بالدم.. كتبوا شهادتهم للتاريخ
السجين إنسان حر لا تحتويه جدران زنزانته، ولا تمنعه القيود من هزّ يديه في الهواء هاتفا ضد الديكتاتورية والاستبداد.
لقد تمرد على قوانين السلطان منذ أن آمن بالله، وأيقن أن الاستكانة للطغاة لا تستقيم مع الإيمان، فكفر بآلهة البشر قاطبة، ويمّم وجهه نحو الله، فأصبح حرا لا يضاهى.
انطلق في أجواء الحرية مزغردا كالبلابل على الاغصان، أو كالريح التي لا يحجزها شيء. في صراعه مع الباطل أدرك معنى إنسانيته، وأنها لا تتحقق إلا بالحرية والانعتاق من قيود الظالمين. فلا بيعة في عنقه إلا لله ومن عرفه وعبده وأطاعه وسعى لتطبيق شرعته. ولقد تخرج من سجون البحرين قادة كبار، صقلتهم التجربة وعمقت المعاناة في نفوسهم حب التضحية والفداء، فخرج الواحد منهم أسدا لا تحتويه الأقفاص ولا تسجنه القيود. وما قصة الهروب المتكرر من سجن جو إلا مؤشر لمدى قدرة الضحايا على كسر قيود الطغاة بارادتهم وايمانهم. وما استشهاد الثلة المؤمنة في التاسع من فبراير ٢٠١٧م وهم الشاب البطل، رضا الغسرة ورفيقا دربه، مصطفى يوسف ومحمود يحيي، إلا مصداق لعظمة ثورة البحرين وأبنائها الأشاوس. كما أن إعدام الابطال الثلاثة: سامي مشيمع وعلي السنكيس وعباس السميع في ١٥ يناير، الذين كسروا هامة الطغيان، شاهد آخر على استكمال الوحشية الخليفية التي تمارس بحق السجناء، بإعدامهم غيلة وعدوانا وظلما.
السجين “السياسي” البحراني لم يُعرف الخنوع في تاريخه أبدا، ولم يصافح المتألهين الذين منحوا أنفسهم مقامات فوق ما يستحقونه أو يستطيعون العمل بمقتضاه. لهم بصائر لا يحجبها عن الحق شيئ، وقلوب تحررت من الخوف منذ أن آمنت بربها واحتضنت الإسلام عقيدة وشريعة وأخلاقا وسياسة. منهم من جاء إلى الدنيا، فاستشهد أو اعتقل أو نفي، ومنهم من لا يزال في أرحام الأمهات. رضعوا جميعا من معين الإسلام، وشربوا من ماء أوال، وتعلموا من تراث الآباء والاجداد.
لقد انطوت نفوسهم على رفض الظلم والاستبداد والاستعباد والاستعمار. ورثوا ذلك أبا عن جد، واستحضروا في نفوسهم كيف عاش أسلافهم هموم الدين والحرية التي غرفوها منه، والشجاعة التي دفعت الواحد منهم لإعلان موقفه بوجه الطغاة، هاتفين في وجهه بدون خوف أو وجل. أولئك هم الأسلاف الذين تعلم منها سجناء البحرين ثقافة تتعمق بالتجربة وتغذي الرضيع بمعاني الكرامة والشهامة والعزة، ورفض الضيم والثورة على الظلم.
ثلة من أولئك وجدوا أنفسهم في سجن جو البغيض، أو كما وصفه أحد نزلائه “ألكاتراز البحرين”. مكث بعضهم فيه سنوات بلغت هذه المرة ستة أعوام متواصلة، وبعضهم كان نزيلا به ماضيا، وما تزال ذاكرة الكثيرين منهم تختزن ما فعله الجلادون بأهل الدين والأخلاق والضمائر الذين ما فتئوا يثورون على الظالمين.
أسماء اولئك الجلادين تبعث في نفوس بعضهم التقزز لما فعله أعداء الإنسانية ومنهم المقبور ايان هندرسون، وطلابه الذين تعلموا منه الوحشية والقسوة وأصناف التعذيب والمعاملة الحاطة بالإنسانية. أسماء الوحوش البشرية تتردد على ألسنة كبار السجناء الذين بدأت منحنهم وراء قضبان “جو” منذ قرابة الأربعين عاما. وقد تواصلت وحشية السجانين طوال تلك الفترة، وازدادت ضراوة في الأعوام الأخيرة خصوصا بعد انطلاق ثورة الرابع عشر من فبراير. هذه الوحشية وفرت الظروف لولادة جيل من السجناء عجنته التجربة وسوء المعاملة وصنعت منه رجالا أشداء كانوا نواة لـ “جيل الغضب” الذي فجر انتفاضة هي الأوسع في تاريخ سجن “جو” البغيض.
في شهر مارس ٢٠١٥ كانت انتفاضة ضحايا التعذيب تعبيرا عن عقود من الشعور بالظلامة والاستضعاف. وكما يقال، “احذر غضب الحليم”. هتف المئات من سجناء الرأي ضد العصابة الخليفية من داخل السجن، وكسروا قيود الصمت وهتفوا بوجه الجلادين، وأعلنوا عصيانا مدنيا متميزا فضح العصابة الخليفية وجرائمها واظهرها أمام العالم متعطشة للدماء والانتقام. كان للدرك الأردني المجرم دور في العدوان المتواصل على السجناء، حيث جاء به الخليفيون لقمع انتفاضة مارس بسجن “جو” فعبروا عن حقدهم وساديتهم. بعضهم كشف السياسة البريطانية الجديدة التي تم تدريب الجلادين عليها: عذبوا ولكن دون القتل، لا تسمحوا لانباء التعذيب بالانتشار، لا تتركوا آثارا على أجساد الضحايا تدينكم، التزموا سياسة إنكار وجود التعذيب دائما، امنعوا زيارات الأهالي ما دامت آثار التعذيب واضحة. قال الأردنيون للسجناء: “لدينا أوامر بأن نفعل ما نشاء بكم ولكن لا نقتلكم”. بهذه الوحشية قمعت انتفاضة سجناء الرأي، بإصابة المئات، ونُقل العشرات إلى الزنزانات الانفرادية، وإضافة سنوات سجن إضافية للبعض الآخر.
في هذه الصفحات تسجيل لحقائق ما جرى بسجن “جو” في شهر مارس ٢٠١٥. وهو توثيق لواحدة من أبشع الجرائم التي ارتكبت بحق السجناء في البحرين وغيرها. لقد كانت معركة غير متكافئة. فمن جهة وقف المعتقلون المظلومون يهتفون بألسنتهم ويلوحون في الهواء بقبضات أيديهم، ويمتنعون عن الطعام، بينما وقف اليزيديون على الجانب الآخر، مدججين بالسلاح والعتاد، وقد زيّن لهم الشيطان أعمالهم وصدّهم عن السبيل، وراحوا يمعنون في الضحايا ضربا وتعذيبا وتجويعا واهانة.
مزقوا أجساد البعض، ووضعوا عصابات العيون على البعض الآخر، ونقلوا قسم ثالث للسجن الانفرادي، وحرموا أغلبهم من الزيارات العائلية. هذا السجل الذي بين أيدينا يحتوي إفادات حية لجريمة هي الكبرى في تاريخ سجون البحرين، قامت بها العصابة الخليفية بأوامر أشرس ديكتاتور عرفته البلاد. إنها تعبير عن معاناة جيل كامل تعرض للقمع على أيدي جلاديه من المحتلين والغاصين والمرتزقة.
كلمات تنطق بالصدّق في الموقف مع الله والشعب والتاريخ، وتعبّر عن معاناة جيل من الشباب لم يهنأ يوما في ظل الحكم القبلي المتخلف، وشكوى صامتة إلى الله المقتدر الجبار الذي سينتقم للمظلومين يوما: “إنا من المجرمين منتقمون”. هذا التسجيل إنما قصد به أهله خدمة الحق والحقيقة والتقرب إلى الله بالامتثال لأوامره القرآنية: “لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم”.
ندعو الله أن يجعلها سببا لنزول الرحمة الإلهية على الشعب البحراني المؤمن الصابر، ومساهمة في خدمة الحق والحقيقة، وتوثيقا لأحد جوانب الحقبة السوداء التي فرضها الطاغية الخليفي على البلاد. ندعو الله أن يحمي سجناء الرأي هؤلاء، وأن يفتح لهم فتحا قريبا، وأن يمحق الطغاة والاستبداد والاحتلال،. إنه حميد مجيد.
بقلم الدكتور سعيد الشهابي