عهد الثالث
جدول المحتويات
في عهد الثالث بدأت مرحلة جديدة كانت تستدعي أسلوبًا جديدًا وتعاملًا آخر من قبل أمير المؤمنين مع الوضع، إذ الشرط الذي وضعه لعدم التصدي المباشر من قبله ولتجاوزه وهو: «وَواللَّهِ لَأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ»[1]، حيث في زمن الأول والثاني كانا حريصين على الحفاظ على المظاهر الإسلامية وعدم مخالفتها، لذلك في حال تطلّب الأمر تعديًّا على شرع الله كان يتم ذلك باسم الدين، أما في زمن الثالث فقد تجاوز كل الحدود ولم يراعِ حرمة الإسلام وكانت منكرات يعمل بها في قصر الخليفة فضلًا عن القضاء على الظاهر الإسلامي للدولة، والتجرؤ العلني على الله تعالى والشرع المقدس، فما كان من أمير المؤمنين إلا أن أعلن عن سياسة جديدة في التعامل مع الوضع المستجد وقال أمير المؤمنين بهذا الخصوص: «فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الْإِسْلَامِ يَدْعُونَ إلى مَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدٍ»[2] فقد اصبح زمام الإسلام بيد ألد أعداء الإسلام بني أمية الذين انتقلوا من الكفر إلى النفاق في فتح مكة، ومن النفاق إلى الكفر بعد رحيل رسول الله فأصبح الإسلام يحارب باسم الإسلام، والتخطيط للقضاء على الإسلام يتم في داخل قصر الخلافة ويتم التنفيذ، حتى بدأت الناس ترجع عن الإسلام ولا تعمل بالتعاليم الإسلامية فما كان من أمير المؤمنين إلا النزول إلى الميدان والتصدي للعمل الاجتماعي والسياسي، ونتذكر موقفين من مواقف الأمير في هذه المرحلة ولكن قبل ذلك لابد من الإشارة إلى أن الأمير كان حريصًا على البيان عند تصديه للوضع ليس من باب حب الأنا والذات، وإنما خدمة للإسلام، وكان يؤكد على هذا الأمر مرارًا وتكرارًا، ومن هوان الدنيا على الله أن علي بن أبي طالب يؤكد مرارًا أن عمله خالص لله ولخدمة الإسلام وليس لنفسه ولذاته.
نفي أبي ذر
إن جهاد أبي ذر ومحاربته للفساد ومواجهته المباشرة لشخص الخليفة الثالث بكل جرعة وشراسة لا يخفى على أحد بل هو مضرب مثل حتى للمجاهدين الشرسين دائمًا ما يتم تشبيههم بأبي ذر، ويقال عن الواحد منهم بأنه أبو ذر هذا الزمان، بطبيعة الحال هذا الوضع لم يرق للخليفة الثالث فأمر بنفي أبي ذر إلى الربذة، وكان القرار يتضمن حظرًا تامًا على أبي ذر ومنع توديعه وتعرض أي فرد يكسر هذا الحظر ويقوم بتوديع أبي ذر إلى العقوبة، وقام أمير المؤمنين برفقة الحسنين بتشييع أبي ذر إلى حدود المدينة، وهناك قاموا بتوديعه بعد أن ذكر أمير المؤمنين بعض من فضائل أبي ذر، وبهذا:
- كسر الأمير الحظر المفروض على أبي ذر.
- عارض قرار الخليفة بشكل علني بل جعله حبرًا على ورق.
- أعلن وقوفه مع الحق المتمثل في أبي ذر وهذا يعني ضمنًا أن الخليفة على باطل.
- انتصر للقيم والمبادئ الإسلامية التي كان يدافع عنها أبو ذر وهذه دعوة إلى الناس بالرجوع إلى الإسلام، والتمسك بالتعاليم الإسلامية على نهج أبي ذر.
- أعطى الشرعية إلى المعارضة والوقوف بوجه الحاكم الفاسد حتى لو كان يحمل مسمى الخليفة.
الثورة على الخليفة
هذا أهم حدث في زمن خلافة الثالث وكان لأمير المؤمنين حضورًا مباشرًا وفاعلًا فيه، وهذا ما سنتحدث عنه بشيء من التفصيل، ولكن قبل ذلك سنتحدث عن فساد الخليفة وسيطرة بني أمية على مفاصل الدولة الإسلامية واللعب بمقدرات المسلمين الذي أدى إلى استثارة الشخصيات المعروفة والتي كانت موجودة من زمن رسول الله كعائشة وطلحة والزبير وغيرهم، والاستفادة من سخط الناس ومشاعرهم المتأججة ضد الخليفة بسبب الفساد والظلم، استطاع هؤلاء التحشيد للثورة من أجل قتل الخليفة وقاموا بمحاصرة بيت الخليفة تمهيدًا للتخلص منه، وهنا قام أمير المؤمنين بالتدابير التالية:
- أرسل الحسن والحسين بالدفاع عن الخليفة لحمايته وذلك لأسباب التالية:
- ليس دفاعًا عن شخصه وإنما بصفته الاعتبارية في الدولة الإسلامية.
- حتى لا يتم التأسيس لخيار قتل الخليفة من قبل خصومه ويفقد أعلى منصب في الإسلام هيبته، وهنا لابد من التوضيح أن هذا الموقف للأمير جاء لأن الثورة على الخليفة لم تكن بقيادة الإمام الشرعي، وإنما من أجل مكاسب ومصالح دنيوية لفئة أخرى في قبال الخليفة، أما إذا كانت الثورة على الحاكم الفاسد بقيادة الامام الشرعي أو من ينوب عنه ومن أجل الله والإسلام العزيز فهذا سبب ساقط ولا مبرر له.
- وجود حاكم ظالم أفضل من الفراغ والفوضى التي ستكون أضرارها أشد على الامة.
- كسب الوقت من أجل إيجاد حل أفضل كما سنشير إليه في النقطة التالية.
- المحاصرون لمنزل الخليفة منعوا وصول الماء والغذاء إليه تمهيدًا للقضاء عليه، وفي المقابل كان أمير المؤمنين بطريقة خاصة يوصل الماء والغذاء للخليفة وفي الوقت نفسه يسعى للحوار مع المعارضين وذلك بالإضافة إلى الأسباب الذي ذكرناها في النقطة الأولى.
- منع إراقة دماء المسلمين.
- تهيئة الارضية للطرفين للجلوس على طاولة الحوار وهو الوسيلة الافضل في تلك المرحلة والظروف.
- الوصول إلى حل يرضي الطرفين ويكون فيه مصلحة الامة والإسلام مع أقل الخسائر الممكنة.
وفي الختام بعد ذكر بعض المواقف في فترة عهد الخلفاء أقول أن الهدف كان ثابتًا عند الأمير، والمتغير هو الأسلوب، والهدف هو الحفاظ على الإسلام ومصالحه وبيان الحقيقة والدفاع عنها، أما الأسلوب فقد مرّ بالتدخلات الموضوعية بحسب الحاجة، وأخرى بالتصدي المباشر، وبمجموعه يمثل سكوت أمير المؤمنين خمسة وعشرين عامًا ويوضح هذا معنى السكوت.
بعد مقتل الثالث
غضب أمير المؤمنين لمقتل الثالث واجتمعت الناس عليه فقال لهم: «دَعُونِي وَ الْتَمِسُوا غَيْرِي»[3]. إذا أخذنا كلام الأمير وغضبه وكيفية تعاطيه مع الحفاظ على منزل الثالث، كل ذلك يبيّن بوضوح أن أمير المؤمنين لم يكن يتحيّن الفرصة للخلافة وإنما كان يبتعد عنها ولكن اضطر علي أن يقبل الخلافة بعد الإصرار الشديد من الناس واجتماعهم عند منزل الأمير لمبايعته للحد الذي وطئ الحسنان كما يقول الأمير في الخطبة الشقشقية، وفي هذه إشارة إلى العدد الهائل الذي اجتمع هناك لمبايعته، وقد وصلت الناس إلى هذا القناعة بعد أن مرت بتجارب مريرة بعد مدة خمسة وعشرين عامًا، فوجدت الخلاص في ثوب الخليفة الشرعي لرسول الله وبعد أن أتم أمير المؤمنين عليهم الحجة قام حاكمًا فيهم وحدد لهم الأساس الذي قبل به أن يحكم ملامح سياسته وأهدافه التي سنشير إلى بعضها، كما استفدنا من هذا الموضع لتوثيق المبادئ والقيم الانسانية وقدم نموذجًا للحاكم والحكومة الإسلامية.