مواضيع

خصائص الدولة

تتميز الدولة بخاصيتين أساسيتين:

الخاصية الأولى: الشخصية القانونية

تعتبر الدولة من الناحية القانونية: شخصية قانونية موحدة، وكياناً جماعياً دائماً، يتمتع بسلطة الأمر والنهي على نحو فريد في المجتمع، يضم هيئة من الأشخاص الطبيعيين (الحكومة) يديرون السلطة العليا فيها وكالة عن أبناء الشعب، وتسمى الشخصية المعنوية أو الاعتبارية تمييزاً لها عن الشخصية القانونية الطبيعية للأفراد الآدميين، وثبوت الشخصية القانونية للدولة هو الأمر الذي يجعلها أهلاً لاكتساب الحقوق والتحمل للالتزامات بموجب القانون الدولي (اتفاقية مونتيفيديو 1933م) وبدون الشخصية القانونية يتعذر عليها أن تمارس وظائفها وتباشر مهامها.

المقومات القانونية للدولة

لكي تكتسب الدولة صفتها القانونية، يجب أن تتوفر فيها مجموعة من المقومات الأساسية، باكتمالها تكتمل الصفة القانونية للدولة، وبانتقاصها تنتقص الصفة القانونية لها، والمقومات هي:

1.          وجود دستور سليم

يعتبر الدستور القانون الأساسي الأول في الدولة، ولا يجوز لأي قانون آخر أن تتعارض أحكامه مع أحكامه، ويتضمن الدستور المبادئ الرئيسية والقواعد الأساسية المنظمة للحياة السياسية التي تخضع لها جميع هيئات الدولة، فهو يقرر نظام الحكم وشكل الدولة ومدى سلطتها إزاء الأفراد والجماعات، ويبيّن كيف يتم اختيار الحاكم ويبيّن سلطاته ويرسم حدود هذه السلطات بدقة ويبيّن كل الأمور الأساسية المتعلقة به، وينشأ السلطات ويحدد هيئاتها واختصاصات كل واحدة منها وحدود الاختصاص وما لها من امتيازات وما عليها من واجبات، ويبيّن كيفية انبثاق السلطات وحركية تغيّرها وكيف تمارس الاختصاص وطرق توزيع السلطة وتنظم العلاقات بينها، ويبين الحريات العامة وحقوق المواطنين وواجباتهم والاتجاهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يقوم عليها النظام ويتعين على كافة السلطات مراعاتها والالتزام بها.

والخلاصة: إن الدستور يسمو فوق القائمين على السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، ويمنعهم من تعديد حدود صلاحياتهم واختصاصاتهم، فهو الضمانة الأولى لقيام الدولة القانونية، ويفترض أن تقوم الهيئة القضائية بحمايته من أي عبث من قبل الهيئات الأخرى.

ونظراً لأهمية الدستور وخطورته في استقرار الدولة، أشير إلى بعض النقاط المهمة التي تتعلق به:

النقطة الأولى – نشأة الدساتير: تنشأ الدساتير بأساليب مختلفة بعضها ديمقراطي وبعضها غير ديمقراطي:

أولاً – الأساليب غير الديمقراطية: كأن يصدر الدستور بإرادة منفردة كمنحة من الحاكم أو في صورة عقد بين الحاكم والشعب لإنهاء نزاع نشب بينهما؛ لأن الحالة الأولى تجعل الحاكم في موقع السيادة الحقيقية وتجعل إرادته فوق إرادة الشعب، أما الحالة الثانية فتجعل الحاكم شريكاً للشعب في السيادة، وتجعل إرادته على قدم المساواة مع إرادة الشعب، ومع ذلك يعتبر الأسلوب الثاني أكثر ديمقراطية من أسلوب المنحة؛ لأن الأسلوب الثاني يجعل من الشعب طرفاً في العقد ويمنع من إلغاء الدستور أو تعديله من طرف الحاكم بصورة منفردة.

ثانياً – الأساليب الديمقراطية: كأن يصدر الدستور بواسطة هيئة تأسيسية منتخبة بالكامل من قبل الشعب ويصبح نافذاً بمجرد إقراره من قبلها، أو عن طريق الاستفتاء الشعبي بأن تضعه لجنة فنية أو هيئة تأسيسية ثم يعرض على الشعب للاستفتاء، ولا يصبح نافذاً إلا بعد موافقة الشعب عليه، وكلا الطريقين ديمقراطي لأنهما يقران للشعب وحده بالسيادة وأنه مصدر جميع السلطات وصاحب الحق الوحيد في وضع الدستور، وتعتبر الطريقة الثانية أكثر ديمقراطية لأنها تطبق مبدأ سيادة الشعب بصورة كاملة.

والخلاصة: إن طبيعة القانون طبيعة عامة غير شخصية، والفرد العادي محدود الفكر وتسيّره دوافع شخصية ويميل إلى الاستبداد والاستئثار، فلا بد أن تصدر الدساتير والقوانين في الدولة عن طرف غير شخصي، الله في الدولة الإسلامية أو جهة منتخبة تعبر عن الإرادة العامة للمواطنين وتخضع فيها المصالح الخاصة إلى المصالح العامة، وإلا فقدت الدولة الشرعية والاستقرار.

النقطة الثانية – تعديل الدساتير: الدستور تعبير عن إرادة الشعب في فترة زمنية يعيش فيها أوضاعاً وظروفاً محددة، وهو استجابة لحاجاته في تلك الأوضاع والظروف، وعندما تتغير تلك الأوضاع والظروف الجديدة، والدساتير التي لا تسمح بإجراء التعديل عليها، تحكم على نفسها بالسقوط من خلال الانقلاب أو الثورة، وتعديل الدستور حق ثابت للشعب لأنه صاحب السيادة ومصدر جميع السلطات، وأنه لا قيمة قانونية ولا أساس عقلياً صحيحاً لحظر تعديل بعض مواد الدستور ما دام الشعب مصدر جميع السلطات، بشرط أن يتم التعديل وفق الآلية المنصوص عليها في الدستور لتعديل المواد الدستورية، والقاعدة في تعديل الدستور أنه يأتي بالطريقة التي اتبعت لإصداره؛ فإن كان دستور منحة يحق للحاكم الانفراد بحق تعديله وبعض دساتير المنحة لا تعطيه هذا الحق، وإن كان عقداً وجب إجراء عقد مماثل لتعديله، وإن كان صادراً عن هيئة تأسيسية أو استفتاء وجب تعديله بالطريقة ذاتها.

النقطة الثالثة – إلغاء الدساتير: وذلك في حالة عجز الدستور كلياً عن مواكبة التطورات وبروز الحاجة لدستور جديد، وهو حق للشعب وحده باعتبار صاحب السيادة ومصدر جميع السلطات، وعندما يقرر ذلك يتم التغيير عن طريق جمعية تأسيسية تنتخب لهذا الغرض أو عن طريق الاستفتاء، وقد يكون التغيير عن طريق الثورة أو الانقلاب وهو بطبيعة الحال أسلوب غير قانوني.

2.          تدرج القواعد القانونية

يتكون النظام القانوني من مكونات (قواعد) تتفاوت في درجتها وقوتها وقيمتها القانونية، نستطيع أن ندرجها في أربعة مستويات أساسية تخضع فيها القواعد الأدنى للقواعد الأعلى بحيث تصدر متوافقة معها ولا تخالفها في الشكل والمضمون، والمستويات هي:

المستوى الأول: القواعد الدستورية التي تمثل مستوى القمة في النظام القانوني.

المستوى الثاني: التشريعات العادية التي تصدرها السلطة التشريعية (البرلمان).

المستوى الثالث: اللوائح الصادرة عن السلطة التنفيذية.

المستوى الرابع: القرارات الإدارية التي تصدر عن المسؤولين الإداريين في الهيئات الحكومية.

ويعتبر هذا التدرج من المقومات الأساسية لدولة القانون، بحيث تكون كل القوانين والتصرفات موافقة مع أحكام الدستور، ولا تستطيع أية جهة إدارية في الدولة إصدار أي قرار إداري (فردي) إلا تطبيقاً لقاعدة قانونية موضوعة سلفاً، ولا تستطيع اتخاذ إجراءات مادية تنفيذية مباشرة لتطبيق قاعدة قانونية عامة على الحالات الفردية بدون إصدار قرار إداري فردي مسبق.

والخلاصة: إن الدستور يقيد السلطة التشريعية عند سنها للقوانين بحيث لا تخالف أي نص دستوري، ويقيد الدستور والقانون السلطة التنفيذية فيما تتخذه من لوائح وقرارات، كما يقيّدان السلطة القضائية فيما تصدره من أحكام في الخصومات بجميع أشكالها.

3.          سيادة القانون

القانون هو مجموعة القواعد التي تنظم الحياة في الدولة بكافة جوانبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، بهدف ضمان الحقوق والحريات على أساس العدل وضمان الاستقرار والتقدم والازدهار في الدولة، وذلك نظراً لتعارض المصالح وتداخل الحقوق بين الأفراد والجماعات والحاجة إلى تنظيمها وضبطها، ولا يتم ذلك إلا على قاعد المسؤولية المدنية والجنائية بحيث تلزم الدولة استناداً إلى القانون كل من يخرج على أنظمتها بالعقوبات الجنائية المنصوص عليها في القانون وتعويض المتضرر عما تلحقه من خسائر وما فاته من مكاسب.

الجدير بالذكر ونحن بصدد الحديث عن القوانين ودورها في تنظيم الحياة العامة في الدولة ينبغي التنبيه إلى نقطة في غاية الأهمية، وهي: إن الحق فوق القانون، فلا بد لكل قانون أن يقوم على الحق ويهدف إلى تحقيقه ولا يجوز له انتهاكه وإلا فَقَدَ شرعيته وإلزاميته، وتعتبر هذه القاعدة أساساً لصيانة الحقوق والحريات الفردية والجماعية للمواطنين، وبدونها قد تنتهك السلطات في بعض الأوضاع غير الصحيحة للدولة حقوق المواطنين وحرياتهم باسم القانون ظلماً وعدواناً، ويكون المواطنون مع ذلك ملزمون بالخضوع، وهذا أمر لا يقره عقل ولا دين صحيح.

4.          الحكومة القانونية

حيث تعتبر الدولة وحدة قانونية مستقلة عن أشخاص الحكام الذين يتولون السلطة فيها ويخضعون في جميع تصرفاتهم لأحكام القانون، ولا يصدر عنهم أي تصرف في شؤون الدولة إلا بمقتضى أحكام الدستور والقانون، ويخضع القائمون على السلطة التنفيذية إلى رقابة السلطة التشريعية، بحيث تكون الوظيفة الإدارية تابعة للوظيفة التشريعية، وتكون السلطات مسؤولة مسؤولية مباشرة عن صيانة حريات المواطنين وحقوقهم والتدخل الإيجابي لكفالتها وضمان ممارستها وعدم السماح بانتهاكها أو التعدي عليها، أما إذا تعدى القائمون على السلطة صلاحياتهم، وتصرفوا في شؤون الدولة وثرواتها وعائداتها كإرث شخصي، وانتهكوا أياً من حقوق المواطنين بكافة أشكالها ومستوياتها ولجأوا إلى الحد من حرياتهم العامة والخاصة ووضع القيود عليها من دون مبررات عقلائية صحيحة، فإن الدولة تحيد عن الديمقراطية وتفقد شرعيتها وتتحول إلى دولة بوليسية على غرار الدول في النظم السياسية القديمة التي يتمتع فيها الحاكم بسلطة مطلقة لا تخضع لقيود أو حدود معينة، ويحق للمواطنين في هذه الحالة – بل من واجبهم الإنساني – إسقاطها والقضاء عليها.

يقول مونتسكيو: «إن أعضاء مجلسي الشيوخ في الجمهورية، وكذلك الملك والموظفين في المملكة، ليسوا سوى آلات في الجهاز الشرعي الناظم لمجموع المواطنين، ولا يجوز أن يتجلى نشاطهم إلا وفق الأشكال التي يحددها القانون، فإذا خالفوا القانون وجب عليهم أن يتخلوا، وإلا فإن الشعب هو الذي سيقاد إلى الدمار .. فيجب أن لا تكون هناك سلطة فوق القانون حتى الملك، ولا يجوز للملك أن يحكم إلا باسم القانون وليس إلا ن ينفذ القوانين»[1].

ومن الناحية التاريخية: يعتبر الإسلام العظيم أول من أقام دولة قانونية في تاريخ البشرية يخضع فيها الحاكم للقانون (شأنه شأن المحكومين) ويمارس سلطاته وفقاً لقواعد قانونية لا يستطيع الخروج عليها، ويعطي للمواطنين حقوقاً وحريات عامة نظمتها الشريعة المقدسة بدقة ووضوح، وأحاطتها بضمانات تكفل حمايتها من اعتداء الحكام والمحكومين على حد سواء، إلا أن هذا لم يدم طويلاً، فقد عصفت به حكومة بني أمية التي أقامت نظام حكم استبدادي تلاشت فيه القيود التي فرضها الإسلام العظيم على سلطات الحاكم، وأهدرت فيه كل الحقوق والحريات العامة للمواطنين.

قال الإمام الحسين (ع): «وقد علمتم أن هؤلاء القوم (القائمين على دولة يزيد) قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله وحرموا خلاله»[2].

وقال زهير بن القين في مخاطبة جيش يزيد في يوم كربلاء: «إن الله ابتلانا وإياكم بذرية نبيه محمد (ص) لينظر ما نحن وأنتم عاملون، إنا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية يزيد وعبيدالله بن زياد فإنكم لا تدركون منهما إلا سوء عمر سلطانهما، يسملان أعينكم، ويقطعان أيدكم وأرجلكم، ويمثلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم وقراءكم أمثال: حجر بن عدي وأصحابه، وهاني بن عروة وأشباهه»[3].

وقد سارت حكومة بني العباس ومن جاء بعدهم على نفس المنوال، حتى جاء عصر النهضة، فأعيد طرح ما جاء به الإسلام العظيم، وتم التوسع فيه في القرن السابع عشر الميلادي حتى لاقى رواجاً واسعاً في أوساط الفلاسفة وفقهاء القانون والشعوب على حد سواء، وظهرت ثورات كبيرة في انجلترا وأمريكا وفرنسا وإيران استطاعت من خلالها الشعوب انتزاع السلطة من الحكومات المستبدة، وأقامت أنظمة حكم السيادة فيها للشعب، واعترفت بحقوق الأفراد وحرياتهم، واعتبرتها حقوقاً مقدسة يجب على الدولة أن تكفلها للمواطنين، وبهذا تصبح الدولة بحق دولة قانون.

ويترتب على الفصل بين السلطة والقائمين عليها وخضوع الحاكم وهيئات الدولة للقانون النتائج المهمة التالية:

النتيجة الأولى: الحد من انتشار الفساد والظلم في الدولة، ومن الصراع بين المتنافسين للاستحواذ على السلطة بشتى الوسائل والأساليب المشروعة وغير المشروعة، مما يقوض الأمن والاستقرار فيها.

النتيجة الثانية: إن الدولة تهدف إلى تحقيق المصالح العامة لجميع أفراد الشعب بدون تمييز بينهم، وليس تحقيق المصالح الشخصية للحكام.

النتيجة الثالثة: يجب أن تخضع الدولة وجميع الأشخاص القائمين على السلطة للقانون في جميع ما يقومون به من أعمال.

النتيجة الرابعة: أن لا يؤثر تغيير أشخاص الحكام القائمين على السلطة أو شكل الدولة أو نظام الحكم فيها، على الحقوق التي تكتسبها الدولة والالتزامات التي تتحملها، مما يعني: بقاء المعاهدات والاتفاقيات التي تبرمها الدولة حتى نهاية المدة المحددة لها، واستمرار نفاذ القوانين الشرعية التي أصدرتها حتى تلغى صراحة أو ضمناً طبقاً للأوضاع الدولة الدستورية.

5.          توزيع السلطات

لقد درجت الدول الحديثة القائمة على الشرعية على توزيع السلطات على ثلاث هيئات (التشريعية والتنفيذية والقضائية) ليكون لكل هيئة اختصاص محدد لا يحق لها أن تتجاوزه، وتكون رقيبة على الهيئتين الأُخرتين، وذلك في سبيل صيانة الحقوق والحريات التي قامت الدولة من أجلها، ومنع التعدي والاستبداد، وضمان احترام القوانين وحسن تطبيقها، وهذا مقوم من المقومات الأساسية لدولة القانون، فإذا اجتمعت وظيفتا التشريع والتنفيذ في هيئة واحدة، فإن هذا يؤدي حتماً إلى عدم حيادية القوانين، ومن شأنه أن يضر بالحقوق والحريات الشعبية في الدولة ويمحو عنها صفة دولة القانون.

6.          تنظيم رقابة برلمانية وقضائية على الهيئات العامة للدولة

هذا من أهم وأقوى مقومات دولة القانون، لأنه يخضع القائمين على الحكم إلى القانون والمحاسبة القانونية لكافة تصرفاتهم، وإلغاء أو تعديل كل إجراء صادر عنهم وفيه مخالفة للقانون شأنهم في ذلك شأن المحكومين، ويعتبر خضوع الحكام إلى القانون هو الضمانة الأكيدة الحقيقية لحماية حقوق المواطنين وحرياتهم ومنع الحكام من الظلم والتعسف، وأن تطبيق القانون على المواطنين وإعفاء الحكام منه يجعل العلاقة بين الطرفين هي علاقة سادة بعبيد وليست علاقة كرامة كما هي العلاقة الصحيحة في دولة القانون، كما تشمل الرقابة القضائية أعمال السلطة التشريعية، بحيث يمنع صدور أي قانون عنها مخالف للنصوص الدستورية، كما تشمل الرقابة القضائية السلطة القضائية نفسها، عن طريق تنظيم المحاكم بصورة متدرجة، بحيث يستطيع المتقاضي استئناف الحكم أو تمييزه أمام محكمة أعلى، مما يضمن حقوق الأفراد والجماعات، وقد أصبح هذا كله من سمات دولة القانون الحديثة.

7.          حاكمية الرأي العام

اقصد به بصورة أساسية اعتماد رأي الأغلبية الذي يتم تشكيله في ظل الحرية على أساس الاقناع وليس على القمع والقوة؛ لأنه الوسيلة السلمية الوحيدة التي تضمن تحقيق المصالح العامة للمواطنين بدلاً من الاقتصار على مصالح الأقلية والصفوة من الحكام وحاشيتهم، ويضمن حق المحكومين في اختيار نظام الحكم والحكام ومراقبة الحكام ومحاسبتهم وعزلهم في حالة مخالفتهم للدستور والقانون وتقصيرهم في أداء واجباتهم، وهذا المقوم يعتبر من أهم ضمانات تطبيق دولة القانون؛ لأنه القوة التي تخشاها الحكومات وتجبر الحكام على احترام القانون والنزول عليه، ومنعهم من التلاعب بعناصر الدولة القانونية والانقضاض عليها، ولهذا نجد الأنظمة الديكتاتورية المستبدة تحاول دائماً السيطرة على الرأي العام من خلال السيطرة على وسائل الإعلام واحتكارها، وتقوية أجهزة الاستخبارات وتوزيع العملاء بين صفوف الشعب من أجل إحكام السيطرة والقضاء على كل من يحاول التعرض للنظام بالنقد أو التجريح والحيلولة دون تشكل رأي عام معارض أو مضاد لها.

8.          التعددية الحزبية

تلعب الأحزاب السياسية دوراً أساسياً لضمان دولة المؤسسات والقانون لما تقوم به من نشاط تنافسي على السلطة ومراقبة أعمالها ومحاسبتها محاسبة دستورية، وبلورة الرأي العام والمواقف الجماهيرية وترجمة الفكر والتوجهات السياسية إلى سلوك ملموس على الأرض من خلال النطالبات والبرامج السياسية، ولهذا نجد الطبقات الاجتماعية والقوى الاقتصادية ترتبط بأحزاب سياسية في الأنظمة الديمقراطية من أجل الضغط على الحكومات بهدف خدمة مصالحها، كما تقوم الأجزاب السياسية بدور ملموس في إنعاش الحرية وفرض إرادة الجماهير وتحقيق ما تصبو إليه من صيانة الحقوق والحريات الفردية والجماعية وتطبيق الديمقراطية والأنظمة التي تطمح إليها، وهذا يتطلب أن تتصف الأحزاب نفسها بالديمقراطية، وتتخلص من إصدار الأوامر الفوقية العليا للقواعد ومن القبضة الحديدية للقيادات، وأن تفسح المجال للقواعد بالمشاركة الحقيقية الفعلية في صناعة القرار.

9.          حاكمية العرف

أقصد بالعرف: مجموعة القواعد التي تنشأ من عمل الناس بها والاستمرار على إتباعها عصراً بعد عصر، ولهذا اعتبرت أول مصدر من مصادر القانون ولا يجوز للسلطات مصادرتها، ويعتبر الالتزام بها ضمانة أساسية للحفاظ على الحقوق المكتسبة والحريات الفردية والجماعية، فلا يجوز مثلاً صدور قوانين في أي بلد من البلدان تحد من الشعائر الدينية التي درج المواطنون على إقامتها لقرون عديدة من الزمن.

الخاصية الثانية – السيادة:

هي مفهوم قانوني يشير إلى السلطة العليا النهائية في المجتمع التي لا تعلوها سلطة فيه، وتعتبر الصفة الأساسية المميزة للدولة والملازمة لها، التي تميزها عن كل ما عداها من التنظيمات والهيئات في المجتمع السياسي المنظم، ووتجعل منها صاحبة السلطة العليا التي تفرض إرادتها على كافة الأفراد والجماعات والهيئات والمنظمات في الإقليم، فإذا حدث صراع بين الأفراد أو الجماعات أو الهيئات أو المنظمات داخل الإقليم، فإن الدولة تتدخل من خلال هيئاتها الرسمية لإنهاء الصراع، فالسيدة هي مجموعة الاختصاصات التي تنفرد بها الدولة وتجعل منها وحدة واحدة غير قابلة للتجزئة مهما تعدد الحكام فيها، ولكل دولة هيئة أو جهاز ذو سيادة لديه القوة لتي تمنحه حق ترجمة إرادة الدولة إلى صيغ قانونية نافذة المفعول، ويعتبر القانون المجسد للسيادة والدليل عليها، ويترتب على ما سبق النتائج التالية:

النتيجة الأولى: إن تعدد الحكام في الدولة يعني تقاسم الاختصاص وليس تقاسم السلطة؛ لأن الحكام لا يملكون حقاً في السلطة وإنما هم أدوات لممارستها.

النتيحة الثانية: ديمومة مفعول السيادة طالما بقيت الدولة قائمة، بصرف النظر عن تغير شكل المؤسسات الدستورية وتغير الأشخاص الذين يمارسون السلطة.

وجوه السيادة

للسيادة وجهان أساسيان:

  1. السيادة الداخلية: تعني أن سلطة الدولة في داخل إقليمها سلطة عليا حصرية لإصدار القوانين والتشريعات والمخوّلة بمهمة حفظ النظام والأمن واحتكار استخدام القوم لتطبيق القانون، فإرادة الدولة تسمو فوق إرادة جميع الأفراد والجماعات والهيئات والمنظمات، وتهيمن عليها، وتفرض إرادتها على إرادتهم، وذلك عن طريق سيطرتها الاحتكارية على القوة الشرعية الأشد بأساً من أية قوة قد يمتلكها الأفراد أو الجماعات أو الهيئات أو المنظمات داخل الدولة، وهذا لا يعني عدم وجود نقص في الطاعة أحياناً.
  2. السيادة الخارجية: تعني المساواة بين جميع الدول ذات السيادة، وعدم خضوع الدولة أو تبعيتها لغيرها من الدول، وتمتعها بالاستقلال الكامل في السياسة الخارجية، وأن تمتنع عن أي عمل يمس سيادة دولة أخرى، وأن تكون لاعباً دولياً معترفاً به من الدول الأخرى، وتحظى بالمعاملة بالمثل بموجب القانون الدولي، وفي قدرتها استقبال البعثات الدبلوماسية وعقد المعاهدات والاتفاقيات وإعلان الحرب والسلم مع الدول الأخرى، وأن تفي بالتزاماتها معها.

وهنا تنبغي الإشارة إلى بعض الملاحظات المهمة:

الملاحظة الأولى: تمارس الدولة سيادتها إما من خلال القوة أو التوافق، ويتوقف ذلك على بناء الدولة ومدى النضج السياسي لدى الشعب، ففي الدول الاستبدادية تلجأ الطبقة الحاكمة عن طريق الشعب، حيث يخضع الشعب طواعية للقانون، لأنه يعبّر عن إرادتهم، ويخدم مصالحهم، وليس إرادة مصالح الطبقة الحاكمة.

الملاحظة الثانية: تعتبر السيادة شرطاً للاستقلال السياسي للدولة وعضويتها في الأشرة الدولية، وذلك عندما تعترف بها الدول الأخرى بوصفها المصدر الوحيد للممارسة الشرعية للسيادة داخل أراضيها، إلا أنه لا توجد اليوم دول لا تعتمد (بأي شكلٍ من الأشكال) على دول أخرى، وتوجد دول تعتمد على المساعدات الاقتصادية الخارجية أو الحماية العسكرية من دول أخرى، وأن سيادة الدولة تقيد بقيود القانون الدولي والمعاهدات والمؤتمرات الدولية، ويصعب رسم الحدود بين سيادة الدولة والسيادة الدولية مما يوجد بعض التداخل بينهما، وقد لا تراعى سياسة الدولة بشكل جيد من قبل المجتمع الدولي.

الملاحظة الثالثة: إن الانفتاح الثقافي والحضاري في عصر التقدم التكنولوجي والثورة في وسائل الاتصال والمواصلات، يجعل تصرفات الدولة إزاء مواطنيها موضع تأثر كبير بالمفاهيم والقيم السائدة دولياً.

الملاحظة الرابعة: إن الكثير من الهيئات والمنظمات الدولية تسعى في الوقت الحاضر لفرض احترام حقوق الإنسان على الصعيد الداخلي للدول، وهو ما كان يعتبر حتى الأمس القريب تدخلاً في الشؤون الداخلية وخرقاً لسيادة الدول.


  • [1] فلسفة الثورة الفرنسية، مونستكيو، صفحة 54
  • [2] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، جزء 44، صفحة 382
  • [3] مقتل الحسين، عبدالرزاق الموسوي المقرم، صفحة 178
المصدر
كتاب الدولة والحكومة | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى