها، وعيوني تنهمرُ بالدموع على حال الشباب. الحزن لبسَ كلّ كياني، وكلّما مررتُ على كلمة “الظلم” في الدعاء، أو “الحسين” في الزيارة، وفقرة “الظالمين لكم ولأشياعكم”؛ أنفجرُ بالبكاء، وأتجرّعُ الألمَ، متوسِّلا بأن يُخلّص الشبابَ من أيدي الوحوش التي تتشفّى بتعذيبهم فقط لأن في قلوبهم حبّ أهل البيت (ع)، وبسبب انتمائهم لمذهب التشيع.
استمرّ تعذيبُ الشباب بلا هوادة. خيرة الشّباب كانوا يُساقون إلى الجحيم. ضياء الملا، سيد مصطفى، محمود من سترة (مركوبان) وغيرهم. بعضهم يُعذّبُون بتهمةِ الصعود على سطح المبنى، وآخرون بتهمة حيازة أجهزة هواتف نقالة. مع كلّ آهاتٍ وأنّاتٍ واستغاثات تنخرُ أفئدتنا؛ كان داخلنا يتفطّر ألماً، وبكاءاً.
في هذا اليوم، ١١ مارس ٢٠١١م، دخلت علينا قواتُ الدرك الأردني، وتوجّهوا في البداية إلى الزنزانة التي يتواجد فيها حسين البناء، وحسين علي موسى (المحكوم بالإعدام)، وهم يسألون: “شو قضيتك؟”.
كانت الأبوابُ مغلقة، والأوامر المشدَّدة كانت تقضي بألا تُفتح زنزاناتنا خوفا من سعينا أنا وحسين البناء لتكرار الهروب، وهو ما منعَ قوات الدرك الأردني من أن تأخذ حيْفها فينا. مع هذا لم يهدأ لهم بال، فكانوا يأتون ويضربوننا من بين القضبان، ويبصقون علينا، أو ينادي أحدهم على أحد المعتقلين وحين يقترب يرمونه بما وسعهم من الضرب والسّباب.
الشهيد سامي مشيمع في مواجهة الضابط الأردني
في تلك الفترة؛ كان الضبّاط والقوّات يتناوبون لتفريغ أحقادهم علينا وعلى غيرنا لكوننا شيعة، أو لأننا متهمون في قضايا “خطيرة”. وكانت القوّات تُحرِّض على المعتقلين في مبنى العزل، ويبادرون لإخبار الضبّاط بالتهم التي توجّه ضدّنا، ويُخبرونهم بأسمائنا أيضاً.
في إحدى المرات، وكالعادة، دخل علينا ضابطٌ من الدرك الأردني. سألني عن قضيتي، فأجبته. وسأل الشهيد سامي مشيمع: “شو قضيتك؟”. أجاب الشهيد: “استدراج.. أدت إلى قتل”. فصرخ الضابط: “قتلت منْ .. قتلتَ الشرطي الأردني.. قتلتَ زريقات؟”.
كان سمْع الشهيد مشيمع ثقيلا، ويسمع من أذنٍ واحدة، وذلك بسبب التعذيب الذي تعرّض له وأفْقده السمع من أذنه اليُسرى، وقد فهم السؤال بالخطأ، أو بشكل غير واضح. فأجاب الشهيد بالخطأ: “نعم!”، وأنا أحرِّك يدي في خاصرته غامزاً، وأقول له: “لا لا..”. صرخ الضابط على الشرطي وأمره بفتح الزنزانة، ليفْرغ كلّ ما ورثه من أحقادٍ وغلواء على الشهيد. وكان يسأل الشهيد في الأثناء: “شو اسمك؟”. أجاب: “سامي مشيمع”، فردّ الضباط الأردني غاضبا: “لا إنت اسمك (طز)”. ردّ عليه الشهيد وقال: “لا اسمي سامي..”. فاستشاط الضابط وقال: “إسمك (طز) وعليك أن تقول الآن أمامي هذه العبارة (اسمي طز)”. ولكن الشهيد أبى وقال بشموخ: “لن أقول لك هذا.. لن أقول وإنْ قتلتني”.
فقد الضابط الأردني أعصابه، وكان يأمر الشرطي المرتزق المدعو (طلال) أن يفتح الباب، غير أن الشرطي كان خائفا، لأن هناك أوامر بعدم فتح الأبواب علينا، واضطر المرتزق أن يحاول تهدئة الأمور، وطلب من الشهيد أن يقول هذه الجملة ليحمي نفسه ويكفّ الشرّ عنها، وقال له “الله وحده الأعلم بما سيعمل لك الضّابط”.
إلا أن الشهيد رفض التنازل للضابط. ووسط محاولات الشرطي المرتزق، قال الشهيد سامي للضابط: “أنت ماذا تريد؟” فقال له: “شو إسمك؟” فأجابه الشهيد: “طز.. طز.. طز..”، ويقصد أن يوجّه هذه الكلمة إلى الضّابط نفسه. وكنّا بعد ذلك نضحك كلما تذكرنا هذه الحادثة.
استمرّ الوضعُ على هذه الحال على مدى أربعة أيام. تدخل قواتُ الدرك الأردني بشكل مفاجيء. ترمي بأحقادها عبر الضرب والإهانة وشتم عقائدنا والتعدّي على أعراضنا. وفي الجهة الأخرى؛ يواصلون تعذيب الشباب، مع تشديد العذاب على المعتقلين الذين كان لديهم هواتف نقالة، أو شاركوا في صعود سطح المبنى.
في هذه الفترة، جاءنا أحد الضباط، وأظنّ أنه هشام الحمادي الذي اغتيل في مطلع فبراير ٢٠١٧م، لكني غير متأكّدٍ من ذلك، غير أن الملامح التي في ذاكرتي تشبه صورته التي تم تداولها بعد قتله في إحدى مزارع بلدة البلاد القديم، كما تم الإعلان الرسمي عن ذلك.
ذهبَ الضّابط إلى الزنزانة الأولى، ورمى بما في لسانه من سقوط: “ها يا ولد الكلب”! كانوا، فيما يبدو، يتعمّدون ذلك ليُستدرج أحدنا للردّ عليه، وليكون ذلك ذريعة للتعذيب.
جاء لنا قال: وأعتذر عن ذكر العبارة وهي ثقيلة على قلبي .. “ها يا ابن القحبة”! نظرتُ إليه بنظرةٍ حادة من دون أن أنطق بشيء.
سأل: “لماذا تنظر إليّ هكذا؟!” أجبته: “لماذا تذكر أمي بسوء.. ما ذنبها؟” فأعاد عليّ ذات المسبّة، بلفظها القبيح الذي يُشبه ما اعتلت عليه من قذارة.
كنت أمْسك أعصابي وأنظر إليه بحدّة. الغضبُ تلبّسَ بكلّ كياني، وكانت يدي تتقاقز لكي أردّ عليه، ولكن لم يكن لي حيلة، وكانت الحكمةُ أن ألجم الثورةَ التي تغلي بداخلي.
توجّه بعدها إلى الشهيد سامي، وسأل: “أنت قضيتك الضابط الشحي؟” كان يبدو أن الضابط يتولّى مهامه في منطقة السنابس، حيث كان يعرف القضايا في تلك المنطقة، وأسماء الشباب المطلوبين منها.
وأضاف: “وين علووه السنكيس؟ بنراويه.. بنصيده. والسفروت بنصيده بعد (يقصد المعتقل حسين راشد)”. وأخذ يواصل في إظهار ما اعتاد عليه من كلام بذيء وألفاظ فاحشة.
تألمتُ كثيرا من الكلام القذر الذي رماه علينا، وعلى أعراضنا ومعتقدنا. أسوأ خلْق الله كانوا ينالون من أشرف النّاس، وأكرمهم.
التعذيب في الساحة الخارجية
لم أشاهد التعذيب الذي كان يجري على الشباب في الساحة الخارجية، ولم أعاينه بنفسي. غير أني، وبعد فترة، وكلّما تسنى لي الحديث مع الأشخاص الذين كانوا في الساحة الخارجية؛ سمعتُ منهم قصص العذابات المُرّة التي مرّوا بها، وما أكثرها! وما أمضها على الفؤاد! في كلِّ مرةٍ يُفتح هذا الموضوع كنتُ أسمع قصّةً جديدة. ما جرى في مارس مثلُ كتابٍ لا تُطوى صفحاته بسهولة. قصص تتداخل فيما بينها، فيها ما يُضحك، وفيها الكثير من المواقف البطولية، وما لا يُحصى من الأحداث المؤلمة التي تفيض بالغصص والآلام. شهادتي أكثرها هو من مشاهداتي، ومن تجاربي في تلك الأيام، ولكن لم أعاين ما جرى أكثرَه، وفي كلّ مرّةٍ يسرد الشباب أمام القصص، كانوا يروون قصصا جديدة، ولا تتكرّر، لكثرتها.
درس في الشجاعة من سعيد الإسكافي
بقينا على هذه الحال، نتعرّض كلّ ليلةٍ للهجوم من قبل القوات. لكننا كنّا نردّ عليهم، وهو أمرٌ تعلّمته منذ فترة الطوارىء. “الذي يستجيب لهم يتعرّض لمزيدٍ من الإستضعاف والذّل، لكن منْ يتمرّد عليهم يفرض احترامه، حتى ولو تعرّض لتعذيبٍ مضاعف في بداية الأمر”.
في بداية العام ٢٠١١م؛ شاهدت بعيني تعرّض المعتقل سعيد الإسكافي، الذي حُكم عليه في قضية المرفأ المالي، لتعذيبٍ شديد من قبل أحد عناصر المرتزقة الباكستانيين، والذي عُرف بغلظته، وطبعه المتوحّش، وهو أحد القتلة الذين شاركوا في تعذيب الشهيد حسن مكي في عام ٢٠١١. هذا المجرم كان يُدُخِل الرّعبَ في قلوب كثيرٍ من المعتقلين. ومن غلوّ الغطرسةِ التي تتطاير من جبينه الأسود؛ فقد كان البعض حين يسمع صوته ينتابه بالخوف، ويعم المكان هدوءٌ مشوب بالترقّب والحذر، وكأنّ على الأبواب مجهول مؤلم.
كنتُ أنا واحداً من الذين يخشون بطش هذا الجلاد، ويصيبني ما يعتري غيري حين تهبّ ريحه القذرة. لكن الإسكافي غيّر في نفسي الكثير. لقد انبرى سعيد على الجلاّد الوحش، وصرخَ عليه بصوتٍ ملؤه الإباء، حتّى تحوّل الوحشُ إلى فأر مرعوبٍ، وقلبَ لسانه المليء بالشتائم إلى مدحٍ إلى الإسكافي وتملُّق.
هذا المشهد جعلني أتأكّد أكثر من ذي قبل أنّ هؤلاء المرتزقة مصبوبون بالجُبن، وطبْعُ الجبانِ هو استضعافُ الآخرين، بسببِ عُقدة النقص التي تسري في عروقهم. أما الشّجاع النّبيل فلا يعتدي على مقيّدٍ بالأصفاد، لا يملك القدرةَ على المواجهة بسببِ القيودِ والسّلاسل. منذ ذلك اليوم، قرّرتُ أن أتصرّف بأخلاقِ الشُّجعان النبلاء، وأن أتعامل معهم كما كان يفعل المعتقل سعيد الإسكافي. هذا الأمر، ومع الأيام، زرَع في داخلي مزيداً من الشجاعة، وجعلني أواجه الخوفَ بالتمرّد، والتّحدي.
ميزةُ وجودِنا في العزل، وفي ظلّ عددنا المحدود؛ هو في ترابطنا وتلاحمنا. ورغم ما كان يُصيبنا من تعذيبٍ؛ فقد كنّا نتمرّد ولا نلوذ بالسكوت، ونردّ أيّ أذى يلحق بنا. وقد دفعَ ذلك المرتزقة ومسؤوليهم إلى التورُّع عنّا. أقول ذلك عن تجاربَ عايشتها وعاينتها، وكنت جزءاً منها. لذلك لفتني أن بعضَ ما تعرّض له كثيرٌ من الشباب، رغم عددهم الكبير، كان بسبب التخويف والتجبين الذي يتناقله البعض، ويجعل الشجعان ينقادون وينصاعون للجبناء، أو يقبلون بالأمر الواقع، ويُسلِّمون لما يجري، ويكتفون بالصبرِ على الأذى، دون تحريك أيّ ساكن!
في المقابل، وبموقفنا الموحَّد في التمرُّد بمبنى العزل؛ كنا الوحيدين الذين لم نقطع رفْعَ الأذان، أو إحياء الشعائر الدّينيّة، بخلافِ ما جرى في المباني الأخرى التي تعرّضت للهجوم، وفُرضت عليها القوانين الجائرة. كنا قد تعرّضنا للتعذيب، وتمّ تهديدنا، والاعتداء علينا، لكننا – مثل رجلٍ واحد – تمسّكنا بحقّنا في ممارسة الشعائر. لقد كانت ثمرةُ الصمود هو الحفاظُ على حقّنا، وعدم التفريط به. حتى على مستوى التعذيب؛ بفضل الله وثباتِ الأقدام لم يتم التعرُّض لنا كما أصاب بقية السجناء في المباني الأخرى.
التفتيش
بعد ٤ أيام من أحداث مارس؛ لم نكن نعرف عن الشباب أيَّ خبر. انقطعت الأصواتُ، وتوقّف تدفّق الأخبار مع إيقاف الزيارات والاتصالات. كنّا في قلق شديد على مصيرهم. وجوم لا يقطعه غير ما نسمعه من أصوات التفتيش، وأعمال الصيانة الجارية.
خلال الأحداث، دخلت القوات علينا، وقاموا بتفتيش دقيق، ومهين. ركّزوا في تنفتيشهم على الزنزانة التي أنزل فيها، وعلى الزنزانة التي يتواجد فيها حسين البناء. وقد ظفروا في تفتيشهم لغرفتي بجهازٍ كنتُ قد هرّبته سابقا من نوع “بلاك بيري”. كان الاستيلاء على هذه الغنيمة خيرا لي لم أدركه في وقته. لو لم يتم الاستيلاء على ذلك الجهاز لكنت استعملته لاحقاً في التواصل بالخارج، ولتمّ اختراقه، حيث إن هذه الأجهزة مخترقة ويمكن ترصُّدها. وفي كلّ الأحوال، كنتُ قد وضعتُ احتمال اكتشافهم للجهاز، وحاولتُ تفكيكه في وقتٍ سابق.
أثناء التفتيش كنّا مقيدين من الخلف، وكانوا قد أخرجونا من الزنازن ووضعونا في قاعة العزل. كلُّ إجراءات التفتيش كانت تنمّ عن حقدٍ وظغينة، ليس إلا. ظهر الكثير منهم على حقيقته، وبرز الوجه الطائفي القبيح لأغلبهم.
أحد الإخوان أخبرني عن مرتزق يُدعى أحمد فريح (سوري الجنسيّة)، وهو أحد المرتزقة القذرين والجبناء. كان يضربهم ويقول لهم بكلّ دناءة: “أنا لا أضربك بسبب أعمال شغب أو مخالفة، أنا أضربك فقط لأنك شيعي”.
التفتيش الذي تعرّضنا له كان عبارة عن تكسير وتخريب أشبه بالعبث، إلى درجة أنهم حطّموا مروحة التهوية (كزوز فان) بدل أن يفتشوا في جوانبها. والأمر كذلك مع النافذة الصغيرة في الأعلى. كانت هستيريا لا حدود له. تذكّرني بالهجوم العبثي والوحشيّ الذي تعرّض له دوّار اللؤلوة. كان المهمّ بالنسبة لهم هو الإنتقام، ولا أكثر من ذلك.
البسكويت
عبثوا في أغراضنا الخاصة، وبدأوا بالسبّ والشتم وتكفيرنا، وقاموا بإتلاف المواد التموينية والمأكولات ورموها على الأرض.
كان أحد الضّباط الأردنيّون يصرخ بصوت عال: “يا كلاب.. لديكم بسكويت! يا كلاب! أيضا يوجد عندكم صابون ومزيل عرق؟!”. كان يستكثر علينا باعتبارنا سجناء نواجه أحكاماً تتجاوز المئة عام أنْ يكون لدينا بعض أدوات التنظيف، أو بعض الأكل. هذا الضّابط، وهذا هو المهم، لا أنسى أنه كان يخاطبنا: “يا كفار”.
التربة الحسينية
لديّ علاقة خاصة مع التربة الحسينيّة. يمكن أن أقول إنّها علاقة “حسّاسة”، حيث لا أحتمل حتى من الشباب أن يُداس عليها بالخطأ. ينتابني شعور غاضب، وأفقد أعصابي حين يحصل ذلك، لشدّة تعلّقي بتربة الإمام الحسين (ع).
حين تعرّضنا للهجوم بحجة “التفتيش”. كما ذكرتُ؛ فقد كنّا مقيدين، والأصفاد جُعلت في أيدينا من الخلف، كما وضعوا علينا حراسة مشدَّدة لإجبارنا على الوقوف. الاستفزاز المهين لم يتوقّف من الدرك الأردني. لقد كانوا طائفين إلى حدٍّ كبيرٍ جدّاً. طائفيتهم كانت انعكاساً لغلظتهم الأشدّ من الحجارة.
بعد انتهاء المرتزقة من التفتيش، وبعد إرجاعي إلى الزنزانة؛ فوجئتُ برؤية المسابيح والتّرب الحسينيّة وهي مُكسَّرة، كما مزّقوا الكتب الدّينيّة الخاصة التي تحمل صورا للعلماء. لم أحتمل منظرَ إهانة المعتقد، وفارَ الدّمُ في عروقي، فصرختُ في وجههم: “أنتم تستهدفوننا لأننا شيعة، وعملكم ليس له علاقة بالتفتيش، ونحن لا نسكتُ على هذه الإهانة”.
أخذتُ أصرخُ في وجههم وأجادلهم بسبب اعتدائهم على المعتقد، وكان الشهيد سامي مشيمع يحاول تهدئتي حتى لا يقومون بالإنتقام بممارسة جريمةٍ أخرى. ولكنى رفضتُ السكوت، وقلتُ بصوتٍ عالٍ وهم يسمعون: “هؤلاء طائفيّون، ويجب أن يقفوا عند حدّهم”.
لم أكن في تلك اللّحظة مكترثا لعاقبة صراخي عليهم، ولم أضع أيّ حساب لما سوف يصيبني من الإنتقام والتعذيب. كان يجب التصدّي لهؤلاء الجلاّدين الذين أُطْلِق لهم العنان ليمارسوا كلّ أشكال التشفّي والإنتقام بنا وبمعتقداتنا.
اللافتُ أنهم – ربّما لعدم توقعهم أنّ أحداً سيقفُ بهذا الشكل في وجههم – دفعوني إلى داخلِ الزنزانة بالقوة، وأقفلوا بابها، وقالوا: “الآن اصْرخْ كما تشاء”.
بعدها جاء ضابط يُدعى أبو سلمان من أصول يمنيّة، وهومتقاعد، وكان يعمل سابقا في سجن جو مدة ٤٠ سنة، وكان وكيل قوة، وهو معروف بكذبه، وحقده، وتآمره على السجناء. اقتربَ من زنزانتي بعد أن كنتُ أصرخ في وجوه المرتزقة، وقال: “شفيك الغسرة؟”. فأجبته على الفور: “لماذا هذا الإستهداف الطائفي؟ لماذا يكسّرون التّرب التي نصلّي عليها؟ ولماذا يقطعون المسابيح؟ جايبين كلابكم يستهدفوننا لأننا شيعة؟”، فقال: “ما حد قَصَّص السِّبح”. فقلت له: “إذاً منْ فعل هذا؟!”.
بعدها قام أحد المرتزقة، ويُدعى فضل من أصول باكستانية (وحاول أن يتحدث باللهجة الدارجة للمواطنين في البحرين، حتى أن اليمنيين كانوا يقولون له: “أنت لست بحرينيا”، فيردّ عليهم: “لا آنا بحريني”). قال المرتزق فضل: “لقد وجدنا عندك ممنوعات، واكتشفنا أنّ لديك هاتف خليوي في الزنزانة و..”. فعاجلته وقلتُ له: “هذا ليس له علاقة بإهانة المعتقد، ما دخل ذلك بالتعدي على مقدساتنا؟ وتمزيق كتبنا و..”. ولكنه لم يعرني أيّ اهتمام، وتوجّهت قوّات المرتزقة للقيام بتفتيش غرفةٍ أخرى.
الأخ السني
بعدها توجّهت قوات المرتزقة لتفتيش غرفة رقم ٥، ويوجد بها أحد الأخوة من أهل السنة، اسمه فهد، وشخص آخر من الجالية البنغالية. وهما محكومان بالإعدام.
وهم يهمون إلى غرفتهم، واصلتُ في الجدال معهم بشأن كسْرهم للترب، وتمزيقهم الكتب، وقلت له: “هؤلاء سنة، احذرْ أن تهجم عليهم مثل ما هجمت علينا نحن الشيعة”. بطبيعة الحال لم يُتخذ ضدّهم أيّ إجراء كما حدث لنا، ولم يتم الإعتداء عليهم. بل لم يقوموا أصلاً بتفتيش زنزانتهم.
قلت لهم في الأثناء: “نحن لسنا طائفيين مثلكم، وليس لدينا مشكلة مع السنة، واسألهم إنْ كنّا أسأنا لهم أو تعرّض أحد لهم بأذى.. أنتم الذين تثيرون هذه الأحقاد بهذا الإستهداف، ولكن لن تبلغون منالكم”. وأضفت: “نحن سلمٌ لمنْ سالمنا، وحربٌ لمنْ حاربنا”.
مصحف فاطمة (ع)
وانتقلوا بعدها لتفتيش زنزانة ماهر الخباز، وعبد الله أبو روان. وقد تعرّض لمثل ما تعرّضنا له من الضّرب والإهانة. رموا أغراضهم وملابسهم على الأرض، وسكبوا عليها الصّابون، وأتلفوا محتوياتهم الخاصة. الشّرُ الحقود فيهم لم يهدأ، فاعتدوا على كتاب الله، القرآن الكريم، ورموا به على الأرض.
السّواد الذي أعمى قلوبَهم؛ جرّدهم من كلّ شيء. لم يكونوا يفكّرون، لم يكونوا يضعون عقلاً في رأسهم. كانوا يسخرون: “إن هذا القرآن هو قرآن فاطمة”، وهم يرمون به على الأرض، ويدوسون عليه. كان واضحاً أن أيديهم القذرة، وعيونهم الوقحة؛ لم تعرف القرآن يوماً. مع أن نسخة القرآن كانت الطبعة السعودية لكن الحقد أعمى قلبهم قبل عيونهم.
الأمر نفسُه تكرّر في الزنزانة التي يتواجد فيها علي الطويل، حيث كان يقضي وحده في الزنزانة، قبل أن يجاوره الشهيد عباس السميع بأيام.
لم يتوقف أسلوب التفتيش والإهانة عند هذا الحدّ، حيث تكرّر علينا الهجوم بعدها بأشكالٍ مختلفة. المجرمون هنا لا يشبعون من ارتكاب الجرائم.
الإنتقام من الشهيد سامي مشيمع
بعد حادثة الشّهيد سامي مشيمع مع الضّابط الأردني التي ذكرتها سابقاً؛ شاعَ بين الدرك الأردني بأن الشهيد سامي هو قاتل المرتزق الأردني زريقات. ومن المعروف أنّ هذه القضية ليست لها علاقة بالتهمة التي يواجهها الشهيد، وإنما هي حادثة أخرى. ولكن خطأه في الإجابة كلّفه الكثير. ففي كلّ مرّةٍ يأتي المرتزقة الأردنيون كانوا يتبادلون الحديث فيما بينهم، ويحرّضون بعضهم، وكلٌّ يقول للآخر (بلهجتهم): “تبي الّي كَتل زريقات؟”. ثم يسارعون إلى الشهيد سامي، فإنْ تسنّى لهم إخراجه لتعذيبه كما يشاؤون، أو يقومون بضربه من وراء القضبان.
في إحدى المرات، أتوا لتكرار الانتقام من الشهيد، وكان أحدهم يضرب الشهيد، ثم يقوم بالبصق عليه، وهكذا وهو برفقة البقية. أثناء ذلك، كان مرتزق أردني معجون بالفظاعة يهمّ بالخروج من العزل، وقد التفت إلى الشرطة الأردنيين وهم يقومون بضرب سامي ويبصقون عليه، وكان لحظتها يضعُ كمّاماً على فمه وأنفه. وقف قليلاً وكأنه يستجمع منسوب القذارة من جوفه، وبدأ يُحرِّك فمه من وراء الكمّام، مثل الجَمل الذي يعلك من سنامه مخزون الأكل، وبعد هنيئة جاء مسرعا بعد أنْ فرَغ من مهمته، وخلعَ الكمّام وأفْرَغ ما جمعه من بصاق على الشهيد سامي مشيمع.
كنتُ أحزن كثيرا على ما كان يلاقيه الشهيد مشيمع. هو لم يسلم من الإنتقامات التي كان يواجهها من قبل الإماراتيين أو الذين يعذبونه ثأرا للمرتزق الإماراتي طارق الشحي، ومن جهةٍ ثانية يتّهمه الأردنيون أنه متورط بقتل المرتزق زريقات. لقد تعذّب الشهيد كثيرا كثيرا. رحمة الله عليه.
إهانة القرآن
هذه المرة كان ضابطا أردنيا منفوش العضلات، ومنتفخ الأوداج، ويتطايرُ الشَّررُ من عينيه المغموسة بالحقد. بدأ بسبّنا وشتمنا، والإستهزاء بعقيدتنا. كنت حينها أمسك المصحف الشريف (نسخة من طباعة السعودية)، فخاطبني: “هل أنت طاهر؟”. أجبته: “نعم أنا طاهر”. فبصق عليّ وعلى القرآن الكريم وقال: “أنت لست طاهرا أنتم مشركون.. أنتم كفار”. كان يصرخ بصوتٍ عال. واجهناه، وكنّا نردّ عليه وهو لا يتوقف عن تعذيبنا. كنّا نصرّ على موقفنا والعذاب ينزل علينا، وهو ما دفعه للاستسلام، وتركنا بعد أن أوسعنا تعذيبا وحقدا وتشفيا. كانوا يخشون أن يموت أحدنا من التعذيب، رغم أنهم كانوا يحلمون بتلك الفرصة التي يُمنحون الأمر بقتلنا، ولكن الصلاحيات الممنوحة لهم في ذلك الوقت هو فعل كل شيء إلا القتل.
علي الطويل: أعمال شغب
علي الطويل، المحكوم بالإعدام، شخص طيّب، وبسيط. وقد تعرّض مثل غيره للتعذيب أثناء المداهمات المتكررة، والتي شُنت بناءاً على التهم والقضية التي يواجهها السجين.
لاحظ علي أن الشرطة حين تتوهّم أن القضية المتهم بها المعتقل بسيطة؛ فإنه لا يتعرض للتعذيب، أو لا يلقى عذابا مثل بقية المعتقلين الذين يواجهون قضايا “خطيرة”.
لاحظ علي أن حسين البناء يخدع الشرطة بعض الأحيان، وقد سمعه ذات مرة حين سألوه عن قضيته، فأجابهم: “أعمال شغب”، ولم يقوموا بضربه.
يبدو أن علي أُعجب بهذا التكتيك. وحين جاءته قوات الدرك الأردني سألته
“إيش حكمك”
أجابهم علي: “إعدام”.
ماهي تهمتك؟
أجاب: “أعمال شغب” ..
الغريب أن الشرطة أخذوا يضحكون وانصرفوا عنه.
داومَ الطويل على استعمال عدة تكتيكات لرفع خطر التعذيب عنه طيلة فترة المحنة وقد نفعه الأمر كثيرا في بعض الأحيان. ففي إحدى المرات التي تعرَّض فيها للاستجواب قال إنه فاقد للذاكرة.
حلاقة الانتقام.. على رأس حسين البناء
في إحدى المرات، قصدني شرطي أردني متعمّداً، وكان ينوي استهدافي على نحوٍ مسبق، وقد وضعني في رأسه. كنتُ وقتها أقرأ القرآن الكريم، فجاء قربي وكلّمني من وراء القضبان: “شو بتعمل؟”. أجبته: “ويش تشوف!”.
فقال لي: “شعرك طويل .. يبي ليه قص”. أجبته: “لين شاء الله”. فقال: “شو؟” أجبته: “إلّي سمعته”.
فهددني وقال: “الليل أجيك وأشوف نفختك”.
خيم الليل، وجاء المرتزق مرة أخرى، وقال: “بتحلق أقرع أو لا ..؟”. قلتُ له: “قلتُ لك جوابي في العصر”.
تراجع المرتزق عني، ثم ذهب إلى حسين البناء ليشفي غليله وانتقامه، حيث قام بحلاقته، لكي لا يكسر كلمته.
هذا المرتزق حين كان يقابلني لاحقا كان يقول لي: “إنت كويس.. إنت محترم”. طبعاً كان ذلك نفاقا منه! ولكني أعتقد أن السبب الذي أجبره على ذلك هو تمرّدي، وعدم تعاملي بلين أو إظهار الخوف من المرتزقة.
الشهيد عباس السميع والضباط الإماراتيين
تكرّر الهجوم والتعدّي علينا. وفي كلِّ مرةٍ نتعرّض فيها للتعذيب والسب والإهانات؛ نزداد في التمرّد والردّ عليهم. لم نكن نمنحهم فرصة كسْر إرادتنا. بقينا في العذاب وفي حالٍ من عدم الإستقرار، لا نهنأ في نوم، ولا نعرف ما الذي تخبئه الأقدار. كما كنّا في عزلة عن الخارج، ولا نعرف ما حلّ بالشباب بعد انقطاع أصواتهم.
بعد حوالي عشرة أيام من الأحداث؛ جاؤوا بالشهيد عباس السميع من مبنى رقم عشرة. كان ذلك في المساء، ربّما بعد صلاة العشائين أو أكثر بقليل. أدخلوا الشهيد عباس إلى عنبرنا. لم أكن أعرف الشهيد قبل ذلك معرفةً شخصية، وكنتُ قد سمعتُ عن الفيديو المُصوَّر الذي نشره من داخل السجن، ولم يتسنَّ لي مشاهدته. إلتفت سامي في الأثناء، وقال لي عباس .. لقد جاؤوا بعباس السميع.
كان الشهيد عباس يعرج في مشيه، وحين مرّ على زنزانتا قابلنا بابتسامةٍ مثخنة بالجراح، وشاهدتُ سنّه الأمامي مكسورا. ونقلوه إلى الزنزانة الأخيرة مع علي الطويل.
بعد يومين، جاء ضبّاط إماراتيون برفقة الضابط (ملازم أول) عبد الله عيسى، الذي رُقّي الآن إلى رتبة نقيب، وكذلك الملازم معاذ. كان الضابط عبد الله عيسى يتظاهر بأنه غير متورِّط بالتحريض على السجناء وتعذيبهم، لكن الحقيقة أنّ يده ملطّخة في كلّ ما حصل.
كان أحد الضبّاط الإماراتيين ابن عم طارق الشحي، حين دخلوا علينا خاطبنا الضابط عبد الله عيسى وقال: “هل تعرفون من أتى؟!”، أجاب على الفور: “يوكم عيال زايد”. وأضاف: “ألحين بنراويكم”. تقدّموا إلى الشهيد سامي وسألوه: “ما هي قضيتك؟”، فأخبرهم بالتّهم التي يواجهها. فقالوا له: “ألحين بنراويك”، وأخذوه، ثم أخرجوا الشهيد عباس السميع معه، وأخذوهما بعيدا عنا.
ابن عم الشحي، وأنا أقدّم شهادتي لله، أتذكّر شكله جيداً، وقد قال: ” أنا لا أريد منهم شيئا”، وأضاف: “خل القضاء ياخذ مجراه”. كما طلب من الضبّاط عدم التعرُّض لهم. لكن ضابطا إماراتيا آخر قصير القامة، ويبدو عليه أنه من أصول يمنية، اعترض على كلام ابن عم الشحي، وقال: “لا أنا أراويهم هذلين”.
روى لي الشهيد سامي ما حصل بعد أن عاد وعليه آثار التعذيب قال بأنهم أخذوهما إلى صالة التلفزيون. في البداية قالوا لهما: “تسوون روحكم رياييل.. الحشد الشعبي.. وهادي العامري .. من راح الشهيد صدام سويتو روحكم رياييل يالشيعة .. وإحنا بنراويكم منهو أولاد السنة”. وباشروا تعذيبهما وضربهما، وكان من بين المعذِّبين الضابط حمد الذواذي، الضابط خالد التميمي، الضابط عبد الله عيسى، الضابط عيسى الجودر، والضابط معاذ.
كانت تلك المرّة الأولى التي يأتي فيها الضبّاط الإماراتيون إلى السّجن، ولكن تكرّر مجيئهم بعدها. إلا أنها المرة الأقسى في مشاركتهم مع الضباط الخليفيين في تعذيب الشهيدين سامي وعباس.
كان الشهيد عباس من شدة التعذيب ينزفُ دماً من أنفه وفمه. وكذلك لم يرحموا الشهيد سامي، حيث كان معي في الزنزانة، وعاينتُ جراحه في كلّ أنحاء جسده، وقد تورّم فخده من هوْل ما تعرّض له من التعذيب. ولم يراعوا فيهم إلا ولا ذمة.
مشاهدة التلفزيون خلسة
قبل انفلات الأوضاع في ١٠ مارس؛ كنّا قد طالبنا بأن نعامل كباقي المباني، وأن يُوفّر لنا جهاز تلفاز مثل بقية المعتقلين. وبعد عدد من الإحتجاجات والإضرابات استجابت الإدارة لهذا الطلب.
بعد اندلاع الأحداث كان بعض المرتزقة، أمثال الشرطي ساجد باكستاني الذي ذكرته سابقاً، والذي كان يتظاهر أمامنا بأنه شخص طيب، ولكنه يذهب للدرك الأردني ويحرّض علينا، ويخبرهم عن التهم التي نواجهها، ويفصّل لهم عن أسمائنا ويقول لهم مثلا “هذا قاتل” و”هذا هرب من السجن مرتين”.. وكان ذلك كفيلا بشحنهم، حيث يهجمون علينا مثل الوحوش ليفرغوا أحقادهم، ويمارسوا ضدنا التعذيب.
هذا الشرطي مريض نفسيا، والحقدُ سيطر على كلّ جوانبه، فهو يتمنّى لنا أيّ شرّ، ومن أيّ مكان، وتعتريه نوبة من الهمّ والغمّ من أيّ خير نناله. قبل أحداث مارس مثلاً. حين يأتي أمر من قِبل الإدارة بأن يُسمح لنا بشي ممنوعا علينا؛ يأبى هذا المرتزقُ الإنصياعَ للتعليمات، ولا يعرف أن يستقرّ وكأن الوجعَ استولى على قلبه. “إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها”.هذا النوعُ من البشر لا تُجدي معه طريقة للتعايش، ولا تتوقع منه إلا ما يسوؤك.
سارعَ هذا المرتزقُ الحقود لأخذ تصريحٍ بمنعنا من مشاهدةِ التلفاز. وقام بفصل الكهرباء عن التلفاز، وبحث عن “الريموت”، ولكنه لم ينجح في الحصول عليه.
بعد فترةٍ وجيزة، كنا أنا وحسين البناء آنذاك نستخدم سِلك (السيفون ) من الحمّام، ونقومُ بطريقةٍ معينة لاستعماله في سحْب الطاولة التي وضع عليها التلفزيون، وبطريقة أخرى كنّا نُرجع الطاولةَ إلى مكانها. على هذا النّحو تسنّى لنا معرفة بعض الأخبار، ومنها عرفنا عن موضوع اعتقال الشهيد علي السنكيس. ومن خلال التلفزيون أيضا عرفنا موضوع الحرب على اليمن.
بعد معرفتنا بنبأ اعتقال الشهيد علي السنكيس؛ شعرنا بقلق بالغ على حياته، وكنا نترقّب قدومه إلينا في أيّة لحظة، لكننا لم نتصوّر أننا سنلتقي به في تلك الحال.
وصول الشهيد علي السنكيس.. شامليدر
بعد فترة من الزمن جاؤوا بالشهيد علي السنكيس. وكان وجهه من الجانب الأيسر متغيّرا من التعذيب. الإنتفاخ بادٍ على محياه في الأمام وخلف رأسه. محيط عينيه منتفخ، وكلُّ وجهه كذلك. الضربُ كان يتجمّد على جسده المثخن بالآهات. كان وضعه مزرٍ جدّا، واستغرق قرابة الشهر إلى أن عادَ وجهه إلى سابق عهده.
أمّا الجلاّد الذي أتى به وأشرفَ على تعذيبه فيُدعى علوي، وهو مجرم قذر، متوحّش، مات إحساسه الآدمي، ونُزعت الرحمة من قلبه. لم يكن ذا قلبٍ أصلاً.
حين أدخلوا الشهيد علي ورأيته على تلك الحال؛ كسرَ قلبي منظرُه، وآلمني كثيرا. تعمّدوا إهانته وأحضروه وهو يرتدي ثياباً أكبر من حجمه وبمقاس كبير. كان القميصُ يصل إلى ركبته، والسُروال كبير وواسع ولم يثبت عليه. علماً أن لباس السّجن متوفّر بكلّ المقاسات. ولكنّهم أرادوا أن يأتوا به بأقصى ما يمكن من العذاب والمهانة.
في بداية الأمر، وضعوا الشهيد في القاعة الخارجية، ولم يكن يوجد له مكان، وبجنبه نزلاء اثنان من الجالية البنغالية.
قبل أن يأتي الشرطي المدعو عبد القيوم، كان الشهيد في وضع الانتظار. ناديته وطلبتُ منه أن يقترب منّا. لكنه كان يخشى أن يلاحظونه ويُعاودوا تعذيبه، إلا أنني طمأنته، وجاء قربي وسألته عن حاله. المأساة لم تكن خافية. كان كلّ شيء ظاهرا على جسده ووجهه. إلا أن الشهيد كان صابرا، محتسباً، ورابط الجأش. قال لي ممازحاً وهو في تلك الحالة العصيبة: “أنا بخير”. ثم أضاف وهو يبتسم: “ضربوني.. ضربة شامليدر وباليز وجاؤوا بي ..”.
حاولتُ أن أخفّف عليه وأنسيه جراحه، وقلتُ له: “لا تقلق نحن معك، سوف نزوّدك ببعض الملابس لكي تسستحم وتمسح بعض آثار العذاب”.
تقديم الجالية البنغالية على المواطنين
اكتظّ مبنى العزل، ولم تعد الزنازن تستوعب عدداً إضافيا، فكان لا بد من أن ينام البعض على الأرض، وأن يحظى آخرون بالنوم على السرير. في العادة تكون الأولوية إلى النزيل الأقدم زمناً. أو كبير السن، أو منْ له حاجة خاصة.
لكن القوانين الجائرة لإدارة السجن، والانتقام الشرير من المرتزقة المعذبين؛ كان يقضي بامتهان المعتقلين البحرانيين أو الشيعة على وجه الخصوص. هذا هو القانون الأساس في سجن جو. وقد أمروا الشهيد سامي مشيمع بأن يُفْرِغ سريره ليكون من نصيب سجينٍ بنغالي جديد!
شرطي باكستاني يبكي لحال الشهيد علي السنكيس
الشهيد علي السنكيس هو من الأشخاص الذين تعرّضوا للتعذيب الوحشي في السجن. وحين جيء بالشهيد، دخل مسؤول النوبة الشرطي عبد القيوم، وهو جلاّد معروف، ولكن الله ابتلاه في إبنه، حيث أُصيب بالسرطان، وقد أثّر عليه هذا البلاء كثيراً، فكان في آخر أيامه يُبدي توبته وندمه على فعله بحقّ السجناء.
تفاجأ الشرطي عبد القيوم بمنظر الشّهيد علي، وما ظهر عليه من تعذيب فظيع، وقد بكى لحاله وتأثّر كثيرا، فبادره بالسّؤال عمّا يشكو، ومن ماذا يُعاني، ثم أخذه على الفور إلى عيادة السجن.
في الحقيقة كنّا قلقين جدا على وضع الشهيد علي، وقد تأخّر في العيادة إلى وقت الفجر. كنّا نخشى من أن يكون تعرَّض لنزيفٍ داخليّ بسبب شدّة الإصابات في رأسه.
تعذيب الشهيد السنكيس في العيادة
بعد غيابٍ طويل، وفي الوقت الذي كنّا في لهفةٍ الانتظار والترقّب لمعرفة حاله؛ عاد الشّهيد، وسألناه في الحال عما جرى معه. أخبرنا الشهيد بأنّه تعرّض للتعذيب كذلك في العيادة، إلا أنه كشف أن الشرطي عبد القيوم وقفَ مدافعاً عنه، وهو ما ساعده في التخفيف على وضعه، ثم أخذه إلى الإدارة ليكتب إفادة عن تعرُّضه للتعذيب.
الشرطي علوي
بعد الفجر؛ جاء الشرطي علوي – وهو معذِّب متوحِّش – إلى الشهيد علي السنكيس، وسأله: “ويش فيك؟”. ردّ الشهيد مستغربا: “ماذا؟!” الشرطي علوي هو الذي عذّب الشهيد علي، وكان مجيئه وسؤاله ينبيء بأنّ وجبة تعذيبٍ أخرى “ستطالك يا ابن السنكيس”، هكذا قلتُ في قلبي وقتها.
قال الشرطي للشهيد علي: “تعال لتكتب إفادة كما يلي: أنت سقطت على المغسلة، وهذه الإصابات كانت بهذا السبب”. وقام الشرطي علوي بترتيب إفادة فحواها أن الشهيد علي السنكيس انزلق في الحمام، وسقط على وجهه وأصيبت عينه، وأنّ آثار الهراوات والتعذيب في جسمه وظهره هو نتيجة انزلاقه في الحمام!
هذه من الأمور المضحكة والمبكية، خاصة وأنّ علوي جلاّد ميِّت الإحساس، نُزعت من قلبه الرحمة، وهو من الجلادين الذين يجب أن تطاردهم يدُ العدالة، وأن يأخذوا حسابهم لما اقترفت يداه من جرائم وبشاعات.
الشهيد السنكيس: أخي الصغير الذي لم تلده أمي
تعلّقتُ بالشهيد علي السنكيس وتعلّق بي كثيرا، وكنت أخافُ عليه، وأحاول أن أساعده وأسدي له النصيحة في مختلف الأمور. وبسبب العلاقة الخاصة التي ربطتني به؛ فقد كنتُ أوبّخه إنْ فعل خطأ ما. لقد تعلّمتُ منه وتعلّم مني.
الشهيد علي، ورغم صغر سنّه، دخلَ تجربةً قاسيةً تفوق عمره. ولكنه أثبت أنه رجلٌ وجديرٌ بالنجاح. لمستُ فيه الذكاء. كان مثالاً للصفات والخصال الحميدة.
في شهر رجب كان يصوم معنا، رغم معاناته من نقص فيتامين (د)، لكنه كان يأبى إلا أن يشاركنا، رغم أنه كان يسقط مغميّاً عليه أكثر من مرة. إنّ رحيله وأخوتي، الشهيدين سامي وعباس؛ حَفَرَ جرحاً غائرا في قلبي، لن يندمل حتى يرى المجرمون العقاب.
الشهيد علي اعْتقل سابقاً وهو في عمر ١٥ سنة، ووُضع في سجنٍ مع كبار في السن، وأتوا به لنا وعمره يبلغ ١٩ سنة. لكن الشهيد عليّاً كان جبلاً أشماً صابراً وقوياً وشجاعاً، ولم يكن إلا معنا في التمرد، رغم ما لاقاه.
الحدث المحزن الذي هزّ قلبي
مرّت الأيام. كان هناك ضابط من قواب الشغب يأتي ويتحدّث عن الشّهيد علي السنكيس. كان هذا الضابط يعمل في محيط منطقة السنابس، ويتوعّد بشكلٍ دائم بأنه سيتمكّن من الشهيد، ومن حسين راشد ( السفروت).
وبعد اعتقال الشهيد، تكرّر استدعائه من قبل الضابط المذكور للتحقيق.
أخبرني الشهيد علي عمّا تعرّض له من تعذيب. وقال بأن ضابطا كان موكلا بمنطقة السنابس؛ قام بتعذيبه مع الملازم معاذ، وقد انهالوا عليه بالضّرب في قاعة التلفزيون في العنبر الثاني (٢). أفرغوا فيه غليلهم المسموم بالأحقاد. وأكّد لي الشهيد علي أيضا أنّهم عرضوا عليه أن يعمل معهم مخبرا.
ربطاً بالتعذيب الذي تعرّض له الشهيد، أذكر قبل أن يُعيدوه إلينا؛ جاءت نوبة وكيل اسمه محمد علي (وهو جلاّد معروف لدى السّجناء). طلبَ من الشّهيد علي أن يخلع نعله، وأجبره على أن يقفَ على رجله مدة ساعتين والنعال في فمه.
تأكّدت مع مرور الأيام ما كنتُ أشعره من أنّ الشهيد كان يُخفي شيئا عني. كنتُ أرى بأنه في غير وضعه الطبيعي، ونفسيته يعتريها حزن عميق. بعد فترة تحقّقت من الأمر، وعرفتُ أن الوحوش الآدمية اعتدت عليه جنسيّاً.
واجه الشهيد علي السنكيس محناً وصعوباتٍ كثيرة، وكنا نقف إلى جانبه سنداً وعضداً. كان الشّواذ من المرتزقة الأردنيين يباغتوننا ليحاولوا الإنقضاض على الشهيد علي السنكيس، وكنّا نقفُ جميعا وقفة رجل واحد لنصدُّهم ونمنعهم من الاقتراب إليه.
تمرد الشهيد علي السنكيس
ذات يوم، جاء وكيل قوة أردني يُدعى إيهاب، ويُلقّب بالمهندس. كان هذا المرتزق يريد أن ينقل الشهيد علي السنكيس مكان السجين فهد، وكانت قضيته قتل تايلندية والتمثيل بها قبل حرقها. لقد ارتكب جريمة فظيعة. والده يعمل فيما يُسمى جهاز الحرس الوطني، وإذا عُرف السبب بطل العجب! فقد تمّ تغيير حكمه في محكمة الإستئناف إلى مؤبد. وفي محكمة التمييز خُفّف الحكم إلى ١٥ سنة. وهو الآن ينتظر مكرمة للإفراج عنه.
بالعودة إلى المرتزق إيهاب. كان متجبّراً، ويتصرّف وكأنه ضابط، حيث كان يريد أن يُجبر السجناء للوقوف له إذا دخل عليهم. كنتُ دائما أتجاهله، ولا أعيره أي اهتمام.
حين دخل علينا في مبنى العزل؛ كنتُ وقتها مستلقياً. نصفُ جسمي على الأرض والنصف الآخر على السّرير، والسبب في ذلك أنهم بعد أن قالوا للشهيد سامي مشيمع أن يُفرغ سريره العلوي للبنغالي (النزيل الجديد الذي جاؤوا به بصحبة الشهيد السنكيس) تنازلت عن سريري للشهيد سامي، إلا أن المكان ضيّق، فاضطر لأكون بهذه الوضعية.
ذهب المرتزق إيهاب ناحية الشهيد علي السنكيس، وقال: “انهض حتى تذهب لتكون مع (راسل) في الزنزانة”. و(راسل) من الجالية البنغالية، محكوم بالإعدام، وتنتابه حالات نفسية، بحيث أنه هدّد (فهد) أكثر من مرة بأنه سوف يقتله.
رفض الشهيد علي، وقال له: “لن أذهب”. فقال الشرطي إيهاب بنبرة عالية: “قوم واجرك فوء رأبتك”.
نهضتُ وقتها من مكاني، وقلت للشرطي إيهاب: “مو على كيفك”. فرد عليّ: “شو ..؟” قلت له: “الّي سمعته.. وعلي ما بيغير الزنزانة.. إلا على قطع رقبتي علي ما بيتحرك”.
بدأ المرتزق بالصراخ عليّ، وأنا أرد عليه بالمثل. ثم دخل عليّ إلى زنزانتي، وأخرجني منها، ثم أخذني بعيدا عن الزنازن، وبحيث لا يسمعنا الشباب، وقال لي: “رضا.. انت كويس وشخص محترم.. وطبعا قرار نقل علي مو قراري.. هذا قرار الإدارة.. لكني أعدك بأنني سوف أتحرك على الموضوع لكي لا يقومون بنقل علي”.
منذ تلك الحادثة، تغيّرت معاملة هذا المرتزق معنا جميعا. أما الشهيد علي السنكيس فكان – مع هذه التجارب – يزداد إصرار وتمرّدا، وكان يرفض كثيرا الإنصياع لأوامر المرتزقة، وأصبح معي عضيدا ورفيقا في التمرُّد.
مواقف بطولية
حدثت معنا أمورٌ كثيرة في السجن، وفظاعات التعذيب أمرٌ ليس بالهيّن أبدا، لكن يجب أن نؤكد في المقابل بأنّ هناك مواقفَ بطولية للشّباب، رغم تكالب الأعداء، وعدم وجود الناصر. كان الله معنا وكفى بالله مُعِيناً.
تحدّينا وواجهنا، وثبتنا، ووقفنا، وتعاونْا، وراهنَ الأردنيّون على كسرنا، ولكنهم خابوا. قالوا بأن الأبواب لن تُفتَح، ولكنها فُتحت رغما عن أنوفهم. راهنوا على منع العزاء، لكنّنا أبينا إلا أن نرفعَ راية الحقِّ، مهما كانت الأخطار. واستمات الأردنيّون لمنع رفع الأذان ونداء “أشهد أن عليا ولي الله”، لكن صوت الحقّ كان يشقّ عنان السماء. في عنبرنا (١) لم نقطع الأذان، وعايشنا أجواء العنبر المجاور (٢) حين أذّن الشّاب سلمان من بلدة الدير، فجاءه أحد المرتزقة، وقال له: “اسكت”، لكن الحقّ يعلو ولا يُعلى عليه.
خافَ البعضُ، وصمدَ آخرون، ومن بينهم كثيرٌ من المحكومين في قضايا جنائية، والذين يستحقون منّا كلمات الشكر والعرفان لمواقفهم البطولية. إنّ السجنَ ليس نهاية، إنما هو امتحان، فمنهم من ثبُت ومنهم منْ هوى. والدرس الكبير الذي ألخّص به تجربة السّجن هو أن حقوقنا لم تكن عطية من أحد، وإنما انتزعناها بصمودٍ، وثبات، وتحدٍّ، وتحمُّل وصبر، ومقاومة.
تعليق واحد