العلاقة بين السلطات الثلاث
- النظام الأول – النظام البرلماني
- النظام الثاني – النظام الرئاسي
- النظام الثالث – النظام المجلسي
- النظام الرابع – النظام المختلط
- النقطة الأولى – نشأة الأحزاب السياسية الحديثة
- النقطة الثانية – العناصر الأساسية في تكوين الأحزاب
- النقطة الثالثة – بنية الأحزاب
- النقطة الرابعة – النظم الحزبية
- النقطة الخامسة – وظائف الأحزاب
تقوم الدولة بثلاث وظائف أساسية من أجل تحقيق أهدافها لخدمة المجموعة البشرية التي تتحمل مسؤوليتها، وهي التشريع والتنفيذ والقضاء، وكانت نظم الحكم القديمة تحصر الوظائف الثلاث في هيئة واحدة، ولا تزال الأنظمة الديكتاتورية مثل الملكية المطلقة ونظام الحزب الواحد في العالم الثالث تفعل ذلك في الوقت الحاضر، حيث تشرف العائلة المالكة أو الحزب الواحد على جميع السلطات في الدولة و يجعلانها تحت إرادتهما، ومع كفاح الشعوب ضد الاستبداد والطغيان والتعسف ومن أجل فرض الديمقراطية وحقها في حكم نفسها بنفسها، تأخذ الدول الحديثة المتقدمة بتوزيع الوظائف الثلاث، وتمنع الأخريات من تجاوز سلطتها، وتحصرها في النطاق المخصص لها دستورياً، وذلك لحماية الحقوق والحريات الفردية والجماعية، وخلق التوازن، ومنع تركز السلطة في يد واحدة والحيلولة دون حصول الاستبداد والتعسف والطغيان وتقسيم العمل مما يؤدي إلى تخفيف الأعباء وإتقان العمل وقيام دولة المؤسسات والقانون حقاً وحقيقة.
وفي حال التقسيم تبرز مشكلة أساسية تتعلق بتنظيم العلاقة بين الهيئات العامة التي تتولى هذه الوظائف، وقد اختلفت الأنظمة تبعاً لطبيعة التنظيم بين السلطات الثلاث إلى الأنظمة التالية:
النظام الأول – النظام البرلماني
هو النظام السائد في معظم الدول الحديثة، وهو صالح للتطبيق في النظامين: الملكي والجمهوري، وهو يكفل التوازن والتعاون بين السلطات الثلاث، ولا يسمح لإحداها بالسيطرة على الأخريات، ويمثل النموذج الأفضل لمبدأ الفصل بين السلطات، فمن خصائصه ثنائية السلطة التنفيذية: حيث يوجد رئيس للدولة غير مسؤول سياسياً (ملك أو رئيس جمهورية) لأنه لا يحكم، فهو لا يمارس وظائف تنفيذية وإلا وجبت مساءلته، فالقاعدة: حيث ما كانت الوظائف التنفيذية كانت المساءلة، وإلا ضاعت الحقوق العامة لأبناء الشعب، وإلى جانبه مجلس وزراء يحكم، وله الصدارة في السلطة التنفيذية، ويكون مسؤولاً سياسياً أمام البرلمان، وبعض الدساتير تعطي رئيس الدولة حق تعيين الوزراء وإقالتهم، وحق الاعتراض على مشروعات القوانين وردها إلى البرلمان، ودعوة البرلمان إلى الانعقاد وتأجيله وحل البرلمان، وغالباً ما يأتي الحل بناء على طلب من مجلس الوزراء خشية أن تأتي الانتخابات الجديدة بذات الأغلبية، فيسيء ذلك إلى المركز الأدبي للرئيس، ويكون تشكيل الوزارة من حزب الأغلبية البرلمانية أو من عدة أحزاب لم يحصل أي منها على الأغلبية الكافية لتشكيل الوزارة؛ لأن النظام البرلماني يفترض وجود أحزاب سياسية تتناوب على الحكم، ورئيس الدولة يكلف عادة رئيس حزب الأغلبية البرلمانية بتشكيل الحكومة، وفي ظروف الأزمات قد تشكل الوزارة الإدارية من تكنوقراط حياديين لتصريف الشؤون العامة لفترة مؤقتة، وفي الأزمات الكبرى تشكل وزارة الاتحاد الوطني من ممثلن لجميع الأحزاب والاتجاهات السياسية الممثلة في البرلمان.
وفي النظام البرلماني ينتخب رئيس الجمهورية – غالباً – بواسطة البرلمان بالاقتراع السري، إلا أن البرلمان لا يمتلك حق عزله قبل انتهاء مدة رئاسته، وذلك بهدف المحافظة على استقلالية الرئيس من الناحية القانونية.
أما عن تنظيم العلاقة بين السلطات في النظام البرلماني، فهي تقوم على أساس التعاون والرقابة المتبادلة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية.
أما التعاون، فمن خلال دور السلطة التنفيذية في التهيئة للانتخابات والدعوة إليها وضمان إجرائها في مواعيدها في ظروف آمنة، وجواز الجمع بين عضوية البرلمان والمنصب الوزاري، وحق الوزراء في دخول البرلمان والاشتراك في جلساته وشرح سياسة الحكومة والدفاع عنها، وإعداد مشروع الميزانية ليتولى البرلمان مناقشته وتعديله ثم إقراره.
وأما الرقابة المتبادلة: فتتمثل في رقابة السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية، وتُعرف بالرقابة السياسية ولها صور عديدة:
الصورة الأولى – حق السؤال: حيث يحق لكل عضو من أعضاء البرلمان توجيه أسئلة لرئيس الوزراء وأعضاء حكومته، للاستفسار عن موضوع معين أو طلب معلومة بهدف لفت نظر الوزير إلى أمر معين أو لمعرفة نية الحكومة فيه دون أن يتضمن ذلك معنى الاتهام أو النقد أو المساءلة، وينحصر السؤال في النائب السائل دون تدخل الأعضاء الآخرين، وله حق سحب السؤال، وإذا لم يقتنع بإجابة الوزير يحق له أن يجعل من موضوعه استجواباً.
الصورة الثانية – حق الاستجواب: يتضمن معنى النقد والمحاسبة والمساءلة والاتهام لرئيس الوزراء أو لأحد وزرائه بسبب تصرف غير صحيح أو سياسة خاطئة، ويحق لجميع النواب الاشتراك، بل يحق لهم الاستكرار في المناقشة حتى لو سحب العضو المستجوب استجوابه إذا تبنى الاستجواب أحد الأعضاء، وفي حال عدم اقتناع النواب بإجابة الوزير أو رئيس الوزراء، قد يتطور الأمر إلى تحريك مسؤولية الوزير أو الوزارة وتطرح الثقة في الوزير أو الوزارة.
ونظراً لخطورة الاستجواب، تمنح الدساتير والأنظمة الداخلية للبرلمانات مهلة كافية للحكومة لتحضير الردود وتعزيز دفاعها بالمستندات بهدف حمايتها من التعسف.
الصورة الثالثة – حق التحقيق: بواسطة إحدى لجان المجلس الدائمة أو تشكيل لجنة متخصصة من أعضاء المجلس بهدف الوصول للحقيقة في مسألة معينة، ويتيح التحقيق للبرلمان الفرصة للحصول على المعلومات بصورة مباشرة بدلاً من الحصول عليها بواسطة الوزراء في الاستجواب، وتتمتع اللجنة بسلطة كاملة في استدعاء الأفراد والموظفين والبحث في الملفات والمستندات من أجل الوصول للحقيقة المطلوبة، وبعد انتهاء اللجنة من عملها، تقوم بتقديم تقرير إلى البرلمان لاتخاذ القرار المناسب على ضوء المناقشات، وفي حال الاقتناع بالتقصير أو الانحراف، قد يتطور الأمر إلى تحريك مسؤولية الوزير أو الوزارة وتطرح الثقة في الوزير أو الوزارة.
الصورة الرابعة – المسؤولية الوزارية: هي أهم وأخطر مظاهر الرقابة على السلطة التنفيذية، وتتمثل في طرح الثقة بالوزير بسبب أخطاء ارتكبها أو تقصير فادح في تصريف شؤون وزارته فيضطر إلى تقديم استقالته، هذا في الحالة التي تنصب المسؤولية على أحد الوزراء دون أن تمتد إلى زملائه أو إلى رئيس الوزراء ولم تقرر الوزارة التضامن معه، أما إذا قررت الوزارة التضامن مع الوزير ولم تقرر للوزارة أو لرئيس الوزراء، فإن المسؤولية تنصب على الوزارة كلها، وتوجب استقالة الحكومة ككل، وهذا يعني أن الوزير الذي له وجهة نظر مخالفة للحكومة في أمر من الأمور العامة عليه أن يقدم استقالته منها وإلا كان شريكاً ومسؤولاً عن جميع تصرفاتها.
كما أن النظام البرلماني يعطي السلطة التنفيذية بعض الرقابة على البرلمان، منها: حق رئيس الدولة في دعوة البرلمان للانعقاد وتأجيله وحله بشروط تفصلها الدساتير في حال نشوب خلاف مستحكم بين السلطتين التشريعية والتنفيذية أو من أجل تعديل ميزان القوى في داخل البرلمان، وجوهره اللجوء إلى الشعب صاحب السلطة من أجل التحكيم من خلال نتائج الانتخابات الجديدة، وحقه في اقتراح مشاريع القوانين والاعتراض والتصديق عليها وإصدارها ونشرها.
ويعتبر حق حل البرلمان أهم سلاح رقابي بيد السلطة التنفيذية في مواجهة السلطة التشريعية، وهو يوازي حق البرلمان في الاستجواب والتحقيق اللذين قد يؤديان إلى سقوط الحكومة.
النظام الثاني – النظام الرئاسي
تعد الولايات المتحدة مهد هذا النظام ومنها انتقل إلى العديد من دول العالم، ويقوم النظام تفصيلاً على الأسس التالية:
الأساس الأول – حصر السلطة التنفيذية في يد رئيس الدولة: رئيس الدولة هو رئيس الحكومة، وهو الذي يدير شؤون الحكم وأمور السلطة التنفيذية، فهو المسؤول عن وضع السياسة العامة للدولة والإشراف على تنفيذها وعن السياسة الخارجية وقيادة الجيش، وهو الذي يختار الوزراء ويحاسبهم ويعفيهم من مناصبهم، وليس لهم استقلال في مواجهته فهم مجرد معاونين له يشاورهم دون أن يكون ملزماً بآرائهم، ويكون مسؤولاً عن تصرفاته وتصرفات وزرائه ومساعديه أمام الشعب.
الأساس الثاني – الفصل بين السلطات: حيث تمارس كل سلطة الاختصاصات المسندة إليها في الدستور بالاستقلال عن السلطات الأخرى، فلا يجوز في النظام الرئاسي لرئيس الدولة دعوة البرلمان إلى الانعقاد أو فضه أو تأجيله أو حل البرلمان، وليس له حق اقتراح القوانين أو الاشتراك في مناقشتها، ولا يجوز الجمع بين الوزارة وعضوية البرلمان، وليس للوزراء الحق في دخول البرلمان إلا زائرين، وليس لهم الحق في مناقشة سياسة الحكومة أو شرحها أو الدفاع عنها في داخل البرلمان.
وفي المقابل، ليس للبرلمان حق التدخل في وظيفة السلطة التنفيذية، فالرئيس ينتخب مباشرة بالقتراع العام من قبل الشعب ليكون ممثلاً له في ممارسة السلطة التنفيذية، وهذا يضمن له مركزاً قوياً متوازياً مع البرلمان الذي يمثل الشعب في التشريع، والسلطة التنفيذية هي التي تقوم بوضع السياسة العامة للدولة، وهي التي تتولى تنفيذها وتكون مسؤولة عنها أمام الشعب مباشرة وليس أمام البرلمان، وليس للبرلمان حق توجيه السؤال للوزراء أو استجوابهم أو طرح الثقة بهم أو إرغامهم على حضور جلساته.
كما أعطى النظام الرئاسي للسلطة القضائية استقلالها في مواجهة السلطتين التشريعية والتنفيذية، فالقضاة لهم استقلال تام في إصدار قراراتهم، وأكثرهم يتم انتخابهم من قبل الشعب بنظام مستقل.
الأساس الثالث – خلق التوازن والتواصل بين السلطات: بهدف إيجاد حالة من التعاون بينها وتمكينها من العمل معاً من أجل الصلاح العام للدولة ويتمثل ذلك في النقاط التالية:
النقطة الأولى: إعطاء رئيس الدولة حق الاعتراض التوقيفي المؤقت على القوانين بردها إلى البرلمان خلال الأيام العشرة التي تلي صدورها، ويستطيع البرلمان إسقاط الاعتراض بالموافقة عليها بأغلبية الثلثين.
النقطة الثانية: إعطاء البرلمان حق الموافقة على كبار الموظفين؛ مثل السفراء والقناصل وقضاة المحكمة العليا والاشتراك في بعض سلطات رئيس الدولة لا سيما السياسية الخارجية مثل إبرام المعاهدات، وله حق إيجاد لجان برلمانية تقوم بالرقابة على أعمال الحكومة، وله حق اتهام كبار الشخصيات السياسية ومحاكمتهم مثل رئيس الدولة ونائبه.
النقطة الثالثة: إعطاء السلطة القضائية حق الرقابة على أعمال السلطتين التشريعية والتنفيذية، فلها حق الرقابة على دستورية القوانين وشرحها وتأويلها والامتناع عن تطبيقها في حال رأت مخالفتها للدستور.
النظام الثالث – النظام المجلسي
هو نظام برلماني يقوم على أساس التدرج وعدم المساواة في العلاقة بين السلطات الثلاث، ويحتل فيه البرلمان المكانة الأعلى (وعليه سمي بالنظام المجلسي)، فالنظام المجلسي مع إبقائه على مبدأ توزيع السلطات يقوم بترجيح السلطة التشريعية على السلطتين التنفيذية والقضائية ويجعلهما في قبضتها؛ لأنها تمثل الشعب مصدر السلطات جميعاً، ففي هذا النظام: يقوم البرلمان بانتخاب أعضاء الحكومة من بين أعضائه ويلزمها بتوجيهاته وبالسياسة العامة التي يضعها، وله حق المساءلة والاستجواب وسحب الثقة من الحكومة، وحق إلغاء أو تعديل القرارات أو الأعمال الصادرة عنها، وليس للحكومة أية رقابة أو تدخل في شؤون البرلمان، ويعتبر هذا النظام مناقضاً لمبدأ فصل السلطات ويؤدي إلى استبداد البرلمان، وهو مناقض لجوهر الديمقراطية، وتطبيقه أصبح محدوداً في الدول الديمقراطية الحديثة.
النظام الرابع – النظام المختلط
هو مزيج بين النظامين: البرلماني والرئاسي، ويعمل به في الجمهورية الفرنسية في الوقت الحاضر.
في هذا النظام تكون السلطة التنفيذية بيد رئيس منتخب من الشعب، وإلى جانبه وزارة مسؤولة أمام البرلمان تشترك معه في وضع السياسة العامة للدولة والإشراف على تنفيذها بحيث تتوزع بينهما الاختصاصات بناء على قواعد الدستور، وللبرلمان حق مساءلة الوزارة سياسياً وسحب الثقة منها وإجبارها على الاستقالة، ولرئيس الدولة حق دعوة البرلمان للانعقاد وحله.
البحث الرابع: الأحزاب السياسية
الحزب السياسي: منظمة تضم مجموعة من الأشخاص (سياسيين وناخبين) متوافقين على مبادئ وأهداف سياسية و أيديولوجية معينة، ويعملون مجتمعين وفق خطة محددة وبرامج عمل بهدف الوصول إلى السلطة والبقاء فيها لإدارة سياسة الدولة وتوجيهها من أجل تحقيق برامجهم، ويكون الوصول للسلطة عن طريق الأساليب الديمقراطية عبر الانتخابات في الدول الديمقراطية، وعن طريق الأساليب غير الديمقراطية كالثورة والانقلابات العسكرية في الدول غير الديمقراطية، وتعتبر الأحزاب السياسية عماد الديمقراطية، فلا حرية سياسية، ولا ديمقراطية بدون وجود عدد من الأحزاب السياسية، باعتبار أن الأحزاب تقوم بإبراز المبادئ السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتعمل على توعية الجماهير وبلورة آرائهم السياسية، وتسمح بتداول السلطة وقيام معارضة تحول دون استبداد حزب الأغلبية بها، ورغم أن وجود الأحزاب قديم في الحياة السياسية حيث الصراع بين السلطة والمعارضة على الحكم، إلا أن وجود الأحزاب السياسية في صورتها الحديثة ارتبط بوجود الديمقراطية في القرن التاسع عشر، وكانت قبل ذلك مجرد تكتلات مقصورة على فئة معينة من المواطنين تدين بالولاء لنبيل من النبلاء أو أمير من الأمراء أو لفئات من رجال المال والأعمال الذين يطمحون إلى السيطرة على الحكم في بلادهم، وأصبحت مسألة الأحزاب السياسية اليوم أحد أهم بحوث الفقه الدستوري وعلم السياسة، وتختلف الأحزاب الحديثة في نشأتها وتكوينها الفكري والتنظيمي والأدوار التي تضطلع بها في الحياة السياسية، وهذا يقودنا إلى البحث في نقاط عديدة ترتبط بالأحزاب:
النقطة الأولى – نشأة الأحزاب السياسية الحديثة
قد نشأت بطريقتين:
الطريق الأول – التكوين البرلماني: المراد به: تكوين الأحزاب من خلال النشاط البرلماني؛ حيث شهدت البرلمانات أول ظهور للأحزاب الحديثة بسبب انقسامها في أول الأمر إلى كتل ومجموعات سياسية بهدف الدفاع عن مصالح مهنية أو إقليمية، وبامتداد المناقشات إلى مسائل وطنية عامة، سعت الكتل لاجتذاب نواب آخرين خارج المهنة أو الإقليم يتفقون معهم في الرؤية السياسية، مما أدى إلى قيام تجمعات برلمانية جديدة على أساس وحدة الفكر، كما ارتبط قيام الأحزاب بظهور اللجان الانتخابية التي تتولى إرشاد الناخبين نحو مرشح معين في الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية أو المجالس المحلية، ثم وجدت اللجان نفسها متحدة بصورة غير مباشرة من خلال تعاون ممثليهم داخل كتل البرلمان أو المجالس المحلية مما أوجد بينها حالة تنسيق دائم وارتباط بروابط منتظمة ساعدت على تكوين الأحزاب السياسية.
الطريق الثاني – التكوين الخارجي: المراد به: تكون الأحزاب بصورة أساسية نتيجة لجهود مؤسسات فكرية ونقابية وغيرها ذات نشاط مستقل خارج البرلمان وبعيداً عن الانتخابات ومثالها الصارخ الأحزاب الدينية والاشتراكية والشيوعية، وتتميز بأنها أكثر مركزية وتماسكاً وانضباطاً من الأحزاب ذات المنشأ البرلماني الانتخابي.
وقد كانت غالبية الأحزاب حتى نهاية القرن التاسع عشر ذات منشأ برلماني، وفي القرن العشرين أصبحت الأحزاب ذات المنشأ الخارجي هي السائدة، وأصبحت الأحزاب ذات المنشأ البرلماني استثناء.
النقطة الثانية – العناصر الأساسية في تكوين الأحزاب
هي ثلاثة عناصر:
العنصر الأول: التنظيم
المراد به: حالة الضبط والتضامن التي تسود تشكيلات الحزب المختلفة أفراداً وهيئات من أجل تحقيق أهدافه.
وتختلف الأحزاب في طبيعة العلاقة القائمة بين تشكيلاتها: فمنها من يأخذ بالمركزية الشديدة، ومنها من يعتمد على اللامركزية، وفي جميع الأحوال توجد ثلاثة مستويات تنظيمية متدرجة تدرجاً هرمياً في الأحزاب:
المستوى الأول – القيادة: تتولى السلطة العليا في الحزب وتقوم بتوجيه أعضائه وجماهيره.
المستوى الثاني – الأعضاء: هم الأفراد الذين انضموا طواعية للحزب إيماناً به، وكلما كان عدد أعضاء الحزب أكبر كلما كان الحزب أقدر على تحقيق أهدافه.
المستوى الثالث – الجماهير: هم مؤيدو الحزب وقاعدته الانتخابية والموالون له من غير أعضائه.
وتتوقف فاعلية الحزب ونجاحه على قدرة القيادة في إدارة المستويات الثلاثة والتنسيق بينها جميعاً.
العنصر الثاني: الأيديولوجية
المراد بها: التصور الفكري المشترك والقيم العليا والرؤية السياسية الخاصة بالحزب والمميزة له عن غيره من الأحزاب، ومنها ينطلق في بناء توجهاته ومواقفه السياسية.
وتختلف أهمية الأيديولوجية بين الأحزاب، فهناك الأحزاب العقائدية؛ مثل الأحزاب الدينية والأحزاب الشيوعية التي تعتنق عقيدة شاملة بصورة راسخة في الحياة، وهناك الأحزاب التي لا يشكل فيها الجانب العقائدي إلا دوراً ثانوياً كأن يكون برنامجاً يسعى الحزب إلى تنفيذه.
وتعتبر الأيديولوجية العنصر الذي يربط الناس بالحزب أو يبعدهم عنه، فكل انتماء إلى جزب أو تأييد له بدون النظر إلى الأيديولوجية التي يقوم عليها أو الرؤية السياسية التي يستند إليها هو انتماء وتأييد ساذج.
وينبغي التمييز بين الانتماء الأيديولوجي للحزب الذي يمثل هويته وأحد أهم مكوناته وأحد أهم الأسس التي تقوم عليها التعددية الحزبية والتنوع، ويجب أن تكون واضحة وصريحة وفاعلة ولا يجوز تحييدها أو تعطيلها، وبين الطائفية والمذهبية التي تتجسد في برامج وأجندة الحزب الخاصة والتي تقوم على خدمة طائفة أو مذهب دون غيرهما من أبناء الوطن، فكل حزب بدون انتماء أيديولوجي هو حزب بلا هوية ولا أساس متميز لوجوده، ومن خلال انتمائه الأيديولوجي يقوم برسم رؤيته السياسية ويضع برامجه الحزبية التي تكشف عن قيمة أيديولوجيته وقيمة وجوده وانتمائه الأيديولوجي، وتبين هل أنه يعمل من أجل كل المواطنين أو أنه طائفي يعمل من أجل أبناء طائفة أو مذهب معينين على حساب أبناء المذاهب والطوائف الأخرى أو يتجاهلهم في أهدافه وبرامجه.
والخلاصة: إن الحكم على الحزب بالطائفية أو المذهبية لا يكون من خلال انتمائه الأيديولوجي الذي هو لازم له وحق من حقوقه، وإنما من خلال الجهة التي تخدمها أجندته وبرامجه السياسية والأهداف التي تسعى إلى تحقيقها.
العنصر الثالث: الوصول إلى السلطة
لا تتحقق الغاية من الأحزاب السياسية إلا بسعيها إلى الفوز في الانتخابات والوصول إلى السلطة والبقاء فيها من أجل تنفيذ السياسة التي تبشر بها وتحقيق برامج عملها، ويتم الوصول إلى السلطة بواسطة الطرق الدستورية في الأنظمة الديمقراطية وبواسطة الثورة أو الانقلاب في الأنظمة الدكتاتورية.
النقطة الثالثة – بنية الأحزاب
تنقسم الأحزاب بحسب بنيتها إلى أقسام عديدة أهمها:
النوع الأول: يقوم على تشكيل لجان قليلة الاتساع ومستقلة إلى حد ما عن بعضها، وغالباً ما تكون غير مرتبطة بالمركز، وهي لا تهتم بالانفتاح على الجماهير، ولا العمل على مضاعفة المنتسبين إليها بقدر ما تهتم بتجميع الشخصيات النوعية واستقطابها، ونشاطها موجه بالكامل نحو الانتخابات والترتيبات البرلمانية حيث يلعب الوجهاء النافذون بما لهم من اسم وهيبة وتأثير لكسب الأصوات، ويلعب الوجهاء التكنوقراط بما لديهم من علم وفن وخبرة لتنظيم الحملات الانتخابية، ويلعب الوجهاء من أصحاب الثروة دور التمويل.
والانتساب إلى هذا النوع من الأحزاب يرتكز غالباً على المنفعة أو العرف، ولا تلعب العقيدة أو الأيديولوجية فيها إلا دوراً ضئيلاً، وإدارة هذا النوع من الأحزاب تبقى بصورة رئيسية بيد النواب، وتعود السلطة فيها لإحدى المجموعات الملتفة حول زعيم برلماني، وحياة الحزب وحراكه يتوقفان على حجم ونوعية الصراع والتنافس بين المجموعات التي يتشكل منها، ويعتمد هذا النوع من الأحزاب في التمويل على الهبات والعطايا من التجار والمؤسسات المصرفية والصناعية وغيرها[1].
النوع الثاني: الأحزاب التي تعتمد على الإحاطة بالجماهير وتسعى لاستقطاب أكبر عدد ممكن منها؛ حيث تمثل الجماهير مادة الحزب وقوام عمله، ولهذا النوع من الأحزاب نظام دقيق للانتساب، ولها جهاز إداري مكون من عدد من الموظفين الذين يداومون في وظائفهم الإدارية في داخل الحزب لتلبية الاحتياجات الإدارية الواسعة فيه، ويحل في هذا النوع من الأحزاب الشعب أو فرق العمل الواسعة والمنفتحة على بعضها محل اللجان الصغيرة في النوع الأول، وتحتل فيها العقيدة والتثقيف السياسي مكانة مرموقة إلى جانب النشاط الانتخابي الصرف، ويتجاوز الحزب الإطار السياسي الصرف لكي يتدخل في الحقل الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والأحوال الشخصية، ويسود نظام الانتخاب – بصورة مبدئية – جميع المستويات في الحزب، ويخضع لنظام تشريعي معقد؛ حيث تتشكل اللجان والمجالس الاستشارية وأمانات السر، ورغم ذلك تظهر فيها بصورة عملية شخصنة القيادة وتسلطها؛ حيث إن القيادات المنحدرة من الجماهير أقوى سلطاناً وأكثر كرازمية – غالباً – من القيادات الارستقراطية، وربما يصل الأمر إلى أن تحل شخصية القائد البطل محل الفكرة والمنهج لدى جماهير هذا الحزب في حالة غياب الوعي والبصيرة لديها، وتنزع الخصومات التي تظهر بين الاتجاهات المختلفة في هذا النوع من الأحزاب إلى الصدام الشديد بينها، وربما تصل إلى حد الانفصال ما لم تنجح القيادات في خلق التوازن بينها.
وتعتمد هذه الأحزاب في التمويل على اشتراكات الأعضاء التي تأخذ صفة الإلزام بصور رئيسية[2].
النوع الثالث: يرتكز على مذهب كلياتي صارم؛ حيث يُطلب من العضو الالتزام الشامل بتوجهات وتوجيهات الحزب بدون فرق بين الحياة العامة والحياة الخاصة للأعضاء، ويدعي الوصاية التامة عليهم.
ويحتل التثقيف دوراً أساسياً ومكانة مرموقة في عملها، ويعتمد هذا النوع من الأحزاب على المركزية القوية ونظام العلاقات العمودية الذي يفرض انفصالاً دقيقاً بين عناصر القاعدة، ويهدف ذلك لتأمين حالة صارمة من الانضباط وحماية الحزب من الانقسام والمعارضات داخل الحزب، ولإيجاد حالة متميزة في الحزب تجمع بين إيمان الدين وانضباطية الجيش، ولا يهتم هذا النوع من الأحزاب كثيراً بالانتخابات بقدر ما يهتم بالدعايات وإثارة الاضطرابات بصورة مستمرة، وتلجأ هذه الأحزاب إلى تطبيق أساليب فظة وعنيفة؛ مثل الإضرابات والتخريب من أجل تحقيق أهدافها، وتسعى لتكييف نفسها مع ظروف العمل السري والعلني تبعاً للإجراءات التي تتخذها الدولة بحقها، بعض هذه الأحزاب يأخذ بنظام الخلايا (يرتكز تكوينها على أساس مهني)، وبعضها يأخذ بنظام المليشيا الخاصة، بعضها يؤمن بالجماهير، وبعضها يؤمن بالنخبة، ويتم اختيار القيادات فيها عن طريق التعيين بواسطة الأعضاء القدماء، ولا أثر فيها ولا عين للديمقراطية، وتأخذ بهذا النوع غالباً الأحزاب الشيوعية والاشتراكية والدينية.
النقطة الرابعة – النظم الحزبية
ترتبط بعدد الأحزاب ووسيلة وصولها إلى السلطة، وتنقسم إلى نظامين أساسيين:
النظام الأول: النظم التنافسية
فيها يسمح بحرية تكوين الأحزاب والتنافس بينها للوصول إلى السلطة، على أساس أن التعددية والتنافس والصراع بين الأحزاب تشكل عوامل ديمومة حركة الأمة أو الشعب وتطويرها.
وقد برزت في الدول حالتان أساسيتان لهذا النظام، وهما:
الحالة الأولى – نظام تعدد الأحزاب: حيث توجد في الدولة ثلاثة أحزاب أو أكثر تتنافس على الوصول للسلطة دون تفاوت كبير بينها في الاتساع والتأثير في الحياة السياسية، ويعود تعدد الأحزاب إلى التنوع القومي والديني والاجتماعي والثقافي والاختلاف بين أبناء الشعب حول الخطوط الرئيسية للسياسة العامة في الدولة، وتستجيب هذه الحالة لمبادئ الديمقراطية التقليدية التي تعطي الحق لكل جماعة بأن تدافع عن معتقداتها بالطرق القانونية، وتكسب الأنصار لدعوتها.
ويساعد عليها نظام التمثيل النسبي الذي يقوم على توزيع المقاعد حسب نسبة الأصوات مما يتيح للأحزاب الصغيرة فرصة الحصول على بعض المقاعد في البرلمان والمجالس المحلية، ويؤدي إلى تشكيل الحكومات الائتلافية في حال لم يحصل أي من الأحزاب المتنافسة على الأغلبية المطلقة داخل البرلمان، وظهور التكتلات بين الأحزاب ذات التوجهات المتقاربة.
الحالة الثانية – نظام الحزبين: حيث يوجد حزبان كبيران في الدولة يتنافسان على السلطة بحيث يستطيع كل منهما الوصول إليها دون مساندة حزب ثالث، ويتناوبان عليها لفترة زمنية طويلة، فيكون أحدهما في السلطة والآخر في المعارضة، ولا يعني نظام الحزبين عدم وجود أحزاب أخرى إلا أنها تبقى صغيرة ومحدودة التأثير، وقد يؤدي الحراك السياسي إلى انزواء أحد الحزبين وصعود حزب آخر بدلاً عنه، وفي نظام الحزبين يعتبر اختيار النواب اختياراً للحكومة أيضاً؛ لأن رئيس الحكومة هو بالضرورة زعيم الحزب الفائز بالأكثرية في الانتخابات، وهذا من شأنه أن يساعد على الاستقرار السياسي للحكومة.
وأرى بأن تنشيط الحركة السياسية والتعدد الحزبي ليس مطلوباً في ذاته أو من أجل المصالح المادية فحسب أو الطبقية أو الفئوية أو الطائفية، وإنما هو مطلوب بشرط أن يكون حركة واعية وملتزمة بمبادئ الأخلاق والقيم الإنسانية العادلة، وطريقاً إلى إحراز الحق والعدل وخدمة مصالح الإنسان الحيوية وصيانة كرامته وحقوقه المادية والمعنوية، وتحقيق الرفاهية والمجد والتقدم لكل المواطنين بدون تمييز بينهم، وأن لا يكون سبباً لتناحرهم و تباعدهم وحصول التفاوت بينهم والامتيازات لطبقة أو لفئة أو لطائفة أو لحزب على حساب طبقة أو فئة أو طائفة أو حزب آخر.
وأرى بأن الإسلام العظيم قد أعطى حرية الرأي المعارض في السياسة، ودعا كل التيارات إلى التعاون من أجل خدمة القضايا والأهداف المشتركة، وحافظ على التعددية الدينية في بلاد الإسلام، فقد عاش اليهود والنصارى وما زالوا يعيشون جنباً إلى جنب مع المسلمين في بلاد الإسلام، وأعطاهم الإسلام العظيم حق التعبير عن الرأي وإقامة الشعائر، ودعاهم إلى الالتقاء على القواسم المشتركة، وأمر المسلمين بالتعامل معهم على أساس القسط والعدل والأخلاق الحسنة، وأن يراعوا حقوقهم الإنسانية؛ لأن إلغاء الآخر – بحسب الرؤية الإسلامية – ليس من الكرامة الإنسانية التي دعا الإسلام العظيم إلى صيانتها والمحافظة عليها، ولأن الاستبداد وإلغاء الآخر – من الناحية الواقعية – ليس سبيلاً إلى حماية النفس وإنما للقضاء عليها، فقد سقط الاتحاد السوفييتي تحت تأثير إلغاء التعددية ولم يحمِ نفسه كما أراد من خلال إلغائها!!
قال الله تعالى: <قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ>[3].
النظام الثاني: النظم غير التنافسية
فيها لا يسمح إلا لحزب واحد بالعمل واحتكار العمل السياسي، وهو يمثل سياسة الدولة الرسمية، ويضم أنصار الحكومة، ويعتبر جزءاً من كيان الدولة، فتكون السلطة بيده وحده، ويتمتع وحده بجميع الامتيازات السياسية في الدولة، وقد جاءت الماركسية اللينينية بهذا النظام الاستبدادي التعيس، وعملت به الدول المتخلفة في العالم الثالث، وهو في طريقه إلى الزوال مع تقدم الشعوب وإصرارها على الحرية وحق تقرير المصير.
جاء في صحيفة البرافدا الناطقة باسم الحزب الشيوعي الحاكم في الاتحاد السوفييتي ما يلي: «يمكن تحت ديكتاتورية البروليتاريا أن توجد أحزاب ثلاثة أو حتى أربعة ولكن بشرط واحد فقط: أحدها في السلطة والآخرون في السجن، ومن لم يفهم هذا لم يفهم ذرة من جوهر ديكتاتورية الحزب البلشفي»[4].
النقطة الخامسة – وظائف الأحزاب
تقوم الأحزاب بالوظائف المهمة التالية:
الوظيفة الأولى – تنسيق الجهود: حيث تقوم الأحزاب يتجميع الجهود وتنسيقها وتوجيهها نحو أهداف محددة، فتقابل الفكرة بفكرة، والأسلوب بأسلوب آخر، من أجل الوصول إلى الحقيقة وخدمة المصالح العامة، مما يساهم في تشكيل الرأي العام وتحويله إلى أفعال سياسية، وهو من ضروريات الحياة الديمقراطية التي تقوم على أساس تعدد الأفكار وتعارضها وتداول الحكم بين القوى المختلفة.
الوظيفة الثانية – تنشيط الحياة السياسية: حيث تقوم الأحزاب من خلال تنافسها على السلطة بنشر أفكارها وتنشيط كوادرها وحث الأفراد على المشاركة السياسية من أجل البقاء في السلطة أو إزاحة الخصم من السلطة واستلامها بدلاً عنه.
الوظيفة الثالثة – بناء الكوادر: حيث تقوم الأحزاب بتشخيص أصحاب المواهب والقدرات الخاصة من بين أعضائها، وتتعهدهم بالتربية الفكرية، وتصقل مواهبهم وتدربهم على ممارسة العمل السياسي الناجح.
الوظيفة الرابعة – المساهمة في تحقيق الاستقرار: من خلال ضبط جماهيرها وتنظيم تطلعاتهم ومساهمتها في حل مشاكلهم، ويتوقف ذلك على مدى قوة الحزب وحسن إدارته وقدرته على معرفة جماهيره والتعبير عن آرائهم ورغباتهم وتطبعاتهم وما يمتلك من إمكانيات لحل مشاكلهم، ثم بنقل آرائهم ورغباتهم وتطلعاتهم ومشاكلهم إلى هيئات الدولة التشريعية والتنفيذية لمناقشتها واتخاذ القرارات المناسبة بشأنها.