مواضيع

هل الحسين كان يسعى للوصول إلى الحكم؟

هناك فئة من الناس يقولون بأن الحسين (ع) كان يسعى للوصول إلى الحكم، وهناك من يقول بأن الحسين (ع) أراد الإصلاح، والرأي الثالث هو ذهاب الإمام الحسين للشهادة، سوف نشرح الآن بأن الإمام الحسين (ع) سعى إلى أي رأي من هؤلاء الثلاثة والرد الرئيسي سوف يكون على العنوان وهو هل كان الحسين (ع) يسعى للوصول إلى الحكم؟، وذلك من خلال إلقاء نظرة على سيرة الحسين (ع) القولية والعملية وكذلك سيرة بقية المعصومين (عليهم السلام).

خروج الحسين (ع)

هل خرج الحسين (ع) على يزيد بسبب عدم بيعته له؟ أم خروجه كان حتمياً، إن عرض يزيد عليه البيعة أو لا؟ أو أنه خرج لأن يزيد أجبره على البيعة ولم يكن أمام الحسين خياراً غير المواجهة؟ فلو ترك يزيد الحسين (ع) وشأنه وتركه ولم يفعل هذا.

أساساً هل قرر الحسين الخروج على يزيد أو لا؟ أم خرج فيما بعد خروجاً دفاعياً؟ للإجابة على السؤال الأساسي والأسئلة الفرعية الناتجة عنه، نقف على جوانب من السيرة القولية والعملية لسيرة الإمام الحسين (ع).

موقف الحسين عند استشهاد حجر بن عدي

عندما استشهد الصحابي الجليل حجر بن عدي ومن معه في مرج العذراء على يد معاوية، أرسل أهل الكوفة الحسين بن علي (ع) لأخذ ثأر حجر بن عدي ومن معه، فأجابهم الحسين (ع): «بيننا وبين هذا الرجل عهد وليكن كل واحد منكم حلساً من أحلاس داره إلى أن يهلك هذا الطاغية وننظر في الأمر»[1].

مقصود الإمام (ع) من العهد هو صلح الإمام حسن (ع)، فموقف الحسين (ع) من معاوية هو نفس موقف الحسن (ع) ولا فرق بينهما تماماً، والإمام أخّر الأمر إلى ما بعد هلاك معاوية، واضحٌ من كلام الإمام (ع) بأن التكليف بعد هلاك معاوية سيكون تكليفاً آخر، خصوصاً بأن الصلح قد غطّى على عدم الثورية، وأن ينتقل الحكم من بعد معاوية إلى الإمام الحسن (ع) إذا كان الإمام على قيد الحياة، وإن لم يكن فإلى الإمام الحسين (ع)، إذاً واضح من جواب الإمام (ع) بأن الصلح لأهل البيت (عليهم السلام) ليس خياراً استراتيجياً وإنما هو تكتيك فرضته الظروف في عهد معاوية، وهناك خيارات أخرى مطروحة ومن ضمنها اللجوء إلى السيف، لذلك الإمام طلب منهم رداً على طلبهم أن ينتظروا إلى أن يأتي الوقت المناسب، بمعنى آخر بأن أحد خيارات الإمام الحسين (ع) هو الخروج بالسيف على الحاكم الجائر الذي سوف يأتي من بعد معاوية إذا تهيأت الظروف أو تطلّب الأمر ذلك.

بعض أقوال الحسين (ع)

كلام وردود الإمام الحسين (ع) سواء على بعض الشخصيات أو الفئات أو إلى الأمة من بعد أن طُلب منه البيعة يبيّن لنا في تلك المرحلة تشخيص الإمام (ع) للواقع وبيان تكليف الأمة في ظل حكم يزيد، وهذا سوف يوضح لنا الإجابة على الأسئلة المطروحة أعلاه.

على الإِسلام السَّلام

في حديثه (ع) مع جمع من وجهاء المدينة، قال لهم: «على الإِسلام السَّلام، إذا بُلِيَت الأمة بِراعٍ مثل يزيد، ولقد سَمِعتُ جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان، فإذا رأيتُم معاوية على منبري فابقروا بَطنَه. وقد رآهُ أهل المدينة على المنبر فلم يبقروا، فابتلاهم الله بيزيد الفاسق»[2].

هناك عدة نقاط في حديث الحسين (ع):

أولاً: اعتبر الإمام (ع) بأن حكم يزيد بلاء للأمة والأكثر من ذلك هو نهاية للإسلام.

ثانياً: أخبر عن الحكم الصادر عن رسول الله (ص) وهو بأن آل أبي سفيان حرامٌ عليهم الخلافة.

ثالثاً: أشار إلى التكليف الشرعي للأمة كما حدده رسول الله (ص)، وهو أن يبقروا بطن معاوية إذا رأوه على منبره.

رابعاً: تحدث عن النتيجة عند عدم قيام الأمة بتكليفها الشرعي وهو ابتلاءها بيزيد.

واضحٌ من كلام الإمام بأنه لا يمكن السكوت عن حكم يزيد سواءً أجبر الحسين على البيعة أم لا؛ لأن حكم يزيد يعني نهاية الإسلام ولا يمكن للحسين (ع) أن يقبل بذلك، والخلافة محرّمة على أبي سفيان ولكن قلة الوعي وخذلان الأمة أجبرت الحسن والحسين (عليهم السلام) على إبرام الصلح مع معاوية، ولأن الأمة لم تؤدي تكليفها الشرعي مع معاوية فابتلاهم الله بمن هو أسوء منه وهو يزيد.

إذا أخذنا بعين الاعتبار الصفات الشخصية ليزيد وما وصل إليه الأمة في حكمه – تم الإشارة إلى ذلك في الموضوع الأول – أسباب ثورة ومقتل الحسين (ع) -، فنصل إلى نتيجة بأن الحسين سوف لن ينتظر طويلاً ولن يبحث عن سبب آخر ليعطي ردة فعل لحكم يزيد، بل سوف يعد العدّة لمقاومة يزيد، ومن الجيد بأن يزيد أسرع المواجهة؛ فقام بعرض البيعة على الإمام الحسين (ع) منذ استلامه للحكم مباشرة.

لَما بايعتُ يَزيد

عندما طلب محمد بن الحنفية الاجتناب عن مواجهة يزيد والفرار إلى اليمن لأن فيه شيعة لأبيك أمير المؤمنين (ع)، قال له الإمام الحسين (ع): «يَا أخي، لَولم يَكُن في الدنيا ملجأ ولا مأوىً لَما بايعتُ يَزيد بن معاوية»[3].

لاحظوا بأن محمد بن حنفية لم يطلب من الإمام (ع) البيعة، وإنما الفرار إلى اليمن، ولكن الإمام (ع) يبيّن لأخيه عن عدم مبايعته ليزيد في أي حالٍ من الأحوال.

نستفيد من ذلك بأن الإمام (ع) اعتبر السكوت فقط عن حكم يزيد هو بيعةٌ له، ومجرد السكوت عن الباطل يعد خذلان للحق، – وهذا ما تحدثنا عنه تحت عنوان: صراع الحق والباطل -، ثم قرر الإمام (ع) مواجهة يزيد وعدم البيعة معه في أي حالٍ من الأحوال، وهذا القرار نتيجته الطبيعية المواجهة، وإذا أضفنا على ذلك قول الإمام (ع): «مثلي لا يبايع مثله»، هذا التكليف الشرعي الذي رسمه الإمام (ع) للمؤمنين في كل زمانٍ ومكان؛فسيتضح لنا بأن الإمام (ع) كان سيواجه يزيد سواءً طلب البيعة منه أم لا.

خرجت لطلب الإصلاح

في كتابه (ع) إلى أخيه محمد بن الحنفية، بيّن الإمام الحسين (ع) هدفه من الخروج وهو: «إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر»[4].

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له مراتب ودرجات، يسلكها الإنسان تدريجياً حسب الظروف الموضوعية، وآخر مرحلة فيها هو اللجوء إلى القوة التي قد تؤدي إلى إراقة الدماء أو وقوع الضرر البليغ على الآمر بالمعروف والنهاي عن المنكر، وهذه المرحلة تحتاج إلى إذن شرعي أما من المعصوم (ع) أو من نائب المعصوم في زمن الغيبة، وهذه المرحلة الأخيرة هي التي يريدها الحسين بقوله (ع): «وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي»، وهو الخروج على النظام والسعي للقضاء عليه وذلك لا يتم إلا باستخدام القوة ولو بحدها الأدنى، وإذا أضفنا إلى ذلك قول الحسين (ع) إلى العلماء والزعماء في مكة في موسم الحج: «ألا ترون إلى الحق لا يعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه»، فالحسين (ع) شخّص بأن المنكر أصبح معروفاً والمعروف منكراً، وهذا بحاجة إلى الإصلاح، والإصلاح لا يتم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مرتبته الأعلى وهو باستخدام القوة وذلك لمواجهة الطاغوت، ولا فرق في ذلك تماماً، سواء طلب منه يزيد البيعة أو لا؛ لأن هذا هو تشخيص الحسين لحال الأمة والتكليف الشرعي في هذه الحالة وهذا واقع موجود ولا دخل له في طلب البيعة من عدمها، فالحسين (ع) كان يبادر لإصلاح هذا الوضع حسب تكليفه الشرعي حتى لو لم يطلب منه اليزيد البيعة.

سيرة النبي (ص) والمعصومين (عليهم السلام)

كيف تعامل النبي (ص) والمعصومين (عليهم السلام) مع موضوع الحكومة؟ وهل سعوا إلى إقامة الحكومة؟ وماذا تعني لهم الحكومة؟ وكيف تعاملوا مع الحكومات في الأزمنة المختلفة؟ هل قاموا بتهيئة المقدمات للوصول إلى الحكم؟ وما هي الخطوات التي اتخذوها بهذا الخصوص؟

بمجرد أن بلغ النبي الأكرم (ص) المدينة المنورة، أول إجراء اتخذه هو إقامة الحكومة الإسلامية وأمر ببناء مقر الحكومة الإسلامية وهو مسجد رسول الله (ص)، وهذا يعكس بوضوح نظرة رسول الله (ص) إلى الحكومة وأهمية الحكومة من وجهة نظرة الإسلام ومن الناحية العملية أيضاً، لذلك ورد بأن النبي (ص) مباشرة وزع المهام والمسؤوليات والمناصب على الصحابة، وهذا فضلاً أنه هو وظيفة الحاكم الإسلامي سواء كان معصوماً أو نائباً للمعصوم في عصر الغيبة، فالإسلام لا يفصل الدين عن السياسة والعكس أيضاً، وإليك الدليل: الميزان والحديد، يقول الله تعالى: <لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ>[5]، الله تعالى أرسل الرسل بالمعجزات والبراهين وتزامناً مع ذلك أرسل أيضاً أمران مهمان لا يمكن للدين القيام إلا بهما، أحدهم معنوي والآخر مادي وهما الميزان والحديد، النبي الأكرم (ص) جاء ومعه الكتاب والميزان وهما إرث رسول الله في الأمة، وكما جاء في حديث الثقلين وهما القرآن وأهل البيت (عليهم السلام) وذلك لإقامة العدل على الأرض، وبما أن إقامة العدل بحاجة للقضاء على الطغاة، والأهم من ذلك هو استخدام القوة، لذلك أنزل الله الحديد فيه قوة وشدة في الحرب، أقوى أنواع الأسلحة مصنوعة من الحديد، فلا يمكن للحاكم الإسلامي أن يطبق شرع الله من غير أن يملك زمام أمور المجتمع، ولا يمكن له ذلك إلا من خلال امتلاك القوة، ولا يكون ذلك إلا بإقامة الحكومة الإسلامية.

الناس صنفان: الأول على دين ملوكهم، وهم خلف الحكومة الإسلامية، الصنف الثاني هم الفاسدين الذين نحتاج إلى استخدام القوة لردعهم، وبذلك يُقام العدل على الأرض ولا يمكن لإقامة العدل على الأرض وتكون كلمة الله هي العليا إلا بإقامة الحكومة الإسلامية وهذا ما فعله رسول الله (ص).

الشهد الصدر

عندما انتصرت الثورة الإسلامية المباركة في إيران، وقام الإمام الخميني العظيم(ق) بتأسيس الحكومة الإسلامية، قال الشهيد الصدر: الإمام الخميني حقق حلم الأنبياء والأوصياء.

وهذا يعني بأن جميع الأنبياء والأوصياء سعوا إلى إقامة حكومة إسلامية، لكن الظروف لم تساعدهم، وعلى رأس الأمور عدم امتلاك الأمة الوعي الكافي وعدم جهوزيتها للعيش تحت حكومة إسلامية بقيادة المعصوم، وخذلت أئمة الهدى وحالت دون وصولهم للحكم، ففي كل التاريخ الإسلامي لم تكن هناك حكومة إسلامية باستثناء حكومة النبي الأكرم (ص) والإمام علي (ع)، حكومة النبي الأكرم (ص) في المدينة وعمرها 10 سنوات، وحكومة الإمام علي (ع) في الكوفة وعمرها 4 سنوات وحيف، والآن الحكومة الإسلامية في إيران عمرها 40 سنة.

الحمدلله رب العالمين الذي جاء بنا إلى الدنيا في زمن دولة الإسلام، وهذه من النعم الإلهية الكبرى الذي يحمد عليها الإمام الحسين (ع) في دعائه في يوم عرفة.

رأي السيد القائد[6]

يقول السيد القائد روحي فداه: إن جميع الأئمة سعوا للوصول لإقامة الحكومة الإسلامية، وكان ذلك بالنسبة لهم هدف استراتيجي وإن اختلفت تكتيكاتهم من أجل الوصول إلى هذا الهدف، وذلك باختلاف ظروف كلٍ منهم بحسب تشخيص المعصوم (ع) وفقاً للظروف أيضاً.

فمن أمير المؤمنين (ع) إلى الحسين (ع) سعوا لتحقيق هذا الهدف على المدى القريب، ومن الإمام السجاد (ع) إلى الإمام الكاظم (ع) على المدى المتوسط، ومن الإمام الرضا (ع) فصاعداً على المدى البعيد، وجميعهم عملوا لكن بأساليب مختلفة وبشكل تكاملي على تهيئة الأرضية وتوفير المقدمات وتهيئة الأمة من أجل تحقيق هذا الهدف.

السيد المدرسي[7]

يقول المرجع الديني سيد محمد تقي المدرسي: أي أمة تسعى إلى الكمال تحتاج إلى ثلاثة قواعد: القاعدة الروحية والعقائدية الفكرية.

وبطبيعة الحال لا يمكن للأمة أن تصل للكمال من غير أن يحكم الإسلام ويكون على رأس الحكم المعصوم أو نائبه، ولأن الأمة هي التي كانت السبب في عدم الوصول الحكم إلى المعصومين؛ فبالتالي لابدّ من بناء الأمة على أسس سليمة وتهيئتها للقيام بوظائفها لتكون مهيئة في حكم المعصوم، لذلك الأئمة في استرداد حقهم الشرعي المسلوب، قاموا ببناء الأمة من جديد بعد عاشوراء وفقاً للقواعد الثلاث التي توصل الأمة للكمال، وقد بدأ الإمام السجاد (ع) بناء القاعدة الروحية التي هي المرتكز، ثم الإمامان الباقر والصادق (عليهم السلام) قاموا ببناء القاعدة العقائدية والفكرية، وهكذا استمر بقية المعصومون في استكمال الطريق، ولكن الأمة لم تكن تستحق أن يحكمها، فكان لا بدّ من تهيئة الأمة لتكون على قدر الاستحقاق، وهنا نقطة مهمة جداً إذا أردنا أن نبني مجتمعاً إسلامياً فعلينا أن نقرأ سيرة المعصومين (عليهم السلام) ونقتدي بها، فهم الأنوار التي تنير لنا الطريق في جميع مفاصل حياتنا.

النتيجة: جميع الأئمة (عليهم السلام) بما فيهم الحسين (ع) عملوا وأخذوا بالأسباب التي تؤدي بهم إلى الحكم، وقاموا بتهيئة المقدمات لذلك ولكن الظروف لم تخدمهم، وصحيح بأن الحسين (ع) كان خروجه دفاعياً بحسب مجريات الأحداث، ولكن مواقفه وأقواله كانت تبيّن بأنه سيخرج ابتداءاً على حكم يزيد حتى لو لم يجبره على البيعة؛ لأن بقاء يزيد في الحكم من غير مقاومة يعني القضاء على الإسلام عملياً، أي الخروج على أي حاكم هدفه القضاء عليه وأخذ الحكم منه، من غير المعقول أن يخرج الحسين على يزيد وإذا انتصر يعطي الحكم للآخرين، ثم لا يمكن للحسين (ع) الإصلاح في أمة جدّهِ من غير أن يملك زمام الأمور ويستفيد من القوة، ولا يمكنه ذلك إلا بالوصول إلى الحكم، ووظيفة المعصومين (عليهم السلام) هو إقامة العدل على الأرض ولا يمكن ذلك إلا بإقامة الحكومة الإسلامية.

الحكم وسيلة وليس هدف

صحيح بأن الأئمة (عليهم السلام) كانوا يهدفون الوصول إلى الحكم، وفي المرحلة الأولى من حركتهم المباركة يكون الهدف الوصول إلى الحكم واسترجاع حقهم المسلوب، ولكن هذا الهدف المرحلي من أجل تحقيق الهدف النهائي والأسمى وهو تنفيذ شرع الله لإقامة العدل على يد المعصوم (ع)، والمعصوم (ع) لا يسعى إلى الحكم بما هو حكم، وهذا هو ديدن الطواغيت، وإنما غاية المعصومين (عليهم السلام) من الحكم هي توظيف هذه الوسيلة في سبيل تحقيق الأهداف الإلهية من الخلق وبعثة الأنبياء وجعل كلمة الله هي العليا، وبما أن هذه الأهداف لا تتحقق إلا بإقامة الحكومة الإسلامية، فالسعي نحو القوة أمر واجب، وبما أن مقدمة الواجب واجب، فلا بدّ من توفير هذه المقدمات وهذا ما فعله المعصومون (عليهم السلام)، وهذا هو تكليفنا في عصر الغيبة.

الحسين (ع) تحرك وفق قاعدة إحدى الحسنيين

المعصوم لديه علم ما كان وما سيكون المصير وما ستؤول إليه الأمور وكيفية استشهاده، ولكن كيفية تحركه يكون مبنياً على الواقع السائد، ويخرج بالأسباب الطبيعية، ولذلك فعله حجةٌ علينا وسيرته نهجٌ لنا، فلو كان يتحرك ويعمل بالمغيبات لما صار فعله حجةٌ علينا؛ لأن ذلك أمر فوق طاقاتنا ووسعنا ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وقد جعل الله التكليف وفق الطاقة، والحسين (ع) تحرك وفق قاعدة إحدى الحسنيين فإما النصر أو الشهادة، وكان مستعداً للخيارين ولكن تسلسل الأحداث فرض على الحسين (ع) واقع لم يترك له إلا الشهادة، فكانت الشهادة حسينية.

الشهادة الحمزوية والشهادة الحسينية

الشهادة الحمزوية نسبةً إلى سيد الشهداء حمزة بن عبدالمطلب عم النبي (ص)، وصاحبها يملك خيارين عند الخروج إلى الجهاد، والشهادة الحسينية لم يكن يملك صاحبها إلا الشهادة، لذلك منزلة أنصار الحسين (ع) أعلى حتى من شهداء بدر.

الحسين (ع) حركته كانت على قاعدة إحدى الحسنيين، ولكن شهادته لم تكن وفق قاعدة إحدى الحسنيين بل كانت شهادة حسينية.

عدم الخلط بين النتيجة والهدف

البعض يقول بأن الحسين (ع) خرج من أجل الشهادة، وهذا خلط واضح بين الهدف والنتيجة، الحسين (ع) خرج من أجل الإصلاح وذلك بالقضاء على الطاغوت وإقامة الحكومة الإسلامية، ولكن بسبب خذلان الأمة له والذي أنتج واقعاً جديداً، فكانت نتيجته هي شهادته (ع).

الإصلاح أحياناً بحاجة إلى الدم

وصول الإمام (ع) إلى الحكم يؤدي إلى الإصلاحات، ولكن أحياناً هذا لا يكفي بسبب الوضع المأساوي للأمة فيكون الإصلاح بحاجة إلى الدم، وشاءت الإرادة الإلهية بأن يكون الإصلاح الحسيني ليس بوصوله إلى الحكم بل بدماءه الطاهرة، وقد تحدثنا عن هذه النقطة تحت عنوان: آثار دماء الحسين (ع)، وهكذا وضع الحسين (ع) باستشهاده اللبنة الأولى من لبنات الحكومة الإسلامية الإصلاحية الكبرى في دولة الإمام الحجة أرواحنا لتراب مقدمه الفداء.

كتب للقراءة

لمعرفة الأساليب المختلفة التي لجأ إليها المعصومون (ع) في سبيل الوصول إلى الهدف النهائي، وللوقوف عند السيرة السياسية التحليلية للمعصومين (عليهم السلام)، اقرأ هذه الكتب:

  1. أهل البيت وحدة هدف وتعدد أدوار، الشهيد الصدر
  2. إنسان بعمر 250 عام، الإمام الخامنئي
  3. التاريخ الإسلامي، سيد محمد تقي المدرسي

كربلاء قمّة العشق

في الرواية بأن أحدهم سأل الإمام الصادق (ع) عن الله تعالى: هل صدفت وأنت في وسط البحر وتغيرت الأجواء فهبت عاصفة ونزل مطراً شديداً فهاج البحر وتعرضت للأمواج العاتية؟ فقال: بلى، قال له الإمام (ع): هل انقلب بك القارب فصرت في عرض البحر تطلب النجدة؟ قال: بلى، قال الإمام (ع): عندما انقطعت بك السبل عن الدنيا ولكن في داخلك شعوراً أن لا زال هناك قوة تأخذ بيدك نحو النجاة فتعلقت بها بقلبك وأنجتك من الهلاك، هذه القوة هو الله سبحانه وتعالى.

يقول الفيلسوف الكبير آية الله جوادي آملي يُستفاد من هذه الرواية بأن مركز العلاقة مع الله هو القلب، ففي الوقت الذي يتوقف العقل عن التفكير وينقطع كل شيء يظل القلب متصلاً بالله تعالى، فهذه هي الروح والنفس الإنسانية التي تتصل بالله بالفطرة، لذلك البشر على مختلف معتقداتهم في الشداد والصعاب يلجأون بشكلٍ تلقائي إلى الله سبحانه وتعالى ويتضرعون إليه بالدعاء، وقد يكون منشأ ذلك بأن الإنسان يحمل في فكرته روح الإلهية، حيث يقول الله تعالى: <وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي>[8]، فالنفس هي التي تقرب أو تبعد الإنسان من الله وليس العقل، كثيرٌ من الأمور نعرفها بالعقل ولكن النفس تمنعنا من العمل بها، فنحن عقلاً ندرك بأن الذنوب والمعاصي أمرٌ قبيح عقلاً وشرعاً، ولكن نرتكبها لأن النفس الأمارة بالسوء تدفعنا إليها، كما أننا نعلم عقلاً بأننا علينا الإتيان بالعبادات والطاعات وأن نحرص على إقامة الصلاة في أول وقتها بحضور القلب وخشوعه، ولكن النفس الأمارة بالسوء لم تدفعنا لهذه الأمور وهي في حالة إدبار عن طاعات الله، وكذلك نصرة الحق والجهاد ضد الظالمين والطغاة حيث ندرك بالعقل بأننا علينا القيام بذلك ولكن النفس الذي استحوذ عليها حب الدنيا والركون إلى الدعة والراحة تمنعنا من ذلك، لنأخذ مثالاً على ذلك من كربلاء.

عبيدالله بن الحر الجعفي

في الرواية المعروفة حينما كان الإمام الحسين (ع)متوجهاً إلى كربلاء، في الطريق التقى بعبيدالله بن الحر الجعفي وقد نصب له خيمة، فدعاه الإمام (ع) إلى نصرته، فقال للإمام الحسين (ع): «إنا لله وإنا إليه راجعون والله ما خرجت من الكوفة إلا كراهية أن يدخلها الحسين وأنا فيها، والله ما أريد أن أراه ولا يراني»[9]، أي يعني هو هاربٌ حتى لا يلتقي بالحسين (ع)، «لكن فرسي هذه الملحقة، والله ما طلبت عليها شيئاً قطّ إلا لحقته، ولا طلبني وأنا عليها أحد قطّ إلّا سبقته، فخذها فهي لك»[10]، أي عرض على الإمام فرسه دون نفسه، قال له الإمام الحسين (ع): «أما إذا رغبت بنفسك عنا فلا حاجة لنا إلى فرسك»[11]، وقال له الإمام (ع): التفت إلى جواب عبيدالله بن زياد جيداً «يا بن رسول الله إني أعلم بأن الخارج معك والمقتول تحت راية نصر جدك ولكنها نفسي لا تدفعني». أي بأن النفس هي التي دفعت أناس ومنعت آخرين عن نصرة الحسين (ع)، ولكن ما هي الأنفس التي دفعت إلى نصرة الحسين (ع) والحق؟ هي تلك النفوس الغالية العاشقة التي تتجه نحو معشوقها الله؟ج؟.

القلب مكمن العشق

عودة إلى تعليق آية الله جوادي آملي على الرواية التي ذكرناها وتحديداً قوله: مركز العلاقة مع الله هو القلب والعشق محله القلب، إذاً العشق حالة من التفاعل والمحبة والذوبان اتجاه المعشوق وهذه حالة منشأها القلب فنقول قلب العاشق ولا نقول عقل العاشق، الذي يجعل من الإنسان بأن يرتقي إلى مدراج الكمال في علاقته مع الله سبحانه تعالى هو «العشق»، والذي يدفع الإنسان نحو التضحية في سبيل الله هو «العشق»، والعاشق هو مجنونٌ في معشوقه ولا يرى وجوداً سواه ولا يهمه إلا رضاه؛ فيدفعه جنونه بأن ينفني باتجاه معشوقه وهذا ما فعله الحسين (ع) وهو القائل:

تركتُ الخلقَ طُرّاً في هواكاوأيتمـتُ الـعيالَ لكي أراكـا
فلـو قطّعتَــني بالحـبّ إربــاًلَـما مـال الفؤادُ إلى سواكا

ففؤاد الحسين (ع) هو العشق والجنون للوصول إلى المعشوق دفعه بترك الدنيا وما فيها وترك جسده الطاهر للسيوف، فمنطق العشق هو منطق «الجنون».

منطق العشق والجنون

الاستخدام الشائع لمنطق الجنون هو الاستخدام السلبي ولكن في علم العرفان وعند العرفاء فله منطق إيجابي.

العشق هو الجنون والعاشق مجنونٌ لمعشوقه، ودائماً منطق العشق وفقاً للمعادلات والمقاييس المادية يخالفه ما يسمى بالعقلنة والحكمة المبنية على الحسابات المادية.

فالمقولة العرفانية لسيدتنا زينب(عليها السلام) التي خرجت من مدرسة عرفان الإمام علي وفاطمة الزهراء (عليهم السلام) «ما رأيت إلا جميلاً»، فأي جميلٍ في أن يرى الإنسان أهل بيته وأخوانه وأبنائه مقطّعين إرباً إرباً، وفقاً للمنطق المادي والحسابات المادية هذه فاجعة وكارثة ولكن السيدة زينب(عليها السلام) العارفة العاشقة ترى بأن كل شيءٍ «جميل» في سبيل معشوقها وهو الله سبحانه وتعالى.

العقلاء الماديون يعبرون عن هذه المقولة وهذا الموقف بـ«الجنون»، والعرفاء والعشاق أيضاً يعدّون هذا الموقف «جنوناً»، ولكن شتّان بين ما يعنيه العقلاء والماديون وما يعنيه العرفاء العشاق من لفظ كلمة «جنون»، فالماديون يرونها بأنها معيباً وخلافاً للعقل، والعرفاء يرونها بأنها أمراً حسناً وهي قمّة العشق.

منطق الحسين (ع) والانتصارات

منطق الجنون هو منطق الحسين (ع) وأصحابه وأهل بيته (عليهم السلام)، وهو المنطق الذي حقق الانتصارات في زماننا هذا، ما فعله الحسين (ع) وفقاً للحسابات المادية والعقلائية يعدّ جنوناً بل تهلكة، فلذلك فإن أصحاب العقل والمصلحة نصحوا الحسين (ع) بعدم الخروج والمواجهة، والأسباب التي ذكروها وقراءتهم للمجريات كانت صحيحة، والحسين (ع) ليس أخف منهم عقلاً ولم تكن غائبة عنه ما قدمه أولئك من الأسباب والقراءة السياسية آنذاك، ولكن ليس هذا منطق الحسين (ع) في خروجه، منطق العقل والمصلحة هو منطق السياسيين، أما الحسين (ع) هو ثائرٌ وعاشقٌ والثورة منطقها «الجنون».

السيد القائد الخامنئي «أنا ثوري»

عندما ارتفعت لبعض أصحاب العقلنة والسياسية الذين يبنون مواقفهم بقدر مصالحهم وليست المبادئ في داخل الجمهورية الإسلامية، يعاتبون السيد القائد الخامنئي على خطابه القاسي بخصوص الشيطان الأكبر أمريكا قائلين: «بأن هذه الخطابات لم تتناسب مع الأعراف الدبلوماسية»، فالسيد القائد الخامنئي أجابهم ورد على منطقهم المادي حيث قال: «أنا ثوري ولست دبلوماسي، أقول ما عندي بكل صراحةٍ وصدق»[12]، نعم هناك فارقٌ كبير بين الثوري والسياسي ومنطق كل واحدٍ منهما، وأبرز مثال في هذا الخصوص في أيامنا هذا هو موقف رئيس الزوراء العراقي حيدر العبادي حينما قال: «لم نجازف بمصالح شعبنا من أجل إيران»، شعبٌ مؤمنٌ محاصرٌ أوجد كل أوجه الدعم للعراق والأهم من ذلك كله هو أن إيران هي الدولة الشيعية الوحيدة القائمة في العراق، ولكن هذا هو منطق السياسة والسياسيين، المنطق الأقرب إلى خذلان الحق من نصرته، القائم على المصالح المادية وليس التكليف الشرعي، وفي المقابل هناك الحشد الشعبي الذي يتخد الحسين (ع) إماماً ويسير على نهجه فينطلق في موقفه من التكليف الشرعي ونصرة الحق وليس وفقاً للمصالح المادية، وهذا هو الفرق بين الثوري والسياسي، لذلك لو كان أبناء الحشد الشعبي في زمن الحسين (ع) لنصروه، وحيدر العبادي ومن على شاكلته لنصحوه لعدم تعريض نفسه إلى الخطر والتاريخ يعيد نفسه.

الحسين الثائر (ع)

ثار الحسين (ع) بمنطق العشق والجنون وحقق انتصاراً تاريخياً خالداً وفق معادلة «انتصار الدم على السيف» ورسم نهجاً جديداً للأحرار والمستضعفين في كل زمانٍ ومكان في مواجهتهم ضد الطواغيت والمستكبرين، فمن اقتدى بمنهج الحسين (ع) فالنصر حليفه، وهذا هو المنطق الوحيد الذي حقق الانتصار في كربلاء وإلى زماننا هذا.

الإمام الخميني العظيم (رضوان الله عليه)

في زمن المعادلات المادية جاء حفيد الحسين وخريج مدرسة عاشوراء والذي عرف الحسين (ع) حق المعرفة وضرب بالمعادلات المادية عرض الحائط وثار على خطى جده الحسين (ع) عاملاً بالتكليف الشرعي، ودافعه كان عشقه للإسلام العزيز حتى قيل بأن أكثر كلمة قد رددها في خطاباته هي: «الإسلام العزيز»، ويقول العارف شيخ بهجت(رحمه الله): «لكل إنسانٍ اسمٌ في عالم البرزخ واسم الإمام الخميني الذي ناله في ذلك العالم هو الإسلام».

بنهج الحسين (ع) وبمنطق العشق والجنون ثار على عرش الطاغوت الذي كان يمتد عمره لألف وخمسمائة عام، فكان أصحاب العقل والحكمة المادية أولئك الذين كانوا يتظاهرون بلباس الدين يستنكرون على فعله بل حاربوه بحجة أن فعله هذا سيجر على الطائفة بالويلات ورموه بالجنون والوقحين منهم بالخرف، وكانوا يقولون بمنطقهم المادي بأنه يريد أن يزيل رابع أقوى قوة في المنطقة آنذاك بعمامته وعباءته وسبحته، نعم الخميني (رضوان الله عليه) الثائر العاشق بعمامته المحمدية وعباءته الحسينية وسبحته المهدوية أزال عرش الطاغوت وبانتصاره هذا فتح الطريق إلى الانتصارات المتلاحقة التي نعيشها اليوم، كل هذه الانتصارات ببركة الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي جعلت من الشيعة أعزاء يؤثرون في المعادلات العالمية، وعندما حقق هذا الانتصار العظيم كشف عن السر وقال: «كل ما لدينا من عاشوراء».

حزب الله المظفر

في المنطق المادي لا يمكن لثلة قليلة أن تقاوم أقوى جيوش المنطقة فضلاً في أن ينتصر عليه وعلى حد زعم وقول أحد كبار علماء الشيعة آنذاك عندما تم مناقشة خيار المقاومة ضد الكيان الصهيوني الغاصب قال: «العين لا تقاوم بالمخرز»، ولكن بالمنطق العاشورائي وتحت قيادة حسين هذا الزمان الإمام الخميني (رضوان الله عليه) ومن بعده الإمام الخامنئي وبمعادلة انتصار الدم على السيف، وبمنطق العشق والجنون، وبدافع ثقافة الاستشهاد حققت القلة القليلة انتصاراً ساحقاً، ودمرت الصهيونيين وغيرت المعادلات الإقليمية، وفي خطابٍ لسماحة الأمين العام السيد حسن نصرالله حفظه الله عن العمليات الاستشهادية موجهاً حديثه إلى الصهاينة المستنكرين الذين يقولون كيف يمكن لشاب أن يقوم بتفجير نفسه والقيام بعملية استشهادية قال: «لا يمكنني أن أشرح لكم ذلك، ليس عجزاً مني، وإنما أنتم لا تستطيعون استيعاب ذلك لأنكم لا تعرفون الشهادة ولا يمكنكم إدراك ذلك» نعم إذا كان بعض الشيعة لا يستطيعون إدراك منطق العشق والجنون فما بالك بالصهاينة، وحدهم العاشورائيين الكربلائيين الحقيقيين يعرفون معنى وعظمة الشهادة، فالشهادة سلاح العشاق والمجانين للوصول إلى معشوقهم والذوبان فيه.

نقطة لا بد من الإشارة إليه

الإنسان كلما كبر كلما ركن إلى الدنيا والدعة والراحة ويصعب عليه اتخاذ القرار بسرعة وشجاعة والسبب في ذلك هي التجارب المادية التي مرت عليه في حياته، فيصبح مقيداً بالحسابات المادية أكثر كما خوفه من تداعيات اتخاذ قراره عليه أكثر، ويعتبرون ذلك من الحكمة والعقلنة، وفي المقابل الشباب أكثر اندفاعاً وشجاعةً في اتخاذات قرارهم، وفطرتهم السليمة التي لم تلوثها الماديات، وتعشق الكمال الذي يتمثل في الله الكمال المطلق(عز وجل)وتدفعه الوصول إلى المعشوق، والشباب الذين يُحاربون من قِبل أصحاب الحكمة والذين يسمونهم بالطيش وعدم الحكمة هم الذين يغيرون مجرى التاريخ ويصنعون المستحيل، الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز عندما يتحدث عن تحطيم الأصنام من قبل النبي إبراهيم (ع): <قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ>[13]، ويقول عن أصحاب الكهف: <إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى>[14]، وجبرائيل عندما نزل في غزوة أحد بسيف ذو الفقار قال «لا فتى إلا على ولا سيف إلا ذو الفقار»، نعم إنهم الفتية الذين امتدحهم الله تعالى ويحققون الانتصارات، وبنظرة سريعة إلى الشهداء في جميع الثورات، نجد أغلبيتهم الساحقة هم الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15-25 عاماً، ويقول السيد الإمام الخميني (رضوان الله عليه) عن هؤلاء الشهداء: «مسيرة المئة عام قد طووه في ليلة»، أي الوقت الذي يستغرقه العلماء والعرفاء للوصول إلى الله، لكن الشهداء قاموا بطيّه في ليلة وقد وصلوا إلى المقصد والهدف، فإذاً أيهما أعظم الحكمة العقلية أم العشق القلبي؟

الحسين صاحب الوجه المشرق

لنقف الآن مع مواقف أولئك الذين أسسوا منطق العشق والجنون وقدموا في هذا الطريق أروع الأمثلة للذوبان في المعشوق، أما إمامهم ومقتداهم الحسين (ع) فقد قيل في حقه في اليوم العاشر من محرم «كلما اشتد عليه البلاء ازداد وجهه إشراقاً»، أصحاب المنطق المادي يجزعون في البلاء ولكن الحسين العاشق (ع) يجد في البلاء لذة؛ لأنه يقربه من معشوقه الله سبحانه وتعالى، فكلما اشتد عليه البلاء اقترب من الوصول للمعشوق لذلك كلما ازداد البلاء ازداد وجهه إشراقاً وقلبه استبشاراً ونفسه اطمئناناً لأن لقاء المعشوق صار قريباً وهذا هو قمة الوصال وغاية المنى.

أصحاب الحسين (عليهم السلام)

أما أصحاب الحسين (عليهم السلام) فقد قال عنهم الإمام الباقر (ع): «أصحاب جدي الحسين (ع) لم يذوقوا أبداً مسّ الحديد»، أي أنهم لم يشعروا بضربات السيف وطعنات الرمح التي نالت منهم وهذا أمرٌ طبيعيٌ جداً، فإلى النسوة، أين الشعاع من نور الله المتمثل في يوسف فقطعن أيديهن ولم يشعرن بذلك فما بالك إلى أصحاب الحسين (عليهم السلام) الذين رأوا نور الله كله بل مظهر الله على الأرض وهو الحسين بن علي (ع) فذابوا عشقاً في الجمال الإلهي فهل يشعرون بضربات السيف وطعنات الرمح؟ وهم أساساً هل كانوا يشعرون بوجود شيء غير الحسين (ع)؟ فقد ذابوا بكامل وجودهم في وجودٍ واحدٍ اسمه الحسين (ع) وانعكس ذلك في أقوالهم وأفعالهم، فها هو سيد الأنصار حبيب (ع) في ليلة العاشر يريه الحسين (ع) مكانه في الجنة فيبكي ويسأل الحسين (ع): «هل أنا معك في الجنة؟» فما قيمة الجنة من غير الحسين (ع)؟

وها هو مسلم بن عوسجة يقول للحسين (ع): «والله، لو علمت أنّي أُقتل ثمّ أحيا ثمّ أُحرق ثمّ أحيا ثمّ أذرّى، يُفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتى ألقى حِمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة! ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً»[15]، فهل لعاشقٍ مثل مسلم أن يشعر بحرارة السيف في سبيل الدفاع عن الحسين؟

وها هم الأخوان الغفاريان يستأذنان القتال وهما يبكيان، فقال الحسين (ع): لِمَ البكاء؟ وأني لأرجو أن تكونا أمامي في الجنة. فقالوا: ما على أنفسنا نبكي ولكن نبكي لأننا لا نملك إلا أرواحنا للدفاع عنك وعن حريمك.

ومن مثل هؤلاء؟ يشعرون بأنهم أمراء وهم يسترخصون أرواحهم للدفاع عن معشوقهم الحسين (ع)، لذلك يقول عنهم الحسين (ع): «أما والله إني لا أرى أصحاباً خيرٌ من أصحابي ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عني خيراً» نلاحظ بأن الإمام قد أقسم بالله أولاً، وهو الإمام المعصوم، القرآن الناطق الذي لديه علم الأولين والآخرين، أي معنى حديثه بأنه لا يوجد أشخاص خيرٌ من أصحابي في الأولين والآخرين.

قمة العشق والجنون

موقفٌ لا يمكن لأصحاب المنطق المادي تبريره ولا لأصحاب العقلنة والمصلحة تفسيره بل حتى فهمه وإدراكه، لم يفهم هذا الموقف إلا أصحاب العشق والجنون بل قمة العشق والجنون، العباس (ع) يصل إلى المشرعة ويشعر ببرودة الماء ولم يشرب الماء وفاءً لمعشوقه الحسين وأطفاله (عليهم السلام)، بالمنطق المادي فإن على العباس (ع) أن يشرب الماء ويروي عطشه لكي يتقوى ويعود إلى القتال، فما فعله العباس يعتبر جنوناً ويفتقد للحكمة وهذا قرارٌ عاطفي يخالف العقلنة، أما وفقاً لعاشقٍ كالعباس (ع) الذي لا تديره الحسابات المادية فيسجل موقفاً لكي يتعظ به التاريخ ويكون محل تأمل للذين يقولون بأن هذا جنوناً، فأراد العباس (ع) بأن يكون هو على رأسه، فهو الذي ذاب عشقاً في سيده الحسين (ع) وهل العشق إلا الجنون؟

كربلاء القمة

كربلاء أُريد لها أن تكون القمة في كل شيء، قمة في المحاسن الأخلاقية والروحية والمعنوية.

الحسين (ع) قمةٌ في الرضا .. «خذ حتى ترضى»

زينب(عليها السلام) قمةٌ في العرفان .. «ما رأيتُ إلا جميلاً»

العباس (ع) قمةٌ في الوفاء .. ينزل المشرعة ولا يشرب الماء

الأكبر (ع) قمةٌ في التسليم .. «أو لسنا على الحق إذا لا نبالي أوقعنا على الموت أم وقع الموت علينا»

القاسم (ع) قمةٌ في الوعي .. «كيف ترى الموت؟ أحلى من العسل»

حبيب (ع) قمةٌ في الذوبان .. الحسين (ع) يريه مكانه في الجنة وهو يسأل الحسين (ع) غير مبالٍ بما رأى: «هل أنا معك في الجنة؟»

عابس (ع) قمةٌ في الجنون .. «حب الحسين أجنني»

مسلم (ع) قمةٌ في الفداء .. «والله، لو علمت أنّي أُقتل ثمّ أحيا ثمّ أُحرق ثمّ أحيا ثمّ أذرى، يُفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك»

الأصحاب (عليهم السلام) قمةٌ في العشق .. عن الباقر (ع): «أصحاب جدي الحسين (ع) لم يذوقوا أبداً مسّ الحديد»

قمةٌ في الخير والبر .. عن الإمام الحسين (ع): «أما والله إني لا أرى أصحاباً خيرٌ من أصحابي ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي»

قمة القمم كربلاء وكفى ..

للتأمل

يقول سماحة السيد هادي المدرسي: لا يُقاس الحسين (ع) بالزوار بل بالأنبياء ولا تقاس كربلاء بالمدن بل بالسماوات ولا تقاس عاشوراء بحوادث الدهر بل بمنعطفات الكون.


  • [1] مع الركب الحسيني، الجزء الأول، نجم الدين الطبسي
  • [2] الفتوح، أحمد بن أعثم الكوفي، جزء 3، صفحة 17
  • [3] موسوعة كلمات الإمام الحسين (ع)، لجنة حديث في معه باقر العلوم، صفحة 353
  • [4] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، جزء 44، صفحة 329
  • [5] الحديد: 25
  • [6] كتاب إنسان بعمر 250 عام، الإمام الخامنئي (مضمون الكتاب وليس نصّه)
  • [7] التاريخ الإسلامي، سيد محمد تقي المدرسي (مضمون الكتاب وليس نصّه)
  • [8] الحجر: 29
  • [9] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، جزء 44، صفحة 379
  • [10] الأخبار الطوال، أبو حنيفة الدينوري، صفحة 250
  • [11] نفس المصدر
  • [12] خطاب سماحته بتاريخ 7-2-2013 مع لقائه مع جمع من أعضاء القوة الجوية للجيش الإيراني
  • [13] الأنبياء: 60
  • [14] الكهف: 13
  • [15] الإرشاد، الشيخ المفيد، جزء 2،صفحة 92
المصدر
كتاب يسألونك عن عاشوراء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟