إهمال وتغييب الآثار المادية والمعنوية

رغم صغر جزيرة البحرين من ناحية المساحة، إلا أنها تمتلك تاريخا كبيرا، وتمتد جذور حضارتها لآلاف السنين، وقد كانت قديما مرتبطة – كما تظهر الآثار- بالحضارة السومرية في بلاد الرافدين، وقد شكلت هذه الحضارة هوية أبناء البحرين المتمدنين، الذين يميلون إلى السلم والتكافل الاجتماعي وتنمية الذات والمجتمع والاهتمام بالعلوم.
مرت جزيرة البحرين بعدة مراحل تاريخية رسمت هويتها الحالية، ويمكن تقسيم هذه المراحل كالتالي:-
– دلمون.
– تايلوس.
– أوال.
– دخول الإسلام.
– احتلال آل خليفة.
وعلى الرغم من عراقة المراحل الأربع الأول، ووجود الآثار الكثيرة المتعلقة بها والتي تستحق الدراسة والبحث، إلا أن السياسة التي تتبعها وزارة الثقافة ووزارة التربية هي الإهمال والتغييب لهذه المراحل، بل محاولة طمس بعض الحقائق وتزييف التاريخ، وبدلا من ذلك يتم التركيز على ما يسمى بـ”التاريخ الحديث” وهي المرحلة الأخيرة التي ابتدأت مع دخول الاحتلال الخليفي، ويتم تجريد ابن البلد الأصيل من تاريخه وهويته وربطه بشكل كامل بالوجود الخليفي، فيعي المواطن على أن هويته وثقافته تبدأ في 23 يوليو 1782 م.
إن أكثر المراحل التي تعرضت للإهمال والتغييب والتزوير المتعمد هي مرحلة ما قبل احتلال آل خليفة لجزيرة البحرين؛ لأنها المرحلة التي شكلت الهوية الدينية والاجتماعية لأبناء البحرين الحاليين، وهي المرحلة التي تفاصل بين أصالة الأصيل ودخالة الدخيل. ولطالما كانت للأقلام المأجورة والصحف الصفراء كتابات ومقالات تحاول تغيير الحقائق في هذه المرحلة، كالترويج إلى أن الهوية المذهبية لأبناء البحرين قبل دخول آل خليفة هي “السنية” وليست “الشيعية”، وبأن “الشيعة” دخلاء على الهوية البحرانية، وتزوير الحقائق حول بعض الشواهد والآثار.
ومن الشواهد على ذلك:-
- مسجد الخميس: يرجع تاريخ بنائه إلى سنة 84 هـ، وهو أقدم مسجد في البحرين، وقد تم إعادة تشييده في سنة 518 ه على يد الأمير أبو سنان محمد بن الفضل بن عبدالله العيوني لاهتمامه بتشجيع ودعم العلم وطلابه ومؤسساته التي يأتي المسجد الحاضن الأكبر للحركة العلمية والأدبية.
ويمكن أن نستدل من خلال النقوش التي عثر عليها على جدران المشهد من الداخل الخاصة بالآيات القرآنية وبأسماء الجلالة والأئمة المعصومين الإثني عشر بالإضافة إلى نقود الدولة العيونية خلال حكمهم في إقليم البحرين والتي تميزت بكتابات نقشت على هذه النقود مثلا: الوجه: “لا إله إلا الله ،محمد رسول الله، علي ولي الله”، الظهر: “رسول الله، جمال الدنيا والدين، الحسن بن علي”.
وقد دلت النقوش الأثرية وهذه النقود التي عُثر عليها في القطيف وفي أنحاء متفرقة من المنطقة الشرقية وهي محفوظة في المتحف البريطاني – على استقلال الدولة العيونية وأن دينها الإسلام والمذهب الرسمي للدولة هو المذهب الجعفري (الإثني عشري) بما لا يدع مجالاً للشك، خاصة وأن النقوش الأثرية التي ضمتها جدران مشهد الخميس تكررت على جدران مساجد أخرى كمسجد رافع (الجمالة) في قرية الخميس ومسجد قرية باربار الذي شيد عام 729هـ. ومشهد أبو زيدان قرب البلاد القديم.[1]
كما يحوي المسجد على مقبرة أثرية قيمة جدا تسمى مقبرة أبو عنبرة، وهي تضم رفات العديد من العلماء البحارنة وفقهاء مذهب التشيع، ويوجد على كثير من القبور ساجات أثرية يعود عمرها لسبعة قرون نقش عليها آيات قرآنية وأسماء وأنساب هؤلاء العلماء والفقهاء.
واليوم؛ مسجد الخميس مقفل أمام الزائرين، ولا يذكر منه في المناهج التعليمية والبرامج التلفزيونية إلا كونه أقدم مسجد في البحرين، ويتم تجاهل كل الحقائق والآثار الأخرى الموجودة بداخله، بل يروّج إلى أن المسجد تابع إلى أهل السنة.
وفي الحقيقة، لقد كان مسجد الخميس مركزا علميا مرموقا منذ إعادة تشييده حتى نهاية القرن الثامن عشر مع دخول آل خليفة البحرين، حيث حورب مذهب أهل البيت، فهدمت مراكزهم العلمية وبعض من مساجدهم، وتعرض علماؤهم وفقهاؤهم لهجمة شرسة، أدت إلى تهجير قسم كبير منهم، مما جر إلى أن يفقد مسجد الخميس أهميته، ويبدأ بالتحول إلى أطلال.
- مسجد وضريح صعصعة بن صوحان: ويعود تاريخه إلى سنة 56 هـ، عندما توفي صحابي أمير المؤمنين سلام الله عليه صعصعة بن صوحان ودفن في قرية عسكر جنوب المنامة، وقد كان أهالي عسكر يهتمون بالمسجد ويقومون بشؤونه إلى حين تهجيرهم من قبل الاحتلال الخليفي من قريتهم عسكر، ومن حينها بقي المقام والمسجد مغلقين لعقود ثم فتح وأغلق لفترة طويلة الى أن فتح بعد التسعينات وأغلق مرة أخرى سنة 2011 ولا زال إلى الآن مغلقا في حالة سيئة جدا، وقد تعرض خلال هذه الفترات إلى الكثير من عمليات النهب والتخريب والتكسير بمباركة من السلطة الخليفية.
وإذا كان مسجد الخميس يذكر ولو بشكل بسيط، فإن هذا الأثر القديم غائب تماما عن المناهج التعليمية وعن اهتمام وزارة الثقافة، حاله حال الكثير من الأضرحة والمشاهد والمساجد التي يعود تاريخها لقرون خلت، مثل: مسجد النبي صالح، مسجد وقبر السيد هاشم التوبلاني، مسجد وقبر الشيخ راشد الستري… إلخ.
وبدلا من الاهتمام بهذا التراث وبيان الهوية الثقافية الأصيلة لأرض البحرين، تستعيض السلطة الخليفية في مناهجها التعليمية وبرامج وزارة الثقافة والإعلام بتاريخ مصطنع لا يمت للبحرين بصلة، بل هو مرتبط بالعائلة القادمة من المناطق البدوية في نجد، فبدلا من إحياء المشاهد والأماكن التراثية، وعمل البرامج الثقافية والإعلامية حولها، يتم التركيز بشكل كبير على عادات وتقاليد الأسرة البدوية ومحاولة إلصاقها بالتراث البحراني، مثل: رقصة العرضة، والليوة، وبيوت العائلة الحاكمة واسطبلات خيولها!.
إن الأمر لا يقتصر على الإهمال والتغييب للآثار المادية والملموسة، بل يتعدى ذلك للآثار المعنوية، كالصفات الشخصية والعادات والتقاليد واللهجات. في المسلسل المعروف “سعدون” يظهر “مهدي” الذي يمثل شخصية البحراني بمظهر الضعيف المغلوب على أمره، وعمه البحراني الآخر متنمر عميل للاستعمار البريطاني، بينما سعدون هو البطل المقاوم لجنود الاستعمار. لكن الواقع يحكي لنا قصصا كثيرة عن بسالة البحارنة في مواجهة الاستعمار البرتغالي والبريطاني، وهو ما تغيبه السلطة الخليفية.
كذلك كثيرا ما يحاول الإعلام الموجه رسم صورة نمطية عن الفرد البحراني بأنه شخص لا يهتم بمظهره، ويلبس الرث من الثياب، وأن لهجته التي يتحدث بها ليست سوى لهجة مضحكة دونية، ليس لها أصل وتاريخ شاهد على عراقة وعروبة من يتحدث بها، حيث أن البحارنة يستخدمون في كلامهم الكشكشة[2]، وهي إن دلت على شيء، فهو أصالة من يتحدث بها.