مواضيع

تأملات في عاشوراء

الموضوع : كلمة للأستاذ عبد الوهاب حسين .

المناسبة : موسم كربلاء الثقافي الثاني .

المكان : الجمعية الحسينية ـ قرية النويدرات .

اليوم : مساء الجمعة ـ ليلة السبت .

التاريخ : 1 / محرم / 1431هج .

الموافق : 18 / ديسمبر ـ كانون الأول / 2009م .

أعوذ بالله السميع العليم، من شر نفسي الأمارة بالسوء، ومن شر الشيطان الرجيم .

بسم الله الرحمن الرحيم .

الحمد لله رب العالمين .

اللهم صل على محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين الأخيار .

السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين .

اللهم اجعل لي قدم صدق عندك مع الحسين وأصحاب الحسين الذين بذلوا مهجهم دون الحسين ( عليه السلام ) .

السلام عليكم أيها الأحبة : أيها الأخوة والأخوات في الله ورحمة الله تعالى وبركاته .

عنوان الكلمة كما اختاره المنظمون وأعلنوا عنه : ( تأملات في عاشوراء ) ولدينا في الواقع مناسبتين ..

• رأس السنة الهجرية .

• وشهادة الإمام الحسين ( عليه السلام ) .

وسوف تكون لي وقفة قصيرة مع المناسبتين .

المناسبة ( 1 ) رأس السنة الهجرية : سوف أتحدث في هذه الوقفة عن الزمن في الرؤية القرآنية في ثلاث إضاءات ..

الإضاءة ( أ ) قول الله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } ( البقرة : 189 ) .

الأهلة : جمع هلال ويسمى القمر هلالا أول الشهر القمري إلى سبع ليالي، ثم يسمى قمرا، و يسمى في الرابعة عشر بدرا .

والمواقيت : جمع ميقات، وهو الوقت المضروب للفعل، و يطلق أيضا : على المكان المعين للفعل، والمراد في الآية الشريفة المعنى الأول ( الوقت المضروب للفعل ) .

والسؤال في الآية الشريفة المباركة : هو عن الفائدة في ظهور القمر هلالا بعد هلال ورسمه الشهور القمرية .

والجواب بحسب منطق الآية الشريفة المباركة : أن ذلك تدبير إلهي ليكون بحسب العناية الربانية مواقيت ( أزمان ) مثل : الليل والنهار، واليوم والأسبوع والشهر، والفصول والسنة، لتعود بالفائدة الكبيرة على الناس في أمور دينهم ودنياهم وصلاح أمور معيشتهم ومعاملاتهم، إذا بدونها تضطرب الأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية وكل الاتفاقيات والبرامج الزمنية : الدينية والدنيوية، ولن ينضبط أي عمل، وتعم بذلك الفوضى والاضطراب كافة شؤون الحياة ولا يمكنها أن تستقيم وتهدأ .

الجدير بالذكر : أن هذا التقسيم عن طريق الهلال يستفيد منه الجميع : ( العالم والأمي، والبدوي والحضري، وغيرهم ) ويعتمدون عليه في تنظيم شؤون حياتهم، وهو تقسيم يسهل حفظه وضبطه للجميع، بخلاف التقسيم عن طريق الشمس الذي لا يعرفه إلا الخاصة، ويصعب حفظه .

والخلاصة : أن هذه الآية الشريفة المباركة تؤكد بأن الزمن ليس شيئا في نفسه، وليس صورة مجردة من المضمون، وإنما هو ..

• منازل سفر الإنسان إلى وطنه الأصلي الذي خلق للخلود فيه في الآخرة .

• وحساب دقيق في التدبير الرباني له مضمون قيمي يتمثل في المواقيت التي هي مواقيت للصلاة والصيام والحج والخمس والزكاة والأعياد والمناسبات الدينية الأخرى، وتفيد في أمور المعاش والمعاملات وتدبير شؤون الحياة .

وهذا يعني : بأن تضييع هذه المواقيت يؤدي إلى ضياع القيمة الحقيقية للزمن، فيجب على الإنسان العاقل مراقبة هذه المواقيت والتشمير بكمال الجد وبذل الجهد والطاقة لأداء حقها والقيام بما يجب عليه أو يلزمه فيها من أمور الدين والدنيا .

الإضاءة ( ب ) قول الله تعالى : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } ( يونس : 5 ) .

هذه الآية الشريفة المباركة تؤكد على مسألة المواقيت، وتضيف إليها مجموعة حقائق، منها :

( 1 ) : أن ذلك التدبير والحساب ليس من باب اللعب والعبث وبدون فائدة، وإنما وراءه حكمة ربانية بالغة يجب على العقلاء التدبر والتأمل فيها، لأنها تهديهم إلى رشدهم وصلاحهم في الدنيا والآخرة .

( 2 ) : أن نظام الكون كله مسخر لخدمة الإنسان وحياته على وجه الأرض، وأن نظام الإنسان ومسيرته التاريخية يجب أن يكونا متناغمين مع النظام الكوني، وأن مسيرة الكون ومسيرة الإنسان تنتهيان إلى غاية واحدة محددة .

( 3 ) : أن النظام الكوني يحتوي على مكونات وأسرار عجيبة ومعجزات هي آيات للعلماء الذين يتطلعون إلى الحقيقة ويبحثون عنها وتوصلهم إليها . فهي ..

• تدل على السر الكامن في داخل الأشياء، الذي يجعل لكل شيء في الكون حكمته، ويبعده عن العبثية في الخلق، ويكشف عن وجهة الأشياء وغاية الخلق والوجود .

• وتدل على صفات الخالق المدبر من العلم والقدرة والرحمة وغيرها من صفات الجمال والجلال .

وأنبه للاستفادة بمناسبة عاشوراء : بأن المتدبر في المسيرة التاريخية للإنسان ونظمها الرباني يرى فيها من المكونات والعجائب والأسرار والمعجزات ما هو أكبر من تلك التي يراها الناظر في الكون، وتدل على تجليات أعظم لصفات الخالق المدبر من العلم والقدرة والرحمة وغيرها من صفات الجمال والجلال، ولكن رؤيتها تحتاج إلى أدوات أخرى وجهد أكبر . فالمكونات والعجائب والأسرار والمعجزات في الكون يدركها الإنسان بالحواس ـ وإن استعان بالأجهزة والتكنولوجيا ـ بينما المكونات والعجائب والأسرار والمعجزات في المسيرة التاريخية للإنسان الدالة على التدبير الإلهي فيها، يدركها الإنسان بالعقل السليم والقلب النظيف الطاهر .

ويعتبر دم الإمام الحسين ( عليه السلام ) المسفوك ظلما في كربلاء المقدسة في محرم الحرام من عام 61هج من المكونات والعجائب والأسرار والمعجزات التاريخية الكبيرة . فقد حصلت البعثة النبوية وحصل التبليغ بالرسالة ـ وهما من المكونات والعجائب والأسرار والمعجزات التاريخية الكبيرة ـ وبعد وفاة الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حدث الانقلاب، قول الله تعالى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } ( آل عمران : 144 ) وهو من المكونات التاريخية الخطيرة جدا، وقابلتها في النظم الرباني والتدبير الإلهي لمسيرة الإنسان حركة الإصلاح على يد الأئمة الأطهار من أهل البيت ( عليهم السلام ) التي تتألف من عدد من المكونات التاريخية التي تضمنت الكثير .. الكثير من العجائب والأسرار والمعجزات التاريخية الكبيرة الدالة على دقة وعظمة التدبير الإلهي، وتكشف عن حكمة الله البالغة وصفاته الجمالية والجلالية، ومن هذه المكونات التاريخية في الحركة الإصلاحية شهادة الإمام الحسين ( عليه السلام ) هذا المكون التاريخي العظيم والمتميز بحق وحقيقة، والذي تضمن العديد من العجائب والأسرار والمعجزات . فقد حدث هذا المكون التاريخي العجيب المبارك في عصر الجمعة أو السبت ـ على اختلاف الروايات ـ بتاريخ : ( 10 / محرم / 61هج ) وأحدث تموجات تاريخية تحركت وتلاطمت في ذلك اليوم المشهود، واستمرت في حركتها وتموجها وتلاطمها حتى اليوم، فهدمت وأسست وبنت، وأنبتت وأثمرت، فجنى من جنى وضيع من ضيع، وهي مستمرة في حركتها وتموجها وتلاطمها، لتصنع الأرض والبشر وتهيئ المناخ المناسب لظهور القائم المهدي ( عجل الله تعالى فرجه الشريف ) وكل ذلك بتدبير رباني بالغ الحكمة والدقة، ويتضمن الكثير .. الكثير من الأسرار والعجائب والمعجزات الدالة على صفات الله الجمالية والجلالية .

وينبغي في هذه المناسبة أن أنبه أيضا إلى المرجعية الدينية الرشيدة التي أسسها الأئمة الأطهار من أهل البيت ( عليهم السلام ) فهي من المكونات التاريخية العجيبة والمهمة جدا في صناعة التاريخ المشرق للإنسانية على طريق المنهج الرباني العظيم بقيادة أهل البيت ( عليهم السلام ) وقد دل نشاط هذه المؤسسة ونتاجها العلمي في تدوين الحديث، وكتابة الفقه والتفسير وسائر العلوم الإسلامية، وتطوير الأدوات العلمية للاستنباط والتفكير وغيرها، ودورها القيادي ـ لاسيما الولي الفقيه ـ في الأمة، على عظمة ودقة التدبير الإلهي للمسيرة التاريخية للإنسان .

الإضاءة ( ج ) قول الله تعالى : { وَالْعَصْرِ . إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } ( سورة العصر ) .

هذه السورة الشريفة المباركة تعلمنا ـ بغض النظر عن المراد بالعصر الذي اختلفت فيه الأقوال ـ بأن حركة الزمن وتاريخ البشرية سوف يفرز الأقوام من الناس إلى صنفين، هما :

• الفائزون في مطالبهم ومساعيهم وصرف أعمارهم .

• والخاسرون في مطالبهم ومساعيهم وصرف أعمارهم .

وهذا الفرز حتمي ودقيق لا استثناء فيه لأحد من الناس، يقول الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) : ” الدنيا سوق ربح فيها قوم وخسر آخرون ” ( تحف العقول . ص361 ) ويؤكد هذا الفرز بأن مسألة الربح والخسارة في الحياة معادلة وجودية تخضع لأسباب واقعية معينة، يمسك الإنسان بطرف، ويمسك الله سبحانه وتعالى بالطرف الاخر في التدبير والمشيئة، على قاعدة : ” لا جبر ولا تفويض، ولكن أمر بين أمرين، ومنزلة بين منزلتين ” .

وقد أوضحت السورة المباركة بأن للفائزين في حركة الزمن التاريخية للإنسان منهج عقائدي وعملي واضح ومحدد، وله ثلاثة أصول من ضيعها أو ضيع شيئا منها في سبيل الوصول إلى الملذات، أو الحصول على المال والثروة، أو الحصول على المنصب والجاه والسلطة، أو غيرها من مقاصد الدنيا ومبتغياتها الفانية، كان نصيبه الخسران، وهي أصول يكمل بعضها بعضا، وتمثل المنهج في صورته الكاملة، وهي ..

الأصل ( 1 ) : الإيمان الصادق بالله وصفاته، وبالنبوة والولاية، وباليوم الآخر والحساب والجزاء العادل فيه . وهو البنيان التحتي لكل الأنشطة والبرامج في هذا المنهج الرباني العظيم، حيث لا تتجذر نتائج الأنشطة والبرامج وتؤتي ثمارها الطيبة في الحياة بدونه .

الأصل ( 2 ) : عمل الصالحات، مثل : طلب العلم والمعرفة، والصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، والجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإحسان إلى الناس، وغيرها من الأعمال التي تطهر النفس وتزكيها وتكملها وترفعها إلى بارئها ذي الجلال والإكرام، وتساهم في نشر الرسالة، وإقامة العدالة، وصلاح المجتمع وتطوره على أساس الحق في العقيدة والشريعة، والعدل والرحمة والمحبة والسلام في السلوك والتصرفات والمواقف، والابتعاد عن الظلم والعدوان والخصومة والتطاحن وغيرها من الآفات الروحية والأخلاقية والسلوكية البغيضة، وتحقيق الرفاهة والرخاء والحياة الطيبة والسعادة للإنسان في الدنيا والآخرة . فلا يكفي الإيمان من أجل الفوز، بل يكون العمل الصالح إلى جانب الإيمان، والعمل الصالح الذي يرضاه الله سبحانه وتعالى ـ وليس كل عمل ـ هو ثمرة الإيمان الصادق ومظهر تجلي الإخلاص لله سبحانه وتعالى، لتكون حياة الإنسان كلها لله عز وجل، قول الله تعالى : { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } ( الأنعام : 162 ـ 163 ) والصلة بين الإيمان والعمل الصالح تؤكده العديد من الآيات القرآنية الشريفة، منها : قول الله تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ( النحل : 97 ) .

وهذا يثبت بأن الإيمان ليس مجرد فكرة قابعة في الذهن بدون أثر عملي في صياغة شخصية الإنسان وسلوكه وتصرفاته ومواقفه وكافة أنشطته وبرامجه في الحياة، بل ..

• هو المصباح الذي يشع في القلب وينعكس نوره على لسان الإنسان وسمعه وبصره وسلوكه ومواقفه الخاصة والعامة في الحياة وعلى كافة جوارحه الظاهرية والباطنية .

• والأساس الذي يقوم عليه بنيان الحضارة الإسلامية كلها .

ليثبت بذلك وحدة المصدر والقيم والمبادئ الحاكمة في الفكر والروح والسلوك والتصرفات والمواقف العملية في كافة الشؤون الخاصة والعامة للإنسان المؤمن .

الأصل ( 3 ) : الرفض للباطل والظلم ومقاومتهما، وهذا هو الأصل الذي يتوج سنام هذا المنهج الرباني العظيم، حيث لا يكتب البقاء للإيمان والعمل الصالح بدونه، فمن ضيع هذا التاج، وهو : ( رفض الباطل والظلم ومقاومتهما ) فقد ضيع حقيقة الإنسان والإيمان، فلا يعرف حقيقة الإنسان والإيمان ويحتفظ بها إلا من عرف الثبات والصمود على الحق وسعى في نشر الخير والعدالة على وجه الأرض، لا من يرضى بالباطل والظلم ويتعايش معهما .

وقد صنف القرآن الكريم هذا التضييع في دائرة الارتداد، قول الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } ( المائدة : 54 ) فالارتداد هنا ليس من الإسلام إلى الكفر، وإنما هو الارتداد المتمثل في التخلي العملي عن الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومقارعة الباطل والظلم في الحياة .

أيها الأحبة الأعزاء : هذا هو المنهج القرآني في صورته الكاملة، وليس على المسلمين إلا العمل به وتطبيقه بأصوله الثلاثة في حياتهم الفردية والمجتمعية، ليتغلبون به بالتأكيد والجزم على ما يعانونه من مظاهر الضعف والهزيمة والتخلف، ويبدلوها إلى مظاهر القوة والانتصار والتقدم، ويقتلعوا به جذور الشر والظلم والاستبداد والفساد من على وجه الأرض، ويستبدلوا دولة الظلم والجور والرذيلة والاستبداد، بدولة الحق والعدل والفضيلة والحرية .

ولكن للأسف الشديد : الكثير من النفوس ضعيفة، والإيمان مزلزل فيها، وثقافة التثبيط والتخاذل هي السائدة باسم الدين والواقعية الفاسدة، ليعيش المسلمون الازدواجية والانحراف العملي عن الدين الحق !!

المناسبة ( 2 ) شهادة الإمام الحسين ( عليه السلام ) : سوف أتحدث في هذه الوقفة عن جوانب ترتبط بثورة الإمام الحسين ( عليه السلام ) في إضاءتين ..

الإضاءة ( أ ) السياسة السلطوية والسياسة المبدئية : في واقع العمل السياسي سياستان ..

• السياسة السلطوية : وهي السياسة التي تهدف للبقاء في السلطة أو الوصول إليها، فإذا كان الشخص أو الحزب أو القبيلة أو غيرهم في السلطة، يكون الهدف هو البقاء فيها، وإذا كان الشخص أو الحزب أو القبيلة أو غيرهم في المعارضة، يكون الهدف هو الوصول إلى السلطة، فالهدف هو السلطة، وخدمة الناس والأخلاق والعلاقات وغيرها هي وسائل للبقاء في السلطة أو الوصول إليها . وهذا يكون لمن هو في السلطة ولمن هو في المعارضة بدون فرق، ما دام المبدأ والهدف واحدا، وهو السلطة : البقاء فيها أو الوصول إليها، وكان عبد الله بن الزبير في صفوف المعارضة ليزيد بن معاوية، وكان هدفه الوصول إلى السلطة .

• السياسة الرسالية المبدئية : وهي السياسة التي تهدف بصدق إلى تحقيق مرضاة الله سبحانه وتعالى وخدمة العباد، وتكون السلطة وسيلة أو أداة لذلك وليست الهدف . قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : ” والله لهي ( النعل ) أحب إلي من إمرتكم، إلا أن أقيم حقا أو أدفع باطلا ” ( النهج : الخطبة : 33 ) ويكون أتباع السياسة الرسالية لمن هو في السلطة، مثل : الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) والإمام الخميني ( قدس سره الشريف ) ولمن هو في المعارضة، مثل : الإمام الحسين ( عليه السلام ) والسيد حسن نصر الله ( أيده الله تعالى ) وغيرهما .

ويجب في مقام التقييم التمييز بين الإدعاء والممارسة : فقد يدعي من هو في السلطة أو من هو في المعارضة بأنه يتبع السياسة الرسالية المبدئية وليست السياسة السلطوية، فيدعي بأن هدفه هو مرضاة الله سبحانه وتعالى وخدمة العباد والسلطة بالنسبة إليه مجرد وسيلة وليست الهدف، ولكن الأمر في حقيقته ليس كذلك، وهنا ..

• يجب على المؤمنين الحذر من مكائد الشيطان فلا ينخدعوا بها .

• والنظر في مقام التقييم إلى الممارسة وعدم الاكتفاء بالأقوال والإدعاءات .

وليعلم الجميع بأنه : ليس من السياسة الرسالية المبدئية تقديم المهم على الأهم، والتنازل عن المبادئ والثوابت الدينية والوطنية في سبيل الحصول على مكاسب دنيوية بسيطة وأتباع سياسة التبرير .

وتعتبر السياسة السلطوية في الحقيقة والواقع : سياسة مدمرة وخطيرة جدا على حياة الإنسان، فهي سياسة أنانية تتجاوز كل القيم الإنسانية وتهدمها، ولا توقفها إلا المقاومة والموانع المادية التي تقف في وجهها .

بينما السياسة الرسالية المبدئية سياسة إنسانية تلتزم بالقيم والثوابت والمصالح الحيوية للناس وتقدم العام على الخاص وتقدم مرضاة الله عز وجل على كل شيء وتقيم مواقفها كلها على هذا الأساس .

يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : ” أيها الناس !! إن الوفاء توأم الصدق، ولا أعلم جنة أوقى منه، وما يغدر من علم كيف المرجع، ولقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيسا، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة . ما لهم ! قاتلهم الله ! قد يرى الحول القلب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين ” ( النهج : الخطبة : 41 ) .

أيها الأحبة الأعزاء : أنظروا إلى القوم في معسكر يزيد الذي يتبع السياسة السلطوية ماذا فعلوا وهم من المسلمين ؟!

• قتلوا سبط الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وسيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين ( عليه السلام ) في الشهر الحرام وهو عطشان .

• وداسوا جسده الطاهر بحوافر الخيل، وحزوا رأسه الشريف ورفعوه على رأس الرمح وداروا به من بلد إلى بلد .

• وحرقوا الخيام التي تأوي إليها النساء وهم حرم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وسلبوهم وسبوهم ونقلوهم على ظهور الجمال بغير وقاء من كربلاء إلى الشام، وجعلوا الناس يتفرجون عليهم، وأسكنوهم في الشام في دار خربة، الخ !!

وانظروا في المقابل إلى القوم في معسكر الإمام الحسين ( عليه السلام ) الذي يتبع السياسة الرسالية المبدئية ماذا فعلوا ؟!

• لم يسعوا إلى السيطرة على مصدر الماء ( نهر الفرات القريب من ساحة المعركة ) وقد سبقوا إليه ليمنعوا أعداءهم منه .

• واجتهدوا في الوعظ والنصيحة للطرف المقابل قبل القتال وألقوا عليهم الحجة وحذروهم من مغبة ارتكاب الجريمة .

• وبكى الإمام الحسين ( عليه السلام ) من أجل قتلته لأنهم يدخلون النار بسبب قتلهم له، الخ !!

وهذه الحالة القيمية للمعسكرين : تتكرر دائما لدى الذين يتبعون السياسة الرسالية المبدئية والذين يتبعون السياسة السلطوية في كل زمان ومكان ولكن بدرجات متفاوتة وأشكال مختلفة !!

الإضاءة ( ب ) سياسة الرفض والمقاومة : هناك من يسيء للإمام الحسين ولسائر الأئمة الأطهار ( عليهم جميعا السلام ) بالقول الباطل : أن ثورة الإمام الحسين ( عليه السلام ) هي حالة شاذة في سيرة الأئمة الأطهار ( عليهم السلام ) الذين تعايشوا مع الظلم والظالمين ولم يثوروا كما ثار . وهذا القول يدل على الجهل المركب بالدين وحقيقة الإمامة وحجية أقوال الأئمة ( عليهم السلام ) وأفعالهم، ولم يأتي في أقوال الأئمة ( عليهم السلام ) وأفعالهم ما يدل على هذا القول الباطل، ولا يمكن أن يأتي، بل كل أقوالهم وأفعالهم تقوم على التعظيم الخاص لمواقف الإمام الحسين وشهادته ( عليه السلام ) ولم تحظى سيرة ومواقف أحد من الأئمة ( عليهم السلام ) بالاهتمام لدى الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والأنبياء قبله والأئمة الأطهار ( عليهم السلام ) بعده، كما حظيت به شهادة الإمام الحسين ( عليه السلام ) وأن جميع الأئمة الأطهار ( عليهم السلام ) الذين قتلوا صبرا بالسم، لم يقتلوا كما تقتل الخراف مستسلمين، بل قتلوا على طريق الرفض للظلم والمقامة والمقارعة للظالمين !! وهذا من البديهيات التي علمناها من سيرتهم ( عليهم السلام ) ويدل عليه الفهم الفطري للدين وشؤون الحياة .

أيها الأحبة الأعزاء : إن البقاء في الحياة وفق الرؤية الإسلامية والعقلائية ليست الغاية، فالحياة من أجل الحياة والأكل والشرب والمتعة الحسية هو سبيل الحيوان لا الإنسان، وإنما الغاية عند الإنسان العاقل الطبيعي ـ وبحسب الفهم الواقعي الفطري للدين وشؤون الحياة ـ هي الحياة في عز والعيش في كرمة، فإذا خير الإنسان العاقل الطبيعي بين العيش في ذل وبين الموت في عز، فإنه يختار لا محالة الموت في عز على الحياة في ذل ومهانة .

يقول الإمام الحسين ( عليه السلام ) : ” موت في عز خير من حياة في ذل ” (البحار . ج44. ص192) . ويقول ( عليه السلام ) : ” ألا وإن الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة ! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدود طابت وحجور طهرت، وأنوف حمية ونفوس أبية لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام ” ( أعيان الشيعة . ج1 . ص603 ) .

• فقوله ( عليه السلام ) : ” يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون ” يدل على موقف الدين .

• وقوله ( عليه السلام ) : ” وجدود طابت وحجور طهرت، وأنوف حمية ونفوس أبية لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام ” يدل على موقف العقل والإنسان الطبيعي .

فالحالة الطبيعية للإنسان العاقل إذا فرض عليه الظلم والذل والمهانة أن يرفض ويقاوم، وإذا تطلب التغير الشهادة أقدم عليها راضيا .

قال الله تعالى : { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ } ( المنافقون : 8 ) .

وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ” إن الله فوّض إلى المؤمن أمره كله، ولم يفوض إليه أن يكون ذليلا ” ( البحار . ج100 . ص93 ) .

والخلاصة : أن سياسة الرفض والمقامة للباطل والظلم ثابتة وأكيدة لدى جميع الأنبياء والأوصياء ( عليهم السلام ) وكافة العقلاء، والفرق هو في طريقة التعبير عن الرفض والمقاومة بالنظر إلى الظروف الموضوعية ومقتضى المصلحة الأكيدة فيها ..

• فقد تكون المقاومة سياسية .

• وقد تكون أمنية احتجاجية .

• وقد تكون قتالية .

وفي ختام هذه الإضاءة أحذر المؤمنين الأعزاء من أربعة أمور هي من أصناف الخطيئة ..

• الترويج إلى ثقافة التثبيط باسم الدين .

• الإيهام بعدم شرعية المقاومة للظالمين، وإعطاء الحجة الدينية أو السياسية لقمع المقاومين .

• كشف ظهور المقاومين عمليا وتسهيل السبيل لضربهم والنيل منهم .

• الإعانة عليهم بقول أو فعل، صراحة أو ضمنا، وللعلم : فإن مجرد السكوت في بعض الحالات هو إعانة حقيقة يجب على المؤمنين الحذر منها .

أيها الأحبة الأعزاء

أكتفي بهذا المقدار

واعتذر لكم عن كل خطأ أو تقصير

واستغفر الله الكريم الرحيم لي ولكم

واستودعكم الله الحافظ القادر من كل سوء

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

المصدر
كتاب إضاءات على درب سيد الشهداء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟