سلاح البكاء
لم تكتفِ الزهراء في معارضتها السياسية والثورية بالأساليب التقليدية فقط، بل أبدعت بابتكارها لأساليب جديدة كانت لها قدم سبق فيها وهي أول من أسست لها، وهنا نشير إلى إحداها والبقية لاحقًا في العناوين التالية، من إبداعات فاطمة الثورية هو سلاح البكاء، وقول الإشارة إلى الأهداف التي حققتها الزهراء ووظّفت هذا السلاح المبدع والفعّال، أقف عند نقطة مهمة ونرفع إشكالية موجودة في أذهان البعض حيث أنهم يعتقدون أن الزهراء كانت تبكي على ظلامتها ويفهمون من شتم القوم وأهل المدينة لأمير المؤمنين بأنهم قد تأذوا من بكاء فاطمة؛ لأن ذلك من شدة نحيبها حتى كان يسمع صوت بكائها، حاشى للزهراء أن تكون كذلك وفي هذا تعدٍ على مقام فاطمة، فليست الزهراء التي تجزع وترفع صوتها بالبكاء حتى يسمعها الأجانب ويجب أن لا تختلط علينا الأمور، هناك فرق بين أن تقف الزهراء بكامل سترها وحشمتها وعفتها وتخطب دفاعًا عن الحق، وبين أن ترفع صوتها بالبكاء لتلفت نظر الأجانب لأمر معين، وهذا الفعل لا نرضاه لامرأة عادية فضلًا عن الزهراء.
أما الموقف الأول فهذا هو تكليف كل امرأة تتبع الزهراء، إذ تطلب الأمر مع مدارية الحفاظ على الحجاب الزينبي والستر والعفاف، وهذا هو الأساس فلا خير في امرأة مهما كانت من غير حجاب وعفاف، وأما بكاء فاطمة فهو أن جعل من بيتها مركزًا وهي بنت رسول الله تتوافد إليه نساء المدينة من أجل مشاركة الزهراء حزنها على رحيل أبيها وهي تبكي على ما جرى عليها وعلى أمير المؤمنين بعد رسول الله، واستمرار هذا الأمر يعني إلقاء قضية فصل الخلافة حيّة، فالموضوع له جنبة سياسية، لذلك أراد القوم التخلص من هذا الأمر الذي يشكل خطورة على مصالحهم، فشكوا إلى أمير المؤمنين بكاء فاطمة بذريعة إلى متى ستستمر على هذا الحال؟ وذلك يشكل أذى إلى الأهالي في المدينة، فما كان من الزهراء إلا أنها كانت تخرج إلى البقيع على مسافة من بيوت أهالي المدينة وتستظل بشجرة الأراك وتواصل جهادها في صيغة حزن وبكاء، فقام القوم بقطع الشجرة وهذا أكبر دليل أن أذاهم ليس من بكاء فاطمة، وإنما من تبعات هذا الموقف وإلا فلماذا يقطعون هذه الشجرة وهي تبكي بعيدة عنهم ولا شأن لها بهم؟ ماذا فعلت فاطمة بعد هذا الموقف؟ هل توقفت؟ أبدًا، واصلت إبداعاتها هذه المرة مع أمير المؤمنين فكان البديل هو بيت الأحزان، فما هي دلالات فاطمة لسلاح البكاء والإصرار على هذا الموقف؟
- إحياء قضية إمام زمانها وجعلها حيّة إلى الأبد، وهذا هو نفس السلاح الذي لجأ إليه الإمام السجاد لإحياء قضية الإمام الحسين وأصل الابتكار للزهراء.
- ابتكار سلاح لا يمكن للعدو دفعه فليس بإمكان عدو أن يمنعك من البكاء.
- إيصال رسالة لأهل المدينة أنها غاضبة وغير راضية عما جرى ويجري وهم سمعوا رسول الله يقول: «فاطمة يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها».
- قضية غصب الخلافة وبيت الأحزان الشاهد على كل ذلك.
- لم تتوقف عن المعارضة والمطالبة بحق أمير المؤمنين إلى آخر نفس وبكل الطرق، وحتى يسترد من الحق المسلوب.
وهنا نتعلم من مولاتنا فاطمة أمرين مهمين:
الأول: ينبغي أن لا نصاب بالجمود في حراكنا الثوري والسياسي، بل علينا دائمًا أن نبدأ في ابتكار الأساليب الجديدة في مواجهة العدو.
الثاني: هناك بكاء إيجابي وآخر سلبي، فإذا كان إيجابيًا فهو سلاح وهذا ما فعلته الزهراء والإمام السجاد، وإذا كان سلبيًا لا يعدو كونه منفس عن هموم إنسان ضائع ذليل مستسلم للواقع.