مواضيع

بعد رحيل النبي (ص)

في هذه المرحلة من حياة فاطمة يظهر الجانبان الثوري والسياسي في شخصيتها بشكل أوضح وأبرز إذ بمقتضى المرحلة عند رحيل النبي إلى استشهادها كانت جميع مواقفها ثورية وذات أبعاد سياسية فقد وظّفت ما تبقى من أيام عمرها القصير المبارك بالثورة على مغتصبي الخلافة والطلب بحق أمير المؤمنين (ع)، وتثبيت مظلوميتها على مر التاريخ، بل ذهبت فاطمة إلى أبعد من ذلك بكثير إذ وظّفت استشهادها ومرحلة ما بعدها في تسجيل مواقف ثورية سياسية للتاريخ دفاعًا عن الولاية وترسيخًا لحق علي ومظلوميتها إلى ظهور بقية الله الأعظم يوسف فاطمة أرواحنا لتراب مقدمه الفداء.

الدفاع عن الولاية

عندما جاء القوم على باب دار فاطمة من أجل أخذ البيعة من أمير المؤمنين ولأن الرجال غابت وركنت إلى الدنيا، جاءت فاطمة خلف الباب لتكون المدافعة الأولى وأول الفدائيين في سبيل الدفاع عن الولاية، وهذا يبيّن لنا أهمية وعظمة الولاية والدفاع عنها، حتى أن سيدة الأولين والآخرين ضحّت بنفسها وجنينها من أجل الولاية، فهنيئًا للسائرين على نهج فاطمة، أولئك الذين يعيشون تحت راية الولي الفقيه ويلتفون حولها ويدافعون عنها ويضحون بأرواحهم من أجلها.

وبالعودة إلى موقف الزهراء فهي لم تأتِ خلف الباب للدفاع عن زوجها، وهذا ليس موقف عاطفي بديهي من زوجة تجاه زوجها، وليس الأمر هو الدفاع عن حق زوجها المغصوب، فلو كان كذلك فهذا سعيها للدنيا والمصالح الشخصية، وحاشى للزهراء ذلك فتعالت عن ذلك علوًا كبيرًا.

فاطمة كانت تنظر إلى علي بصفته خليفة رسول الله وإمام زمانها المفترض الطاعة وقد جاءت خلف الباب لأداء تكليفها الشرعي بروح ثورية ودفاعًا عن أمر الله ورسوله والحق الإلهي المغتصب، ومجيئها خلف الباب موقف ثوري وسياسي أرادت الزهراء تحقيق عدة أهداف منها:

  1. في هذا الصراع السياسي الإسلامي كانت هي الإجابة بالحق، وهذا الحق كان متمثلًا في حق علي بن أبي طالب.
  2. أرادت أن تسجل موقفًا للتاريخ على القوم مفاده أنهم اغتصبوا الخلافة وهم يعلمون أن عليًا أولى بها.
  3. سعت إلى إرجاع المستمعين إلى رشدهم بما لها من خصوصية كونها بنت رسول الله.
  4. لو لم تسجل الزهراء هذا الموقف لمرّ الحدث كأي حدث عادي من غير أي تداعيات.
  5. ما حدث للحرب الإعلامية تشكل ضغطًا على مغتصبي الخلافة، وهذا يبين بوضوح النظرة السياسية الثاقبة للزهراء وأنها بحد ذاتها مدرسة سياسية متكاملة.

بالإضافة إلى الجانبين الثوري والسياسي لهذا الموقف، هناك أمران مهمان قامت بهما الزهراء (ع):

الأول: إتمام الحجة على القوم.

الثاني: علّمتنا أن لا حيادية في صراع الحق والباطل ولابد من نصرة الحق بكل ما تملك، والدفاع عن صاحب الحق كائنًا من يكون من غير الاكتراث إلى كلام الناس والعمل بما يرضي الله سبحانه وتعالى.

تذكير أهل المدينة بالغدير

بالرغم مما جرى علينا من أحداث متتالية، وبالرغم من كل جراحاتها وآهاتها لم تهدأ الزهراء ولم تنكسر وترضخ للأمر الواقع، ومع علمها بقساوة العدو الذي لا يخاف الله، واصلت معارضتها للباطل ودفاعها عن الحق بكل الوسائل السياسية والثورية المتاحة، ينقل لنا التاريخ أن فاطمة طرقت أبواب بيوت المهاجرين والأنصار بيتًا بيتًا وكانت تذكرهم بحادثة الغدير وهم جميعًا قد شهدوا يوم الغدير وتطرح عليهم التساؤلات التالية ألم تشهد يوم الغدير؟ ألم تسمع قول رسول الله (ص): من كنت مولاه فعلي مولاه؟ ألا تعلم أن علي أولى بالخلافة؟ ولكن لم تجد إلا الصد، ونستخلص من هذا الموقف النقاط التالية:

  1. فاطمة كانت تعلم أن القوم لا خير فيهم ولن تجد منهم إلا الصد، ولكن ذلك لم يمنعها من أداء تكليفها، ونتعلم من سيرتها المباركة أن علينا أن نقوم بواجباتنا السياسية والثورية ونؤدي تكليفنا الشرعي بغض النظر عن استجابة الناس من عدمها وغير صحيح تقاعس البعض عن أداء تكليفهم بحجة عدم تجاوب الناس.
  2. بهذا الموقف ضربت عصفورين بحجر واحد من الناحية السياسية، فهي في الوقت الذي رسّخت أهمية أمير المؤمنين للخلافة في ذلك المجتمع، وللتاريخ سحبت من أولئك القوم بساط التعذّر بعدم معرفتهم بغصب الخلافة وأحقية علي بها.
  3. الزهراء لم تسمح لمغتصبي الخلافة بتزوير الحقائق السياسية.
  4. سعت إلى خلق بيئة سياسية يمكن البناء عليها مستقبلًا للدفاع عن الحق المسلوب.
  5. من الناحية الثورية، استطاعت الزهراء أن تواجه القوم وتزيل حاجز الخوف عنهم بحديثها العلني عن حق أمير المؤمنين، ولعل الغيرة تتحرك عندهم وهم يرون بنت رسول الله تستصرخهم.

المطالبة بفدك

قضية فدك تكشف جانب آخر من شخصية فاطمة الإلهية الرسالية، إذ لهذه القضية أبعاد اقتصادية ولها دور مهم في توزيع قوة أحد طرفي الصراع، إذ يكفي أن تعرف أن ميزانية الدولة العربية الحجاز والتي تقدر بمئات المليارات من الدولار في جزء منها تعتمد على مبيعات فدك، ولو كانت فدك بأيدي أصحابها لما وجد سيد فقير يحتاج إلى الخبز، بل كانوا السادة أبناء فاطمة هم من يتصدقون على الناس كآبائهم وأجدادهم الطاهرين، هذا في زماننا هذا، فما بالك في ذلك الزمان، الزهراء التي قضيت صائمة ثلاثة أيام من غير إفطار وكانت تنام على الحصير وتأكل الشعير الذي كانت تطحنه بيدها المباركة لا حاجة لها في فدك، مع الأخذ بعين الاعتبار أنها حقها، لكنها طالبت بفدك بقوة ودخلت في مناظرات واحتجاجات لاسترجاعها لتوظيفها في سبيل إرجاع الخلافة المغصوبة وذلك للأسباب التالية:

  1. من يملك المال يملك القوة.
  2. وجود فدك عند أمير المؤمنين يقويه اقتصاديًا ويضعف مغتصبي الخلافة من الناحية الاقتصادية.
  3. هذا الأمر كان يؤدي إلى اجتماع حول أمير المؤمنين وتفرقهم عن مغتصبي الخلافة.
  4. قوة أمير المؤمنين الاقتصادية واجتماع الناس حوله لأعوام كانت تؤدي إلى ثورة بيضاء على الخلافة الغير شرعية واسترداد الحق المسلوب.

إذًا وكما أشرت إلى هذه القصة السياسية الثورية، يظهر جانب آخر من شخصية فاطمة فهي كانت تعلم بأهمية الاقتصاد لتثبيت الحكم السياسي وتأثيره في القرارات السياسية، كما أنها كسرت كل عوامل القوى لديها في خدمة إمام زمانها ودافعت عن الولاية بمالها ونفسها وكل وجودها ونتعلم من الزهراء أن نجعل أنفسنا وكل ما نملك لخدمة الحق والدفاع عنه وأهمية بذل المال وتوظيفه في الجهاد في سبيل الله.

سلاح البكاء

لم تكتفِ الزهراء في معارضتها السياسية والثورية بالأساليب التقليدية فقط، بل أبدعت بابتكارها لأساليب جديدة كانت لها قدم سبق فيها وهي أول من أسست لها، وهنا نشير إلى إحداها والبقية لاحقًا في العناوين التالية، من إبداعات فاطمة الثورية هو سلاح البكاء، وقول الإشارة إلى الأهداف التي حققتها الزهراء ووظّفت هذا السلاح المبدع والفعّال، أقف عند نقطة مهمة ونرفع إشكالية موجودة في أذهان البعض حيث أنهم يعتقدون أن الزهراء كانت تبكي على ظلامتها ويفهمون من شتم القوم وأهل المدينة لأمير المؤمنين بأنهم قد تأذوا من بكاء فاطمة؛ لأن ذلك من شدة نحيبها حتى كان يسمع صوت بكائها، حاشى للزهراء أن تكون كذلك وفي هذا تعدٍ على مقام فاطمة، فليست الزهراء التي تجزع وترفع صوتها بالبكاء حتى يسمعها الأجانب ويجب أن لا تختلط علينا الأمور، هناك فرق بين أن تقف الزهراء بكامل سترها وحشمتها وعفتها وتخطب دفاعًا عن الحق، وبين أن ترفع صوتها بالبكاء لتلفت نظر الأجانب لأمر معين، وهذا الفعل لا نرضاه لامرأة عادية فضلًا عن الزهراء.

أما الموقف الأول فهذا هو تكليف كل امرأة تتبع الزهراء، إذ تطلب الأمر مع مدارية الحفاظ على الحجاب الزينبي والستر والعفاف، وهذا هو الأساس فلا خير في امرأة مهما كانت من غير حجاب وعفاف، وأما بكاء فاطمة فهو أن جعل من بيتها مركزًا وهي بنت رسول الله تتوافد إليه نساء المدينة من أجل مشاركة الزهراء حزنها على رحيل أبيها وهي تبكي على ما جرى عليها وعلى أمير المؤمنين بعد رسول الله، واستمرار هذا الأمر يعني إلقاء قضية فصل الخلافة حيّة، فالموضوع له جنبة سياسية، لذلك أراد القوم التخلص من هذا الأمر الذي يشكل خطورة على مصالحهم، فشكوا إلى أمير المؤمنين بكاء فاطمة بذريعة إلى متى ستستمر على هذا الحال؟ وذلك يشكل أذى إلى الأهالي في المدينة، فما كان من الزهراء إلا أنها كانت تخرج إلى البقيع على مسافة من بيوت أهالي المدينة وتستظل بشجرة الأراك وتواصل جهادها في صيغة حزن وبكاء، فقام القوم بقطع الشجرة وهذا أكبر دليل أن أذاهم ليس من بكاء فاطمة، وإنما من تبعات هذا الموقف وإلا فلماذا يقطعون هذه الشجرة وهي تبكي بعيدة عنهم ولا شأن لها بهم؟ ماذا فعلت فاطمة بعد هذا الموقف؟ هل توقفت؟ أبدًا، واصلت إبداعاتها هذه المرة مع أمير المؤمنين فكان البديل هو بيت الأحزان، فما هي دلالات فاطمة لسلاح البكاء والإصرار على هذا الموقف؟

  1. إحياء قضية إمام زمانها وجعلها حيّة إلى الأبد، وهذا هو نفس السلاح الذي لجأ إليه الإمام السجاد لإحياء قضية الإمام الحسين وأصل الابتكار للزهراء.
  2. ابتكار سلاح لا يمكن للعدو دفعه فليس بإمكان عدو أن يمنعك من البكاء.
  3. إيصال رسالة لأهل المدينة أنها غاضبة وغير راضية عما جرى ويجري وهم سمعوا رسول الله يقول: «فاطمة يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها».
  4. قضية غصب الخلافة وبيت الأحزان الشاهد على كل ذلك.
  5. لم تتوقف عن المعارضة والمطالبة بحق أمير المؤمنين إلى آخر نفس وبكل الطرق، وحتى يسترد من الحق المسلوب.

وهنا نتعلم من مولاتنا فاطمة أمرين مهمين:

الأول: ينبغي أن لا نصاب بالجمود في حراكنا الثوري والسياسي، بل علينا دائمًا أن نبدأ في ابتكار الأساليب الجديدة في مواجهة العدو.

الثاني: هناك بكاء إيجابي وآخر سلبي، فإذا كان إيجابيًا فهو سلاح وهذا ما فعلته الزهراء والإمام السجاد، وإذا كان سلبيًا لا يعدو كونه منفس عن هموم إنسان ضائع ذليل مستسلم للواقع.

فاطمة تسجل موقفًا من نقل البخاري

ينقل البخاري أن الأول والثاني أرادوا زيارة الزهراء في مرضها ولكن الزهراء لم تأذن لهما فذهبا إلى أمير المؤمنين وطلبا منه التوسط لهما، وبعد أن تحدث علي مع فاطمة أذنت لهما كرامة لأمير المؤمنين، وعندما دخلا الدار على فاطمة ألقيا السلام والزهراء لم ترد عليهما، وأدارت بظهرها للسماء ثم قالت مخاطبة لهما: ألم تسمعا قول رسول الله (ص): فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله؟ قالا: بلى. فقالت: ألم تسمعا قول رسول الله فاطمة يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها؟ قالا: بلى. فقالت الزهراء: إني غاضبة عليكما إلى يوم القيامة.[1]

مرة أخرى فاطمة تعلمنا دروسًا إلهية، والدرس هنا ينبغي للمؤمن أن يؤدي تكليفه الشرعي في كل الأحوال وبغض النظر عن النتيجة، بحسب الرواية فاطمة كانت في دارها مع علي والأول والثاني، إذًا لم تكن هناك أطراف أخرى في هذه الحادثة، السياسيون ومنطقهم المادي يقولون لا داعي لتسجيل موقف في مثل هذه الظروف إذ الهدف ليس هو تسجيل موقف من أجل الموقف، إنما النتيجة التي استحقها هذا الموقف وهذا خلاف إلى المنطق الإلهي وسيرة المعصوم، فالمؤمن عليه أن يقوم بأداء تكليفه من غير انتظار النتيجة، وهذا هو نهج السيد الإمام الخميني العظيم الذي على أثره قام بثورته المباركة التي غيرّت مجرى الأحداث والتاريخ والزهراء من هذا الموقف الشرعي الحكيم حققت الأمور التالية:

  1. قامت بتكليفها الشرعي بحثًا عن رضا الله تعالى وليس عن فائدة متوقعة، فالموقف كان يتطلب استنكار في رأس وجه مغتصبيها الخلافة وهي فعلت ذلك وبشجاعة وبقوة الموقف.
  2. بالمواقف السابقة الزهراء أتمت الحجة على القوم، أما في هذا الموقف فقد أتم الحجة على الشخصيات المعنية مباشرة.
  3. من الناحية السياسية، انقلبت الطاولة عليهم حيث أرادوا من زيارتهم هذه لإيحاء أن المياه رجعت لمجاريها وهما يحتفظان بعلاقة جيدة مع بنت رسول الله ويكنّون لها الاحترام، ولكن الزهراء فوتت عليها الفرصة بتأكيدها أنها غاضبة عليهما وغير راضية عنهما وستخرج من الدنيا على هذا الحال.
  4. من الناحية الشرعية، أظهرت الزهراء بعد أن أخذت منهما تصديقهما على كلامهما أن رضاها وغضبها من رضا وغضب الله تعالى وأنهم أصحاب باطل لا شرعية لهم وعملهم هذا موجب لسخط الله تعالى.

 وبيّنت مصيرهما للجميع بعد أن قالت غاضبة عليهما إلى يوم القيامة، وهكذا عندما يقوم الإنسان بأداء تكليفه الشرعي لله تعالى فالله يجعل فيه خيرًا كثيرًا.


  • [1] انظر: صحيح البخاري، جزء 5، صفحة 82

المصدر
كتاب مرج البحرين يلتقيان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟