حنكة علي العسكرية
اشتهر أمير المؤمنين بشجاعته وضرباته الحيدرية، وقد أشدنا فيما سبق إلى جانب من دوره في الغزوات وتأثير مواقفه في تغيير مجريات الأحداث لصالح المسلمين، وهنا سنتطرق إلى جانب مهم في الحروب في شخصية أمير المؤمنين الذي للأسف لا يتم التطرق إليه وهو حنكة علي العسكرية، وسنشير إلى بعض النماذج منها:
- غزوة ذات السلاسل: قيل أن سبب نزول سورة العاديات أن النبي بعث عليًا مع بعض المهاجرين والأنصار ليحارب جمعًا غفيرًا من الكفار تجمعوا لمحاربة المسلمين، وهجموا عليهم صباحًا ودحروهم وقتلوا جماعة وأسروا النساء والأطفال وغنموا أموالًا كثيرة، فلما نزلت السورة خرج رسول الله إلى الناس وصلى بهم وقرأ في الصلاة: <وَالْعَادِيَاتِ>[1] «فلما فرغ من صلاته قال أصحابه: هذه السورة لم نعرفها. فقال النبي: نعم، إن عليًا ظفر بأعداء الله وبشّرني بذلك جبرئيل في هذه الليلة. فقدم علي بعد أيام بالغنائم والأسارى.»[2] والآيات الخمس الأولى من هذه السورة المباركة تتحدث عن التكتيك العسكري الذي اتبعه أمير المؤمنين ووقائع المعركة، أما التكتيك العسكري الذي لجأ إليه وانتصر به القائد الإسلامي الفذ علي بن أبي طالب فهو: بعد أن عرض عليهم أمير المؤمنين دخول الإسلام حقنًا للدماء ورفضوا وأصروا على قتالِ المسلمين، قام أمير المؤمنين بتجهيز الجيش ليلًا وحدد وقت الهجوم فجرًا قبل الشروق، وكان يهدف من ذلك مباغتة القوم وهو قوله تعالى: <فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا>[3] صلى الأمير بالجيش صلاة الصبح وتحرك نحو العدو وكانت الخطة هي مباغتة القوم واختراق جيش العدو حتى وسطه ليتم تفريقه إلى قسمين، والأهم هو انقطاع الاتصال بين الجيش وقائده، وهذا يؤدي إلى هزيمة الجيش تلقائيًا وهذا الذي حدث، وهو قوله تعالى: <فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا>[4] وانتصر المسلمين بأقل الخسائر وجروح بسيطة، كان تفكير أمير المؤمنين وهدفه من هذا التكليف هو حقن دماء المسلمين وتحقيق النصر بأقل الخسائر، وقد تحقق هذا الأمر بالإضافة إلى الغنائم الكثيرة والأسرى الذين ربطهم أمير المؤمنين بحبل على شكل سلسلة، لذلك سميت بغزوة ذات السلاسل، وهذا يعكس جانب من الحنكة العسكرية عند أمير المؤمنين.
- معركة الجمل: موقف آخر يعكس حنكة علي العسكرية وذلك في معركة الجمل، في البداية وعظ أمير المؤمنين القوم لمنع حدوث قتال بين الطرفين حقنًا لدماء المسلمين ولكن بعد إصرارهم على القتال ومع تركيز الأمير على الحفاظ على دماء المسلمين وإنهاء المعركة بأقل الخسائر، كان لابد من تكتيك يحقق هذا الهدف فنظر علي بحنكته العسكرية وقال[5]: أن هذه الحرب قائمة على شخص عائشة لأنها بشخصيتها الاعتبارية كونها زوجة رسول الله كانت هي في الوسط والجيش ملتف حولها فإذا تم قطع أرجل الجمل وسقطت عائشة أرضا ستنتهي الحرب، فأعطى أمير المؤمنين السيف لمحمد بن الحنفية وطلب منه اختراق الجيش حتى يصل إلى الجمل ويقطع أرجله، فذهب محمد وحصل على مقاومة من أصحاب الجمل فلم يتمكن من الاختراق ورجع، فسلم علي السيف للإمام الحسن وتقدم واخترق الجيش وقطع أرجل الجمل فسقطت عائشة وانتهت المعركة ولم تحصل مواجهة حقيقية بين الطرفين، وانتصر جيش الأمير بأقل الخسائر، ومن هنا حملت عائشة الأحقاد على الحسن، ثم لاحقًا منعت دفنه عند جده رسول الله (ص).
- حكم علي في أهل الجمل وصفين: ونعرض هذا السؤال الذي سأله القاضي يحيى بن أكثم الإمام الهادي وجواب الإمام عليه إذ يكشف الحنكة العسكرية الاستثنائية للأمير وقدرته التدبيرية العالية في اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب في ساحة المعركة وبعد المعركة، والسؤال هو: لماذا ترك علي أهل الجمل ولم يلاحقهم ويواصل محاربتهم بعد انتهاء المعركة، في حين لم يترك أهل صفين وواصل الحرب عليهم، فلما هذا التفاوت في الموقف؟
فجاوبه الإمام الهادي (ع): «إن علیا (ع) قتل أهل صفين مقبلين ومدبرين وأجاز على جريحهم، وإنه يوم الجمل لم یتبع موليًا ولم يجز على جريح ومن ألقى سلاحه آمنه ومن دخل داره آمنه، وأن أهل الجمل قتل إمامهم ولم تكن لهم فئة يرجعون إليها وعندما رجع القوم إلى منازلهم غير محاربين ولا مخالفين رضوا بالكف عنهم فكان الحكم فيهم رفع السيف عنهم والكف عن أذاهم إذ لم يطلبوا عليٍّ أعوانا، وأهل صفين كانوا يرجعون إلى فئة مستعدة وإمام يجمع لهم السلاح والدروع والرماح والسيوف ويسدي لهم العطاء ويهيئ لهم الأنزال ويعود مريضهم ويجبر كسيرهم ويداوي جريحهم ويحمل راجلهم ويكسو حاسرهم ويردهم فيرجعون إلى محاربتهم وقتالهم فمن رغب عرض عن السيف أو يتوب من ذلك»[6] هذه بعض المواقف التي تعكس حنكة أمير المؤمنين العسكرية والتي لا تقل أهمية عن شجاعته وضرباته الحيدرية في الحروب وتكشف عن كمال هذه الشخصية الإلهية.