التكفير وتهمة العمالة للخارج الأسلوب الخليفي المشابه لشيطنة الهنود الحمر
يقدم الكتاب لمحة تاريخية للإبادة الجماعية بحق الهنود الحمر ويكشف الأسس الأيديولوجية والثقافية التي اعتمدها المهاجرون الأنجليز الأوائل تنفيذا مباشرا لفكرة “شعب الله المختار” القادم إلى مجاهل العالم حاملا مشعلي الحضارة والتمدن معتبرا السكان الأصليين “مجموعة كنعانية” لا تستحق سوى الموت بوجهيه الثقافي والمادي كما فعل “اليهود” بشعب كنعان في فلسطين التاريخية لإقامة دولة إسرائيل.
الكتاب يضم العديد من الوثائق التاريخية وخارطة تبين انتشار وتوزع المستعمرات البريطانية في العالم، واللافت للنظر أن الكتاب يتناول وثائق تاريخية تبين على لسان أصحابها الطريقة الممنهجة التي اتبعها المستوطنون في القضاء على الهنود الحمر لتثبيت احتلال الأرض على مبدأ “أرض بلا شعب” بما أن الهنود الحمر وتبعا “للأيديولوجيا الاستعمارية الإنجليزية” ليسوا شعبا وإنما مجرد حيوانات تعيش بلا أخلاق وبهمجية بربرية لا يمكنها أن تقدم سوى الخراب.
يبين الكتاب أن أمريكا نشأت وترعرعت وقويت على أجساد الهنود الحمر سكان القارة الأصليين الذين حرموا حتى الحق في الاحتفاظ بهويتهم الثقافية ومجتمعاتهم، ليتحولوا بنظر المبشرين بالحضارة الإنكلوساكسونية إلى مجرد فائض تاريخي.
ويقدم الكتاب استنادا على عدة وثائق تاريخية مادةً غنية بالشواهد التي تعطي القارئ فكرة عن هوية أميركا، الأمر الذي يعيد طرح الأسئلة المهمة أمام هذا الامتداد العسكري الأميركي المنتشر في العالم حاليا عبر حاملات الطائرات والصادرات التكنولوجية والغزو الثقافي في كل مفاصل الحياة للشعوب الأخرى بشأن الصورة الحقيقية لا للشعب الأميركي بصفته الراهنة بالمعنى الاجتماعي أو حتى القومي بل بطبيعة الخطاب السياسي والتعامل مع الآخر عبر ما تفتخر به الولايات المتحدة وهو “المؤسسات الديمقراطية”.
وهنا تأتي أهمية الوثيقة التاريخية التي يقدمها د. العكش في الكتاب ليعيد تظهير الطبيعة الفكرية والعقلية الأخلاقية التي قامت عليها هذه المؤسسات في تعاملها مع الشعب الأصلي للقارة الأميركية، حيث يقدم فقرة وردت في إحدى محاضر جلسات الكونغرس الأميركي في القرن التاسع عشر، تقول: “يجب مساعدة الحضارة على إبادة الهنود كما أمر الله يشوع أن يبيد الكنعانيين الذين لم يكونوا يختلفون عن هنود اليوم ثم إنه عوقب على تقاعسه عن الانصياع لأمر الله”.
“الكنعنة” كمصطلح يعود تاريخيا إلى العبرانيين الذين عندما قدموا إلى فلسطين الكنعانية لم يجدوا أمامهم سوى “شيطنة الآخر” باسم الله والدين لتقديم المبرر على إبادة الشعب الأصلي الذين ألصقوا به كل الصفات الذميمة واستباحوه أخلاقيا وجسديا، وكما هو معروف أن فكرة الشيطنة تعود أصلا إلى فكرة الكنيسة في تعاملها مع معارضيها في أوروبا خلال القرون الوسطى وهذا ما ذكره الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في كتابه الجنون والحضارة في شرحه لآليات إنتاج خطاب السلطة (الدينية أو السياسية) عبر تشنيع الآخر وتجريده من كل الفضائل الأخلاقية ومساواته بالوحش أو الحيوان.
ويشرح د. العكش في كتابه مفهوم الكنعنة كسلاح اعتمده المهاجرون الإنجليز –ليس فقط في أميركا بل في كل بلاد العالم الجديد ومنها أستراليا ونيوزيلندا- من أجل إبادة شعب واستبداله بآخر: “قد يكون هناك آلاف الآسباب لدخول شعب الله الإنجليزي مسرح الاستعمار، لكن ليس بينها سبب واحد يمكن وصفه بالأخلاقي. إن كل ما قدمته لهم عقيدة الاختيار وقصص التوراة هو أنها ألهبت عبادتهم لذاتهم وصقلت موهبة التشنيع والكنعنة لديهم، وزادتهم فجارة أخلاقية، خصوصا أن معظم أنبياء هذا الاستعمار الأخلاقي -مثل جون وايت- فسروا القصص التوراتية في الانتشار في الأرض بأنها أوامر إلهية للإنجليز باستعمار الأرض واستيطانها كلما أتيحت الفرصة وتساءلوا كيف يمكن طاعة أوامر الله دون الاحتلال والاستيطان؟”
ويقدم الكتاب مثالا آخر يوضح الطبيعة الوحشية لهذا الفكر القائم على استباحة الأخر مستشهدا بالفلسفة الأخلاقية للأسقف لانسلوت أندروس الذي يقول “الأرض صحن من اللحم الموضوع على المائدة يقطع منه الإنسان ما يشتهي. وما إن يضع قطعة في صحنه، حتى تصبح له. كذلك إذا اقتطعنا بلدا لا يوجد فيه سكان بيض، يصبح لنا”.