مواضيع

مفهوم الدولة

للدولة مفاهيم عديدة في الفكر السياسي الحديث، وقد تطور مفهومها تاريخياً، وسوف أشير هنا إلى بعض أهم مفاهيمها الحديثة:

المفهوم الأول: الدولة هي الكيان السياسي والإطار التنظيمي الكلي والمرجع الأعلى المسلّم له بالنفوذ، الذي يشرف على كافة أمور المجتمع، والناظم لحياته الجماعية ووحدته، وموضع السيادة فيه، من خلال نظام قانوني شمولي[1].

وبحسب هذا المفهوم فإن الدولة تتمتع بالسيادة حيث تعلو إرادتها فوق جميع إرادات الأفراد والجماعات والهيئات الأخرى في المجتمع، بحيث تعترف لها (طوعاً وكرهاً) بالقيادة والفصل وبحقها في المحاكمة وإنزال العقوبات وبكل ما يضفي عليها الشرعية ويوجب الالتزام بقراراتها، وذلك من خلال الوسائل التالية:

  1. السيادة القانونية: تتمثل في امتلاكها الحق المطلق والمستقل في إصدار القوانين وتعديلها وتفسيرها وإنفاذها على الجميع ولو بالإكراه.
  2. السيادة السياسية: وتنقسم إلى قسمين:
  3. السيادة الداخلية: تتمثل في احتكار الدولة لحيازة وسائل الإكراه (قوة مسلحة قادرة على فرض الطاعة في حدود الإقليم) وحق استخدامها لضمان طاعة كافة المواطنين، وتطبيق كافة القوانين عليهم، مما يدعم سيادة القانون، ويؤدي إلى ضبط حركة المجتمع، وتأمين السلم والأمن والنظام، وتحقيق التقدم والرخاء في المجتمع.
  4. السيادة الخارجية: تتمثل في صيانة الاستقلال ورد العدوان الخارجي على الحدود، ورفض التدخلات الأجنبية في الشؤون الداخلية، وحصر الحق في إقامة العلاقات مع الدول الأخرى والهيئات الدولية.

وفي الحقيقة تعتبر السيادة الصفة الأساسية المميزة لمفهوم الدول أكثر من أية صفة أخرى.

المفهوم الثاني: هو مفهوم أكثر تحديداً من المفهوم السابق، ويقتصر فيه المعنى على مؤسسات الحكم المستقلة عن مؤسسات المجتمع المدني، والتي من خلالها تحدد وتنفذ السياسة والقانون العامين في المجتمع[2].

وعلى ضوء هذا المفهوم تنبغي الإشارة إلى بعض النقاط المهمة:

  1. مهام الدولة ومؤسساتها: للدولة مهام رئيسية تقوم بها في المجتمع، منها في المقام الأول: ضبط حركة المجتمع، وحفظ الأمن الداخلي والنظام وتأمين السلم الاجتماعي، وتحقيق العدالة والتقدم والرخاء ونشر الفضيلة بين المواطنين، ومنع العدوان الخارجي التوسعي ورفض التدخلات الأجنبية في الشؤون الداخلية وصيانة الاستقلال، وهذا يتطلب رسم سياسات عامة للدولة، وإصدار القوانين وتنفيذها، والفصل في الخصومات والمنازعات بين المواطنين والمقيمين على الإقليم، مما يفرض على الدولة إنشاء مؤسسات رسمية دائمة تستعين للقيام بهذه المهام، وتشمل الهيئات الرئيسية التالية:
  2. الهيئة التشريعية: هي – في الأنظمة الديمقراطية – هيئة منتخبة من الشعب يطلق عليها اسم البرلمان أو المجلس الوطني أو مجلس الأمة ونحو ذلك، وتقوم بمهمة وضع أو تعديل أحكام الدستور (بالشروط التي نص عليها) وإصدار القوانين وإقرار الميزانية والإشراف على فرض الضرائب والرقابة على السلطة التنفيذية ومنحها الثقة أو حجبها عنها ومنعها من الظلم والاستبداد، وذلك باعتبار أن الهيئة التشريعية أعلى سلطة في البلاد، ومصدر كل القوانين، والممثل الأعلى للسيادة الشعبية، ولهذا يشترط فيها أن تكون منتخبة من الشعب.

والسلطة التشريعية قد تقوم على نظام المجلس الواحد كما في لبنان أو نظام المجلسين كما في أمريكا وبريطانيا وفرنسا.

  • الهيئة التنفيذية: تعرف بالحكومة (بحسب بعض التعريفات) وتشمل الإدارة المدنية ومهمتها تطبيق ما ترسمه السلطة التشريعية من سياسات عامة، وتنفيذ ما يصدر عنها من قوانين، وتنظيم مالية الدولة والقضاء، وتنشيط الاقتصاد، وتقديم الخدمات للمواطنين مثل: التعليم والصحة والإسكان، وحماية الاستقلال، وتنظيم علاقات الجولة مع غيرها من الدول في العالم، وتمثيلها في المؤسسات الدولية.

كما تشمل التنفيذية القوات المسلحة بشقيها:

  • الجيش: مهمته صد أي عدوان خارجي على البلاد.
  • الشرطة: مهمتها وضع القوانين التي تسنها الهيئة التشريعية موضع التنفيذ في الداخل وتحقيق الأمن والاستقرار وتمنع أي إخلال بالأمن عن طريق القوة وتقمع أية ثورة أو تمرد داخلي عند الاقتضاء.

ويقع على رأس الهيئة التنفيذية رئيس الدولة (الملك أو رئيس الجمهورية)، وفي النظام البرلماني رئيس الدولة لا يحكم وهو غير مسؤول سياسياً والذي يحكم هو مجلس الوزراء فله الصدارة في السلطة التنفيذية ويكون مسؤولاً سياسياً أمام البرلمان، وتضم الهيئة التنفيذية جميع موظفي الدولة ما عدا القضاة.

  • الهيئة القضائية: مهمتها تفسير القوانين والفصل في الخصومات، وتضم القضاة وأعضاء النيابة العامة والمحامين، ويشترط فيها استقلال أعضائها ونزاهتهم لضمان تحقيق العدالة بواسطتهم، ولهذا ينبغي أن تتخذ عدة احتياطات في تعيين القضاة وتوفير بعض الامتيازات والحصانة لهم أثناء مزاولة مهامهم لكي لا يكونوا عرضة للاستغلال من أحد، ويشترط للانضمام في الهيئة القضائية الإلمام بالقانون والخبرة العملية.
  • الفصل بين السلطات: يعني عدم تركيز وظائف الدولة (التشريع والتنفيذ والقضاء) في يد واحدة وإنما توزيعها على سلطات متعددة مستقلة مع ضمن تعاونها مع بعضها والرقابة المتبادلة لتحقيق وظائف الدولة، وهو مبدأ سياسي تعمل به مختلف الدول بغض النظر عن اختلاف الأنظمة فيها، باعتبار دعامة أساسية في الدولة لمنع الاستبداد والطغيان والتعسف وإساءة استعمال السلطة، وضمان التوازن بين السلطات الثلاث، بحيث لا تطغى أحداها على السلطتين الأُخرتين، وأن تكون كل سلطة رقيبة على السلطتين الأُخرتين وتمنعها من الخروج على اختصاصاتهما، وصون الحقوق والحريات الفردية والجماعية للمواطنين، وتقسيم العمل في الدولة مما يساعد على تخفيف الأعباء وإتقان العمل، وتأمين الوسائل المؤسسية لوقف استعمال أو لمنع إساءة استعمال القوة في تبادل السلطة أو إدارة شؤونها، إلا أن الأنظمة تختلف في مدى الفصل بينها، فهي ليست على درجة واحدة في ذلك، فالولايات المتحدة الأمريكية تمتلك درجة عالية من هذا الفصل المنتظم وهو مدون في دستورها، بينما هذا الفصل أقل وضوحاً في المملكة المتحدة (بريطانيا) وسوف نتعرف في القسم الثاني من البحث على اختلاف الأنظمة في تطبيق هذا المبدأ والعمل به.

المفهوم الثالث: ينظر إلى مكونات الدولة وأركانها الرئيسية (الشعب والإقليم والسلطة) التي تلزم لقيامها من الناحية القانونية، وعليه تعرف الدولة بأنها: كيان سياسي ينتظم فيه مجموعة من الأفراد يستقرون على إقليم مستقل (أرض لها حدود جغرافية محددة) وتجمعهم مصالح مشتركة، ويخضعون في تنظيم شؤونهم إلى سلطة سياسية مركزية عليا تجب طاعتها[3].

أركان الدولة

بناء على المفهوم الثالث نقوم بتوضيح الأركان الثلاثة الرئيسية التي تتكون منها الدولة:

1.    الشعب:

لا يشترط فيه عدد معين ولكن يغلب على الدول الحديثة كثرة العدد بالمقارنة مع الدول القديمة، ويصل بعضها إلى مئات الملايين مثل: الصين والهند والولايات المتحدة، ولا يبلغ بعضها المليون مثل: الفاتكان وقطر والبحرين، ولا يشترط في الدول الحديثة الأصل المشترك لأبناء الشعب أو اللغة أو الدين أو التقاليد، وإنما يكفي أن تقوم بينهم الروابط المشتركة على أساس وحدة المصالح والأهداف والمصير، مما يؤدي إلى تحقيق الانسجام والتضامن بينهم، كما هو الحال في الكثير من الدول الحديثة مثل: الولايات المتحدة وكندا واستراليا وروسيا وسويسرا وإيران والعراق التي تنتمي شعوبها إلى قوميات وأديان مختلفة.

وهنا تجدر الإشارة إلى بعض الملاحظات المهمة:

الملاحظة الأولى – الفرق بين مفهومي الشعب والأمة: على ضوء ما سبق ينبغي التمييز بين مفهومي الشعب والأمة:

مفهوم الشعب: مجموعة من الناس يسكنون ضمن حدود جغرافية محددة (أي: يجمعهم وطن واحد) وتشملهم قوانين عامة ومؤسسات سياسية محددة، ومصالح أهداف مشتركة تتوصل إلى تحقيقها من خلال سلطة وقيادة موحدة.

مفهوم الأمة: مجموعة من الناس يجمعها الإيمان بقيم مشتركة متمثلة في قيادة موحدة ونظام خاص في الحياة، وآمال وآلام وتراث ثقافي ومعنوي وتكوين نفسي ومصير مشترك، ولا يشترط فيها الوحدة الزمانية والمكانية ولا أية وحدة مادية أخرى، فهي ظاهرة معنوية أكثر من كونها ظاهرة مادية، مثل الأمة الإسلامية التي تتكون من المجموعات البشرية التي تؤمن بالإسلام كمنهج حياة على مر التاريخ وتؤمن بالقيادة الدينية الشرعية.

قال الله تبارك وتعالى: <وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً ۚ كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ>[4].

وبناءً على هذا التعريف لا يمكن تصور الأمة الإسلامية بدون القيادة الموحدة لها، سواء أكان ذلك في عصر المعصوم أو الغيبة، ويطلق عليه في الاصطلاح الإسلامي اسم (الإمام) ويشترط فيه أن يكون متبعاً من أبناء الأمة باعتباره ممثلاً للإسلام، وقدوة حسنة لهم في أعماله وأقواله، وأن تصبح واجبات الأمة هي واجباته بدون زيادة أو نقصان.

الملاحظة الثانية – تأثير الجنس البشري: على الرغم من اختلاف المجتمعات البشرية في درجة الحضارة والتمدن والرقي، إلا أن الناس متشابهون قطعاً في طبيعتهم البشرية، وأن التطور والرقي في المجتمعات البشرية، لا علاقة له باختلاف الأعراق، وكانت حياتهم في البداية متماثلة، ثم اختلف تدريجياً حتى تباينت على مدى قرون تبايناً كبيراً لعوامل كثيرة ليس منه اختلاف الأعراق، على خلاف ما روج له فلاسفة الاستعمار الغربي لتبرير استعمارهم للدول الضعيفة والسيطرة على ثرواتها ومقدراتها، على أساس تطور العرق الآري للأمم الغربية على العرق السامي للأمم الشرقية، مما يمنح الأمم الغربية حق السيطرة على الأمم الشرقية واستعمال القوة والمجازر ضدها.

الملاحظة الثالثة – القيم الاجتماعية: لكل مجتمع أسلوب معين في الحياة يقوم على أساس مجموعة من المعتقدات والقيم التي تراكمت على مدى قرون من الزمن حتى أصبحت تراثاً يبجله الجميع ويلتزمون به، ويمنعون الإساءة إليه، ويسعون للمحافظة عليه، ونقله للأجيال المتعاقبة، وهذه ميزة لكافة المجتمعات الإنسانية عن غيرها من جماعات الحيوانات التي عاشت جنباً إلى جنب مع الإنسان أو بعيداً عنه في الصحاري والغابات، فالإنسان يتميز عن الحيوان بإدراك القيم والخضوع إليها، وتعتبر القيم المعيار الأساسي لقياس سلوك الإنسان والحكم عليه بالثواب والعقاب، وعلى الرغم من وجود قيم خاصة بكل مجتمع من المجتمعات البشرية، إلا أنها تشترك من حيث المبدأ في قيم عامة مثل: الصدق والأمانة والوفاء والتسامح والشجاعة والكرم والعدالة والحرية، وقد أثبت الاستقراء التاريخي للمجتمعات البشرية أن القيم الإنسانية العليا والجزئية النسبية تلعب دوراً رئيسياً في توجية حياة الإنسان وتطوير المجتمعات وتبايناتها والتحكم في مسيرة التاريخ، وتعتبر القيم الإسلامية العظيمة أرقى القيم وأفضلها وأكثرها تأثيراً في حياة الإنسان.

الملاحظة الرابعة – القدرة على التغيير: ترتبط القيم بالمجتمع وتعبر عن آماله وطموحاته، وتقدم له وقوداً يغذي مسيرته التاريخية ويتغلب به على الصعوبات التي تقف في طريقه، ويهيئ له الأرضية لظهور زعامات وقيادات تاريخية تقود مسيرته نحو الأفضل، وعندما تتهيأ الأرضية لاحتضان قيم معينة في المجتمع، فإن أساليب الإرهاب والعنف التي تتبعها الحكومات المستبدة والجماعات المضادة للقضاء عليها تكون غير مجدية.

2.          الإقليم:

هو شرط من شروط الدولة، فلا يمكن اعتبار القبيلة دولة، وذلك لعدم استقرارها في إقليم معين، ويشمل الإقليم: سطح الأرض داخل حدودها وما عليها من جبال وهضاب وأنهار وبحيرات وما تحتها من طبقات الأرض (الأعماق) وجزءاً من البحار العامة الملاصقة للإقليم (ويسمى البحر الإقليمي أو المياه الإقليمية) وما يعلو الأرض والبحر من الطبقات الجوية دون التقيّد بارتفاع معين، ويعتبر إقليم الدولة المصدر الأساسي لثرواته، وفي حدوده تمارس جميع سلطاتها: التشريعية والتنفيذية والقضائية، وبتعيين حدود الإقليم لكل دولة بشكل قانوني، واعتراف سائر الدول، يزول أحد الأسباب الرئيسية للنزاعات بينها.

ويلعب الإقليم دوراً كبيراً في نشاطات المجتمع وحضارته، فمصر هبة النيل، وغالبية الحضارات نشأت على ضفاف الأنهار، وهناك مناطق غير قابلة للتطوير إلا اذا استخدم فيها العلم الحديث والتكنولوجيا المتطورة لتغيير معالمها مثل: الصحاري والمناطق الجبلية الوعرة والثلجية، ففي القطبين الشمالي والجنوبي لم تطرأ على حياة البشر هناك إلا تغييرات يسيرة منذ قرون، كما يلعب الإقليم دوراً كبيراً في بعض التشريعات والنظم الإدارية، فالمناطق السحالية تساعد على ظهور القوانين البحرين، وظهرت في اليابان نظم إدارية متأثرة بهامل الهزات والزلازل الأرضية التي يتكرر حدوثها هناك.

3.          السلطة:

هي الهيئة العليا المنظمة وحجر الأساس في الدولة، التي تتولى الإشراف وتسيير جميع شؤونها الداخلية والخارجية، ولها القدرة على فرض سيطرتها الفعالة على أراضيها، وإصدار أوامر واجبة التنفيذ ولو باستخدام القوة والإكراه عند الاقتضاء، وهي بذلك تختلف عن السلطة التي تتولى القيادة في سائر التكوينات الاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها التي يخضع لها الأتباع بملأ إرادتهم، مع التنبيه إلى أن التنازع على السلطة أو غيابها المؤقت بسبب الحروب أو الثورات لا يفقد الدولة وجودها.


  • [1] موسوعة السياسة، عبدالوهاب الكيالي، جزء 2، صفحة 702، مادة: الدولة
  • [2] المعجم الحديث للتحليل السياسي، ترجمة: سمير عبدالرحيم الجلبي، صفحة 430
  • [3] القانون الدستوري والنظم السياسية، محمد المشهداني، صفحة 9
  • [4] الجاثية: 28
المصدر
كتاب الدولة والحكومة | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى