مواضيع

ربيع الحياة

والد الشهيد أحمد المؤمن

في يوم شهادتك الأول بعد ميلادك الثالث والعشرون يا ربيع حياتي، علي أيها في الساكن قلبي وإلى الأبد، يهيج بي الفراق لجسدك الفض الطري الذي مزقه غدر العابث بأمن الوطن، أحس بالحاجة لنظرة لذلك الثغر الباسم دوماً، ولقبلة على جبيني عوّدتني إياها ويجهلها الغادر، أحس روحك الطاهرة ترفرف على هامات شامخة عالية في وطني الغالي ..

أرى وجهك النوراني يحيطني بهالة الشهادة كلما نظرت إلى صورتك وذكرت اسمك العالي بخُلقك الرفيع، أزورك في روضتك الطاهرة فأحس بالأمان فلا ينقبض قلبي بالألم ولا الدموع ولا الحزن ..

سأروي لك قصة الربيع، أيها الربيع ورفيقُ صنّاع الربيع وجذوه، ليفخر بها كل الأحبة وليخسأ القاتل الوضيع ..

في الثامن من الشهر الكريم 1408 هـ الموافق 24-4-1988م يوم الأحد يوم السلام يوم المسيح، وفي ليلة أمطارها غزيرة وبالخيرات وفيرة، أخذتُ أمك «أم عبدالله» وهى في ألم المخاض قاصداً مستشفى السلمانية، وعند وصولي مخرج القرية حال القدر دون ذلك، فاشتدت غزارة الأمطار وألّم الألم الشديد بوالدتك فتوجهت مجبراً نحو مركز الولادة بسترة العز، وهناك استقبلتك يدا أمك الحنون وضمتك والسعادة تملأ قلبها لترضعك بحب الآل وأسميناك «علي» تيمّناً بمولى الثقلين شهيد المحراب في شهر الله، وتخليداً لذكرى الوالدين «علي وعلي» فعمت الفرحة في بيوت آل الشيخ والمؤمن، وشعرنا بالبركة والنعمة الإلهية، فبمولدك يا علي انتقلنا الى منزل جديد ..

«هدية ميلادك» افتتحته أنت بسبحات وتهليلات صياحك وبكائك ونورته بضياء وجهك ..

ترعرعت بين جدرانه وزواياه تملؤه بضحكاتك الهادئة، ونشرت البهجة فيه باللعب مع أخيك عبدالله وأختك يسرى وفاطمة، ودرجت سعيداً حتى بلغت 15 شهراً، وفقنا الله لزيارة عرفة الميمونة وكنت معنا زائراً لسيد الشهداء (ع) وقد مرضت مرضاً شديداً شارفت فيه على الموت لشدة الحمّى وصيف العراق، إلا أن مشيئة الله أبت إلا شهيداً صريعاً مقطعاً مواسياً لمولاك ومولاي الحسين (ع) في ولده علي الأكبر وفي عمره الشريف، لم تنل من الدنيا الفانية زواجاً فليزوجك من الحور العين ..

وبعد3٣ سنوات رزقنا الله مولوداً طيباً أخيك ورفيق حياتك السعيدة «حسين» فلازمتني الخروج والفسحة إلى المسجد والمأتم، إلى البحر أو زيارة الأصدقاء والأهل، وقد كنت مميزاً بين أقرانك رغم صغر سنّك، رغم حركة الطفل ونشاطه تتقيد الهدوء إذا ما طلب منك، يرتاح إليك أصدقائي تحادثهم وتجيب أسئلتهم كأنك بعضهم.

وفي عامك الخامس أخذتك أمك إلى عمّاتك لتاخذ من كتاب الله حظّك، فغدوت طفلاً مطيعاً مستجيباً للتعلّم، مستأنساً له مع أخيك وأخواتك وقرابتك، جزى الله عماتك الخّير فقد زرعن فيك حب القرآن الكريم ..

ثم انضممت الى روضة الزهراء (عها) لعامين احتضنتك السيدة الفاضلة أم أحمد المديرة المربية القديرة فكانت مثال الأم، غذّتك من الأخلاق والعلوم الأولية وصقلت شخصيتك فجزاها الله والمربيات معها كل الخير، ثم انضممت إلى مدرسة ابن النفيس فبرز ولمع اسمك طالباً مجدّاً متفوقاً خلوقاً محبوباً يُثني عليك كل مدرساتك بالإطراء، وقد نلت التفوق لتكرم على رأس المتفوقين، واستمر ذلك حتى بعد انتقالك إلى المراحل الأخرى، فكل من يلتقي أمك يسأل عنك وعن أخيك حيث يحذو حذوك، ويتذكرونك بالخير والاحترام، وكذلك مدرسوك في مدرسة سترة الابتدائية وأوال الإعدادية ثم الثانوية يفخرون بأنك من طلابهم، وفي الجامعة تألم حزناً عميد كلية الهندسة لمّا عرف عن استشهادك وأثنى على خلقك، ولم يكن هذا الإطراء بعد استشهادك فقط بل أيام حياتك، كلما ألتقي أحداً من معلميك يتحفني بالمدح ولأشقائك فيثلج بذلك صدري، فهنيئاً لك هذا العطاء.

وانتسبت إلى مركز الذكر الحكيم فتعلمت القران تجويداً، ثم علّمت ما عَلِمته، فكنت أحد المعلمين في المركز عملاً بالمأثور «خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه» وفزت في مسابقات القرآن، ففقدك هذا الصرح الطيب وكان ذلك واضحاً على معلميك وأساتذتك وزملائك من الحزن والأسى فجزاهم الله، ولا أخفي شعوري وارتياحي، فكلما التقيت أحدهم ينشرح صدري برؤيته فأتذكرك يا علي الخير فى خير محفل، ورجال في خدمة الدين والعباد راحتهم ..

وقد التحقت بجامعة البحرين لتكون معطاءً لوطنك، وذلك على حسابك الخاص طالباً مجداً متعاوناً مع زملائك ومدرسيك في قسم الهندسة، عشت معهم الأخوة الإسلامية شيعة وسنة حتى وصل بك الذوبان في أخلاق أهل البيت (عهم) حينما كنت تصلي مع زملائك السنة جماعة، فجسدتّ عنوان الأخوة الإسلامية والإيمانية ولا يعي ذلك إلا ذو ضمير، لكن إدارة الجامعة بخلت عليك حتى بالتعزية، واستحلت وسرقت رسوم الدراسة التي دفعتها قبل استشهادك بثلاثة أيام، وذلك عنوان الوفاء للقتلة!

أما عن حياتك في مجتمعك فلم أذكر يوماً أن شكى منك أحد من الجيران والزملاء، أراك ملازماً للمأتم تتغذى من خُلق أهل البيت (عهم)، أراك بقميصك الإعلامي إما مصوراً أوإدارياً أو مساعداً، أراك في المسجد تتحاشى التقدم عليّ في الصف الذي أنا فيه، لذا زرعت في قلبي حسرة كلما نظرت إلى الناحية اليمنى من المسجد حيث تتواجد دائماً فلن أنساها حتى اللحاق بك، وكلما نظرت إلى أبواب المأتم حيث قدومك متقلداً آلة التصوير لخدمة ربك وأهل البيت (عهم) ومجتمعك الذي درجت فيه، أراك في لجان الجمعية الأهلية فلم تقصر في العمل الجاد فيها، فكنت العطاء البارز العامل مع أخوتك، تعلمت فيها ثم أعطيتها مثابراً، وأرجو أن يحذو أخوتك وزملائك طريقك لتقرّ وتسعد بذلك روحك الزكية، وأن آخر البرامج التي نفذتها هو أسبوع المحبة وهوالأسبوع الذي نلت فيه شرف الشهادة الشريفة.

كنت ياعلي ذو ملبس متوسط جميل ومصروف قليل، لم أشعر يوماً أنك تشرف، كنت قنوعاً تأكل ما يُعرض عليك في المنزل من خيرٍ رزقناه ..

أراك صبوراً حليماً مع أخوتك في مراجعتك للدراسة معهم، وكنت عوناً لنا حيث عطائك الوافر، فبصبرك تفوق أخوتك ..

ترعرعت وكبرت في هذا البيت الذي أرجو الله أن يديم فيه عطاء الخير والبركة وخدمة عباده، حتى اقترب تخرجك من الجامعة، وأخذنا التفكير فقد كانت والدتك العزيزة تتحدث عن شعورها بالحرج فحولها الكثير من الفتيات، وتقول لن أتدخل في أمر خطبة ولدي علي فالأقارب والأصدقاء وكلهنّ كيبات، وقد كنت أقول لها إذاً ماذا أقول فكثير من الأخوة المؤمنين يبادرني ويلوح عن زواج علي، وأن عنده بنت له إلا أنك أرضيت الجميع منّا، ولم تغضب أحداً فاخترت وآثرت وهكذا أنت يا علي حتى النهاية زوجك الله الحور العين وأسكنك الجنة برفقة الشهداء والصديقين وعوّضك عما ألّم بك ..

وفي 12-2-2011م أعطيتك مبلغاً من المال لدفع رسوم آخر فصل دراسي في الجامعة، وقد كنت تلوح به وتقول إن هذا آخر مبلغ ستأخذه، ولقد صدقت يا ربيع حياتي ..

أما يوم الخميس الدامي 17-2-2011م الموافق 13 ربيع الأول 1432 هـ عند الساعة السادسة صباحاً نظرتك وأنت مشغول بالحاسوب، وهي آخر نظرة وما كنت أحسبها، توجهت بعدها إلى العمل ثم نظرتك في السادسة مساءً وأنت على سرير الشهادة، تعالج الموت والجراح التي عملها سلاح الحكم الظالم، لم يرقبوا فيك شبابك ولا حرمة لمواطن نادى بحقه فكانت جريمتك أنك كنت شريفاً لم تسرق كما سرقوا ولم تقتل كما قتلوك ولم تنتهك الوطن كما انتهكوا ..

آلمتني جراحك الدامية والنزف حيث رأيتك ممدوداً مقطّعاً ولكن ما إن ارتفع صوت الأذان حتى شعرت برغبة في أداء الصلاة لوقتها، شعرت بعدها بالقوة وأن ما نزل بك امتحان يجب الصبر عليه وكانت رحمةً بنا حيث أمك الحنونة أتت إليك مفجوعة بفعل الجناة الطغاة تبكيك وعزائها أنك شهيدٌ للدين والوطن ..

أخبرني الأطباء أن الجراح كبيرة والنزف أخذ مأخذه والأمر إلى الله، فأسلمت أمري لخالقي، وعند الساعة 9:20 مساءً من ليلة الجمعة 17-2-2011م الموافق 13 ربيع الأول 1432 هـ أبيت إلا الرحيل مترجماً ما قلته صباحاً أيها البطل «نفسي فداء وطني»، وأبى اله وشاء إلا اللقاء وأخذ أمانته نمنّا، فلقد أعطاناً إياك خيراً كثيراً باراً وصولاً مطيعاً حتى إذا اكتملت رجلاً مؤمناً محبوباً ابتلانا بحبك كما أخوتك، أرادك لنصرة دينه فاسترد أمانته مأمونة غير منقوصة، فنحمده ونشكره على كل حال ونسأله حسن الخاتمة لنا ولك ولذريتنا وأن يتقبلك قرباناً في سبيله .. علي نم قرير العين ..

عَلــيُّ بُنَــيّ إلّيْــكَ مـنّي ســلاماًشــهيدَ المــجدِ قــد نـلت المُــرامَا
عَلــيُّ أيَــا أملــي الّـذِي تَسَــامَىفصِرتَ إليَّ بِديني ودُنيايَ وِسَامَا

والسلام عليك يا ولدي يا علي يوم ولدت فأنرت حياتنا، ويوم استشهدت قرباناً إلى الله، ويوم تبعث حياً شفيعاً لنا متعلقاً بقاتلك تشكوه إلى الله ..

وإنا لله وإنا إليه راجعون ..

رحم الله من قرأ الفاتحة لروحيْ جدي الشهيد الأستاذ عبدالله المؤمن والحاج علي بن الشيخ أحمد اللذان لهما الفضل على الشهيد

المصدر
كتاب المؤمن الممهد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟