مواضيع

لماذا “زفرات”؟

    مضى عامان على أحداثِ سجن جو المركزي في البحرين، إلا أنّها لا تزال تُلقي بجروحها الغائرة على جسد البلاد وأرواح أهلها الذين يرْوون القصصَ المؤلمة حول ما جرى – ويجري حتى اليوم – بأبنائها الأحرار في واحدةٍ من الفجائع الجماعيّةِ التي لم تزل تفاصيلها حبيسة الجدران والأقبية المظلمةِ وإلى أن ينتهي زمنُ إفلاتِ المجرمين من العقابِ.. وإلى أنْ يكفّ العالمُ عن صمته المريب ويبدأ بتحريك مشاعرِه الجامدةِ وهو يتلقّى الشهاداتِ الموثقة حول عذاباتِ السجناء بين يديّ الجلادين والقتلة المخفورين خلف القضبان.

   “زفرات”.. هو رسالةٌ مفتوحة من ضحايا مارس إلى العالم. ليس في هذه الرسالة استعطاف، ولكنها محاولة للإخبار عمّا حصل بالفعل، من غير التباسٍ بالخيال أو تلبُّس بالسرد الخاص. ما حصل كان جريمة، ومن بناتِ طباع النظام. ليس في هذه الجريمة ما يدعو للبحث عن متهمين بالتهوُّر، أو تتبُّع العثرات الجزئية، وهو ليس الظرف المناسب لتصنيف السجناء أو توزيعهم على قوائم، بحسب التوجُّه السياسي أو المذهب أو المستوى العمري والفكري، وكأنهم في مكان طبيعيّ يختارون فيه أوضاعهم ونظام السلوك العام. كانت جريمة مارس طبْعاً راسخاً في إدارة السجن، والقائمين بأمر السّجانيين، وإفادات السجناء في هذا الإصدار وجّهت البوصلة إلى جهتها الصحيحة، وقدّمت هذه الإفاداتُ الروايةَ السلمية لوقائع الجريمة، كما أنها كشفت الضّوءَ عن التيجان الناصعة للسجناء، وطبعهم الصادق، وعزيمتهم الثابتة، ورؤيتهم الجرئية للأحداث.

    كتبَ الضّحايا شهاداتهم بأقصى ما تُسعفهم عليه ذاكرةُ المحنة، وقدّموا مشاهد دقيقةً للحكاية، متوخّين التواضع والحقيقةَ في آن واحد. بعض السّجناء المعروفين، مثل الحاج عبد علي السنكيس والناشط علي صنقور وغيرهما؛ لم يكتبوا غيرَ إفاداتٍ مقتضبة، واختاروا عدم الحديث عن تفاصيل ما عانوه شخصيّاً، وكيف واجهوا بغت المرتزقة وشرورهم الوحشيّ. ولكن إفادات إخوانهم وزملائهم الآخرين أفصحت عن ذلك، ووثقّوا ما حصل لهم ولغيرهم.

     “زفرات”؛ هو إشعارٌ بأنّ ثمة بقعةً سوداء تتنامى وتنخرُ في كلِّ اتجاهاتِ هذه الأرض ليتجمُّع أسوأ ما فيها داخلَ السجونِ المكدّسة بالأحرار وبمئاتِ حكاياتِ الألمِ والثورة. هي “صرخةٌ في الظلام”، ولكن ليس في هذه الصّرخة “زفرات” بكاءٍ نادمٍ أو خضوع يائس للجلادين الحاقدين. في أوْج محنة سجن جو؛ لم يستطع الضبّاط الأردنيّون والخليفيّون أن ينتزعوا شيئاً إلا بالإكراهِ وتحت ضغْط فنونِ التعذيبِ التي تشهدُ عليها الجدرانُ المصبوغةُ بالآهات الملوَّنة. كانت الخيمُ تنتحبُ في ليالٍ طويلة وهي تشاهد ما يجري على السجناء. السّاحة العارية من السّلام والأمان؛ فاضتْ بالكدمات والتوجُّع. الترابُ تنفّسَ آلامَ الأقدامِ التي أُجْبرت على الوقوف أياماً متتالية. الحياء أصابه غمّ طويلٌ حين شوهد أسوأ الجلادين وهم يهينون خيرةَ رجال الوطن وشبابه. لكن ذلك كلّه لم يسْلب من السجناء ثقتهم بالانتصار. كانوا على يقين بالخروجِ الآمن من المحنة، وبقلوبٍ أكثر اتساعاً بالأمل الذي كان النّيْلُ منه هدفاً إستراتيجياً من وراء كلّ ما جرى.. ويجري.

المصدر
كتاب زفرات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟