مواضيع

مفهوم “الإبادة الثقافية”

    في شهر ديسمبر عام 1948 تمّ تبني اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة، ودخلت حيز التنفيذ في يناير عام 1951 م. وتُعرِّف الاتفاقية “الإبادة الجماعية” في المادة الثانية منها، بأنها: “ارتكاب أي من الأعمال التالي ذكرها بقصد التدمير، سواء كليا أو جزئيا، جماعة قومية أو عرقية أو دينية. وهذه الأعمال هي:-

  • قتل أعضاء من الجماعة.
  • إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة.
  • إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً.
  • فرض تدابير تستهدف الحول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.
  • نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى.”[1]

الإبادة: ماديا ونفسياً

     من خلال هذا التعريف نلاحظ أن مفهوم الإبادة الجماعية يأخذ عدة أشكال، وتنطوي تحته أعمال مختلفة يجمعها “قصد التدمير، سواء كليا أو جزئيا، جماعة قومية أو عرقية أو دينية”، ويمكن تصنيف هذه الأعمال إلى صنفين:-

  • أذى مادي: يشمل جرائم القتل وإلحاق الضرر بالجماعة وتعريضها لظروفٍ معيشية يُراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا، أو فرْض تدابير والقيام بأعمال تستهدف الجماعة بيولوجيا، مثل منع إنجاب الأطفال والإغتصاب الجماعي، وهذا ما حصل في كثير من المجازر التي أريد بها التطهير العرقي أو الإثني كما في ميانمار، والكوسفو، والأكراد في شمال العراق في زمن المقبور صدام حسين.
  • أذى نفسي: وهو الأذى الذي تتجاوز جرائمه مجرد التعرُّض للجسد والجماعة بالقتل والتدمير المادي والإقصاء البيولوجي، بل تشمل إقصاء جماعة معينة على المستوى الثقافي مثل ” نقل أطفال من الجماعة، عنوةً، إلى جماعة أخرى”، وتحريم ممارسة الطقوس الدينية أو تعليم التعاليم الدينية في المدارس، ومنع التحدث بلغة الجماعة، والتعرُّض لآثار هذه الجماعة الحضارية والثقافية بالتخريب والتدمير، ومحاولة إقصاء كلّ ما يرتبط بالنظام الإجتماعي والتاريخي لهذه الجماعة، وهو الذي يمكن أن نطلق عليه “الإبادة الجماعية”.

لماذا اللجوء إلى الإبادة الثقافية؟

     إنّ التاريخ ينقل لنا المئات بل الآلاف من جرائم الإبادة الثقافية، والتي ارتبطت في كثير من الأحيان باحتلال البلدان لبعضها البعض، وفي صراع الأديان والقوميات، وكان لها الدور البارز في قيام الحضارات واندثار غيرها. ولا شك أنّ محاولة استبدال شعبٍ بشعب آخر، وثقافة بثقافةٍ أخرى، ودين بدين آخر.. تستدعي التأثير على الهوية والثقافة وتغييرهما، ولعل السبب الأبرز للّجوء إلى الإبادة الثقافية ومسخ الهوية لجماعاتٍ معيّنة يعود لاعتقاداتٍ إثنية أو عرقية أو دينية، وغالبا ما تتعلق بأفضلية هذا العرق على ذاك، أو أفضلية صاحب هذه الديانة ووضاعة أصحاب الديانات الأخرى … إلخ.

     وفي بعض الأحيان تلعبُ السلطة السياسية والسعي وراء الحكم دوراً بارزا وسببا رئيسيا في الإبادة الثقافية لبعض الجماعات، كما حصل في حركات الاستعمار القريبة (1500 – 1900) والتي كان الهدف الأساس منها توسيعُ نطاق النفوذ والسيطرة على الموارد المالية والطرق التجارية، وأدت – بطبيعة الحال – هذه الأهداف إلى اللجوء لتغيير الثقافة والهوية لهذه المستعمرات. لعل القارئ يظن أن ممارسات الإبادة الثقافية قد اندثرت مع ظهور الأنظمة الديمقراطية، وتبنّي الكثير منهم نظرية العقد الاجتماعي، ومع توافق أغلب الأمم على ميثاق الأمم المتحدة والانضواء تحت مظلة الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن ذلك ليس بصحيح البتة، حيث إن أشكال الإبادة الثقافية لا زالت تُمارس بشكلٍ كبير في مناطق الصراع عبر تدمير الآثار، وتهجير السكان الأصليين، وحرْق المخطوطات، وسرقة الآثار والتحف والمتاحف… إلخ، وكذلك لا زالت تُمارس في مناطق النفوذ الاستكباري السياسي لكثير من الدول عبر أدوات الحرب الناعمة، مثل الدعاية والإعلام والتعليم .. إلخ.

    بل إن بعض الأنظمة لا زالت تسعى نحو التغريب الثقافي، ومسح الهوية الأصلية لبعض الجماعات، في سبيل الحفاظ على السلطة أو توسيع دائرة النفوذ، كما تمارسه بعض الأنظمة الوضعية والدخيلة على بعض الشعوب والتي وصلت إلى السلطة من غير إرادةٍ شعبية، كما هو الحال مع نظام آل خليفة في البحرين، ونظام آل سعود في الحجاز.

أمثلة على الإبادات الثقافية

    ومن الأمثلة القريبة تاريخيا لواقعنا المعاش على الإبادة الثقافية، هو الاستعمار الفرنسي للجزائر (1830 – 1962) حيث مورست على الجزائريين العديدُ من الأعمال التي تمسخ الهوية الإسلامية والعربية منهم، كما تم إقرار العديد من القوانين من قبل الحاكم الفرنسي في فترة الاستعمار تهدف إلى عزْل الجزائريين عن تاريخهم وثقافتهم وهويتهم. ومن الأمثلة على هذه الجرائم:-

  • إجبار الجزائريين على تغيير ألقابهم المرتبطة بالمهنة والنسب إلى ألقابٍ أخرى مشينة ونابية، وبعضها نسبة لأعضاء الجسم والعاهات الجسدية، وألقاب أخرى نسبة للألوان وللفصول ولأدوات الفلاحة وللحشرات وللملابس وللحيوانات ولأدوات الطهي.
  • في 8 مارس 1938م أصدر رئيس وزراء فرنسا آنذاك كاميي شوطون Camille Chautemps قرارا نصّ على حظر استعمال اللغة العربية واعتبارها لغة أجنبية في الجزائر. ويأتي هذا القانون في سلسلة قوانين سنَّها الاحتلال الفرنسي لمحاربة اللغة العربية، وحتى الأمازيغية، وجعل اللغة الوحيدة للبلاد هي اللغة الفرنسية.[2]
  • شنّ هجمة شرسة على المؤسسات التعليمية والوقفية والدينية، مما أدى لنضوب ميزانية التعليم وغلق المدارس وانقطاع التلاميذ عن الدراسة وهجرة العلماء.

     ولعل المثال الأبرز الذي مورست فيه الإبادة الثقافية بشكل ممنهج ومقصود وأدى إلى نتائج مروعة؛ هو قيام الأوربيين ببناء الولايات المتحدة على أنقاض الحضارة الأصلية للهنود الحمر الذين كانوا يقطنون أرض أمريكا الشمالية، بعد أن تعرّضوا لهجمات إبادة جماعية وإبادة ثقافية على مدى عقود، بحيث أزيلت هذه الحضارة بما تحويه من تاريخ وثقافة وهوية ودين من صفحة الوجود الأمريكي، وأُحِل مكانها حضارة الأوربيين الدخيلة، ولم يتبق منها إلا مجموعات قليلة من الهنود الحمر الذي يعاني كثير منهم من ظاهرة “الخوف من الذات autophopia” والابتعاد عن الهوية الأصلية.

     وعلى الرغم من فظاعة هذه الجرائم وبُعدها عن الجانب الإنساني والديمقراطي الذي يتغنى به الغربيون؛ إلا أن الأوربيين لم يخجلوا من التصريح برغبتهم في القضاء على الهنود الحمر ثقافيا. يقول مارك توين: “وقفت بجانب وزير الحرب وقلت له إن عليه أن يجمع كل الهنود في مكان مناسب ويذبحهم مرة وإلى الأبد. وقلت له: إذا لم توافق على هذه الخطة فإن البديل الناجع هو الصابون والتعليم. فالصابون والتعليم أنجح من المذبحة المباشرة، وأدوم وأعظم فتكا. إن الهنود قد يتعافون بعد مجزرة أو شبه مجزرة، لكنك حين تعلم الهندي وتغسله فإنك ستقضي عليه حتما، عاجلا أم آجلا. التعليم والصابون سينسفان كيانه ويدمران قواعد وجوده. وقلت له: سيدي، اقصف كل هندي من هنود السهول بالصابون والتعليم، ودعه يموت”[3].

نقاش حول مفهوم “الإبادة الثقافية”

    ورغم خطورة “الإبادة الثقافية” ولا إنسانيتها؛ إلا أن هذا المفهوم قد وَقع فيه كثير من الأخذ والرد بين الخبراء والدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقد تمّ إقصاء هذا المفهوم واستبعاده من الاتفاقية التي صدّرنا بها هذا التمهيد، حيث اعترض بعضُ الخبراء على إدماج الإبادة الثقافية ضمن مفهوم الإبادة الجماعية، باستثناء الفقرة الأولى التي تتحدث عن النقل الإجباري للأطفال من جماعة إلى جماعة أخرى[4].

     من جانبها، الولايات المتحدة أيّدت الموقفَ الداعي إلى إقصاء مفهوم الإبادة الثقافية من الاتفاقية، فهي ترى أن الاتفاقية يجب أن تقتصر فقط على الأعمال البربرية الموجَّهة ضد الأفراد. وفي ظل الأعمال اللاإنسانية للإبادة الثقافية، يأتي هنا سؤال مشروع: لماذا يتم استبعاد “ألإبادة الثقافية” من المشروع؟ إنّ السبب الأبرز لذلك هو تورّط الدول الاستكبارية نفسها في ارتكاب أشكال كثيرة من الإبادة الثقافية، وإمضاؤهم للمشروع يعني تعرُّضهم للمسائلة وإدانة أنفسهم.

    وقد تم استخدام مصطلح “الاستيعاب القسري” بدلا من الإبادة الثقافية، والذي تم تبني مشروعٍ حوله في إعلان الأمم المتحدة حول حقوق الشعوب الأصلية لعام 1994، وهو يشمل التالي:-

  1. أي عمل يهدف أو يؤدي إلى حرمان الشعوب الأصلية من سلامتها بوصفها شعوبا متميزة أو من قيمها الثقافية أو هوياتها الإثنية.
  2. أي عمل يهدف أو يؤدي إلى نزع ملكية أراضيها أو أقاليمها أو مواردها.
  3. أي شكل من أشكال نقل السكان القسري يهدف أو يؤدي إلى انتهاك أو تقويض أي حق من حقوقهم.
  4. أي شكل من أشكال الاستيعاب أو الإدماج القسري.
  5. أي دعاية موجهة ضدها تهدف إلى تشجيع التمييز العرقي أو الإثني أو التحريض عليه.[5]

  • [1] اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها نسخة محفوظة 18 أبريل 2015 على موقع واي باك مشين.
  • [2] مرسوم شوطون، 8 مارس 1938م نسخة محفوظة 30 مايو 2017 على موقع واي باك مشين.
  • [3] مارك توين (1835 – 1910) في رسالة استقالته من الحكومة، كانون الأول/ديسمبر 1867 م.
  • [4] Marcel Goncalves, “Angola, Métissage culturel”, Spiritus, 93, 1983, p. 387
  • [5] Spanish Yearbook of International Law, Volume IV, 1995-1996, p. 24
المصدر
كتاب الإبادة الثقافية في البحرين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟