وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ
جدول المحتويات
قول الله تعالى: <وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ>.
أي: لقد منّ الله تبارك وتعالى عليك يا محمد وأدّبك فأحسن تأديبك حتى أصبحت على خلق عظيم لا نظير ولا مثيل له في غيرك من البشر، حتى أنّ العقول لتحار في إدراك سمو روحك وحقيقة خلقك لفرط عظمته، وهو خلق عليٌّ حتى على الأنبياء الكرام (عليهم السلام) الذين هم خلاصة البشرية في مسيرتها وتجاربها المعرفية والتربوية والحضارية، فليس منهم أحد في مثل درجتك ومنزلتك الرفيعة ومكارم أخلاقك العظيمة وخصالك الحميدة وسمو روحك، فقد نلت أكملها وأجلّها وأكثرها سمواً وشرفاً، وصارت فيك أقصى ما يمكن أن يصل إليه إنسان على الإطلاق، فالأنبياء الكرام (عليهم السلام) هم خلاصة البشرية، وأنت خلاصة الخلاصة وجوهرة الوجود كله الذي لا نظير له ولا مثيل ولا يكاثر؛ لأنك صنيعة ربّ العالمين وتربيته وصفوته وخيرته من خلقه، وفي الحديث الشريف عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: «إن الله (عز وجل) أدب نبيه فأحسن أدبه»[1]، فلديك يا محمد، ملكة نفسية راسخة فريدة من نوعها لا يشاركك فيها غيرك، تصدر عنها الأفعال الحميدة، مثل: البشاشة والإبتسامة وطلاقة الوجه، والحكمة وسلامة المنطق وحسن الهدى، والاستقامة على الصراط المستقيم ونهج الاعتدال القويم والطريقة الوسطى المثلى، والزهد في الحياة الدنيا وزخرفها وزينتها والشجاعة، والثبات على طريق الحق والصبر على الأذى وتحمل المصائب والمتاعب في طريق الدعوة الإلهية، والتوكل على الله (عز وجل) والتسليم لأمره في كل شيء وفي جميع الأحوال والظروف، وحسن معاملة الناس ومعاشرتهم والتسامح معهم والرفق واللين والمداراة والتواضع لهم والتحبب إليهم بالقول والعمل، والعفو عن المخطئين المسيئين والمتجاوزين وحسن مخالفتهم، وسعة البذل وكثرة العطاء ونحو ذلك، وكلها تصدر عنك بتلقائية ويسر وسهولة؛ لأنها طبعك الثابت والملازم لك، و حقيقة نفسك التي لا تنفك عنك ولاتفارقك ولا تفارقها، قول الله تعالى: <وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ>[2]، الكلام على لسان الرسول الأعظم الأكرم (ص)، أي: ما أنا متكلفاً فيما يظهر لكم من أخلاقي وتصرفاتي وخصالي، وما أنا من الذين يتصنّعون ما ليس لهم من الخصال والملكات، ويدَّعي أمراً ليس له كذباً على الله سبحانه وتعالى وعلى الناس؛ لأنّ المتكلّف لا يدوم أمره طويلاً بل سرعان ما يزول وينكشف أمره ويظهر على حقيقته ويعود إلى طبعه الراسخ وملكته الثابتة وينفضح أمره بين الناس ويظهر.
الرسول مثال الإنسانية الكاملة
لقد تحلّى الرسول الأعظم الأكرم (ص) بجميع صفات الكمال الإنساني الممكنة، وكانت مثال الإنسانية الكاملة ونموذجها الأتم والأكمل، وكانت صفات الكمال والخصال الحميدة ظاهرة منه وراسخة ثابتة لديه، وملازمة له لا تفارقه ولا تنفك عنه، وكان في الذروة العليا وأقصى ما يمكن أن يصل إليه الإنسان من الكمال في جميعها، فقد جمع كل الكمالات والصفات الحسنة الجميلة التي كانت متفرقة في جميع الأنبياء الكرام (عليهم السلام) قبله، وقد تفوّق على كل واحد منهم فيما تفوّق هو فيه على غيره، فلم يكن أحد منهم مثله أو نظيراً له في أية صفة من صفات الكمال، ولم يتيسر لأحد منهم ما تيسر له من الكمالات والخلق العظيم، ومن المستحيل أن يأتي بعده مَن يتفوّق عليه أو يكون أفضل منه، فهو أفضل الأولين والآخرين.
وقيل: إنّ لفظ (على)، في قوله تعالى: <وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ>[3] يدلُّ على الاستعلاء المجازي، مما يفيد التمكن والاستيلاء على جميع صفات الكمال والخلق العظيم، وأنه بالنسبة إليها كالأمير إلى المأمور، وكالمولى بالنسبة إلى العبد.
وقيل بحق: ما وصف الله (عز وجل) أحداً من أنبيائه ورسله الكرام (عليهم السلام) بهذا الوصف <وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ>[4] قبله، يقول الفخر الرازي: «إنّ الله تعالى وصف ما يرجع إلى قوته النظرية (يعني النبي محمد (ص)) بأنه عظيم، فقال: <وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا>[5] ووصف مايرجع إلى قوته العملية بأنه عظيم، فقال: <وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ>[6]، فلم يبق للإنسان بعد هاتين القوتين شيء، فدلّ مجموع هاتين الآيتين على أنّ روحه فيما بين الأرواح البشرية كانت عظيمة عالية الدرجة، كأنها لقوتها وشدة كمالها كانت من جنس أرواح الملائكة»[7].
وبهذا الكمال الإنساني النموذج المنقطع النظير كان خاتم النبيين (عليهم السلام) وصاحب أفضل وأكمل رسالة وشريعة، وصاحب الكتاب السماوي الكامل الذي فيه تبيان كل شيء، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل العزيز الحكيم، فبين كمال الإنسان والخلق العظيم، وبين خاتمية النبوة والرسالة، وكمال الرسالة والشريعة والكتاب، صلة وثيقة لا تنفك ولا تنقطع.
المراد بالخلق العظيم عند الرسول
وقد تنوّعت الأحاديث الشريفة النبوية وعن أهل البيت (عليهم السلام) وكثرت في وصف الخلق العظيم للرسول الأعظم الأكرم (ص) وشرحه وبيان ما هو، وبيان أصوله وأبعاده، منها:
- في الحديث الشريف عن الإمام الباقر (ع) أنه قال: «على دين عظيم»[8]، وعنه (ع) أنه قال: «هو الإسلام»[9]، فبيّن بأنّ المراد بالخلق العظيم هو الدين والإسلام، بمعنى: أنه يتحلّى بالفضائل والمكارم والكمالات والخلق العظيم البالغ أشد الكمال الممكن في طبع الإنسان وجنسه، الذي أُمِرَ به في القرآن الكريم والشريعة الإسلامية المطهرة، مثل: قول الله تعالى: <خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ>[10] وفيها يأمر الله (ج) رسوله الكريم (ص) بثلاثة أمور جامعة لأمّهات الأخلاق، فيما ينبغي أن يعامل به الناس، وهي:
- خُذِ الْعَفْوَ: أي: تسهّل ما أمكن في معاشرة الناس وصحبتهم ومعاملتهم، ليس في أمر العقيدة والشريعة، فهذا مما لا يجوز فيه التساهل، وإنما في المعاملة والمعاشرة، فاترك التشدّد والتعبير والغلظة والفظاظة والخشونة ونحو ذلك، واقبل اليسير منهم، فلا تُكلّفهم ما يشقّ عليهم وما لا تسمح به طبائعهم، واعف عن أخطائهم، وتجاوز عن نقصهم وتقصيرهم، ولا تطلب منهم الكمال، وتسامح معهم وأغض عن ما يسوؤك منهم، ولا تؤاخذهم بجفائهم وسوء خلقهم ونحوه، واستر عليهم حتى يميلوا إليك ولا ينفكوا عنك، مما يؤدّي إلى رفع معنوياتهم، وتجديد شخصياتهم، ويزيل عنهم العقد النفسية، ويزيد في فاعليتهم الرسالية والاجتماعية.
- وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ: أي: وأُمِرَ بالخير الواضح، وكل خصلة حسنة وسيرة جميلة، وكل ما فيه النفع والصلاح للناس، الموافق للفطرة وتقرّه العقول، ولا يحتاج إلى مناقشة وجدال؛ لأنّ هذا المعروف هو أساس هداية الناس وانقيادهم، فلا يصد أنفسهم شيء عن الهداية والانقياد أكثر من المشقة والتعقيد والغموض في الأمور.
- وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ: وهم المتعصّبون الجهلة الذين يعانون من التحلّل الأخلاقي والانحطاط الفكري والروحي، فلا ترجى هدايتهم بالحجة والدليل والبرهان، ولا بالنصح والموعظة والارشاد، وذلك بمداراتهم واللطف بهم، ومقابلة سفههم بالأناة والحكمة والحلم، وليس مقابلة الإساءة بالمثل، ولا تمارهم ولا تدخل معهم في جدال عقيم لا ينتهي إلى شيء إيجابي مفيد ونافع، فهذا الإعراض هو أقرب الطرق لإبطال جهالتهم وحماقتهم وإخراج ما فيهم من خير إن وجد، وربما يكون سبباً إلى تذليل نفوسهم وتهذيبها، فيتسرب نور الهداية والإيمان إلى قلوبهم، فإن لم يحدث هذا فقد أدّيت الذي عليك، وأقمت الحجة عليهم من كل جانب نظري وعملي، وربما عزلتهم عن الطيبين من الناس، إذ يرون منك الصبر والتحمل واللين والعطف والرحمة وترك اللغو فيميلوا إليك، ويرون منهم الجهالة والحمق والسفاهة والإساءة والعناد والمكابرة، فيسقطوا من أعينهم ويتركوهم.
وفي الحديث عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: «ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها»[11] وقيل: خُذ العفو يفيد الإعتدال في القوة الشهوية، وأمر بالعُرف يفيد الإعتدال في القوة الغضبية، وأعرض عن الجاهلين يفيد الإعتدال في القوة العقلية، مما يدل على أن الآية الكريمة رغم قصرها فهي تتناول أصول أمّهات الفضائل في قوى النفس الثلاث.
وبخصوص خُلق النبي محمد (ص) وصلته بالإسلام والقرآن: «سُئلت أم المؤمنين عائشة عن خُلقه، فقالت: كان خلقه القرآن»[12] أي: أنه تحلى على أكمل وجه وأتمه، بكل ما أمر به القرآن الكريم من الفضائل، وتخلّى تماماً عن كل ما نهى عنه القرآن الكريم من الرذائل وسوء الخلق، وكان على أكمل صورة في جميع ذلك، وهذا شيء منطقي وموافق لمبادئ القرآن الكريم والشريعة الإسلامية المقدسة؛ لأنّ الكتاب أُنزل وفرضت الشريعة من أجل هداية الناس وتربيتهم، وفي مقدمتهم وعلى رأسهم صاحب الشريعة نفسه؛ لأنه مكلّف بأنْ يكون تجسيداً حياً وتجلياً أعظم للقيم والمبادئ (قواعد السلوك) التي يدعو الناس إليها، ويكون قدوة وأسوة للناس وحجة عليهم في ذلك، فيبدأ بنفسه في تطبيقها والعمل بها، ثم يدعو الناس إليها ويطلب منهم العمل بما دعاهم إليه والاقتداء به في ذلك، قول الله تعالى: <ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ>[13]، وقول الله تعالى: <لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا>[14]، مما يدلّ على صدق النبوة والرسالة، وتيسير السبل لنجاح الرسالة وانتشارها، فكان بحق وحقيقة أعرف الناس بالله ذي الجلال والإكرام، أعبدهم له وأطوعهم وأحسنهم أخلاقاً، فكان مركزاً للحُبّ والمعرفة، ومنبعاً للعطف والرأفة والرحمة والشفقة والإحسان والحرص على مصالح الناس وسعادتهم، فكان أكبر مظهر وأعظم تجلّي للرحمة الإلهية والهداية الربانية، ولما في القرآن الكريم والشريعة المقدسة من القيم السماوية العليا والمبادئ الربانية السامية.
2. في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: «إنّ الله (عز وجل) أدّب نبيّه (ص) على محبته»[15]، أي: فسّر الخلق العظيم بالمحبة، وهي أعلى مراتب الأخلاق ومراتب الكمال الإنساني؛ لأنها تبني التعلق بالذات الإلهية الجامعة لصفات الكمال المطلق، صفات الجمال وصفات الجلال، وعشقها والإنجذاب إليها والانقطاع التام المطلق إليها عن كل شيء سواها، الفناء في الله ذي الجلال والإكرام والبقاء به، فلا يرى لنفسه ولا لغيره أي استقلال عنه، على خلاف الخلق الذي يبني على رغبة المجتمع، أو الطمع في الثواب أو الخوف من العقاب الإلهي، كما مرّ توضيحه في بيان الخلق.
مظاهر وتجلّيات أخلاق الرسول
قول الله تعالى: <فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ>[16].
وقول الله تعالى: <لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ>[17].
تتضمن الآيتان الكريمتان نقاطاً رئيسية عديدة، منها:
- أنّ ما يتحلى به الرسول الأعظم الأكرم (ص) من مكارم الأخلاق والخصال الحميدة والكمالات العظيمة، هي في الحقيقة من مظاهر رحمة الله ذي الجلال والاكرام وتجلياتها، قول الله تعالى: <فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ>[18]، وأبرز مظاهرها: معاملة المؤمنين بالرأفة واللطف واللين والرحمة والشفقة، والانفتاح الروحي والقلبي عليهم والانبساط وسعة الصدر وطلاقة الوجه والتفهم الواعي لأوضاعهم وظروفهم الموضوعية ولمشاكلهم الحقيقية ولنوازعهم الذاتية ومشاركتهم الفعلية الصادقة في همومهم وأفراحهم وأتراحهم، وتحمّل أخطائهم وتقصيرهم والصبر عليهم، وتجنّب القسوة والفظاظة والخشونة معهم في الأقوال والأفعال، وتعتبر هذه الخصلة الحميدة الممدوحة من أهم أسباب ميلهم إليه والتفافهم حوله والتعلّق به، ومن ثمّ هدايتهم إلى الدين الحق والخلق الكريم والسلوك المستقيم، وإيصالهم إلى كمالهم المقدّر لهم واللائق بهم تدريجياً خطوة بعد خطوة وتحصيل سعادتهم.
ولو كان جافياً سيء الخلق قاسي القلب غليظ الطبع فظاً شرساً في أقواله وأفعاله غير ذي رأفة ولا رحمة، لما كان مؤهلاً لهداية الناس وإرشادهم، ولأن يكون طريقاً لوصولهم إلى كمالهم اللائق بهم والمقدر لهم، ولتركوه ولم يسكنوا ويرتاحوا ويأنسوا به، ولتفرّقوا عنه حتى لا يبقى معه منهم أحد على الدين الحق والإسلام الحنيف، فيشمت به العدو ويطمع فيه وفي دينه وأصحابه، ولا يتمُّ له الأمر ولا تنتشر الرسالة، على خلاف ما هو مطلوب منه ومأمور به، يقول العلّامة الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: «ومن البديهي أنّ الذي يتصدّى للقيادة لو خلى عن هذه الخصلة الهامة (العفو واللين) وافتقر إلى روح السماحة، وافتقد صفة اللين، وعامل من حوله بالخشونة والعنف والفظاظة، فسرعان ما يواجه الهزيمة، وسرعان ما تصاب مشاريعه وبرامجه بنكسات ساحقة تُبدّد جهوده، وتذري مساعيه أدراج الرياح، إذ يتفرّق الناس من حوله، فلا يمكنه القيام بمهام القيادة ومسؤوليتها الجسيمة»[19]، ويقول العلّامة الشيخ محمد جواد مغنية: «إنّ المقصود من بعثة الرسول هداية الخلق إلى الحق، وهم لا يستمعون إلّا لمن تميل قلوبهم إليه، وتسكن نفوسهم لديه، والنفوس لا تسكن ولا تركن إلا إلى قلب رحيم كبير، كقلب محمد (ص) الذي وسع الناس كل الناس، وما ضاق بجهل جاهل أو ضعف ضعيف»[20]
وقيل: النبوات السماوية تقوم بأمرين: المظهرية التامة لأخلاق الله ذي الجلال والإكرام والرحمة الإلهية الواسعة الشاملة، واجتماع جميع الخصال الإنسانية في النبي من دون نقص أو شائبة، بالأمر الأول: يستفيض النبي من الله سبحانه وتعالى، وبالأمر الثاني: يخالط الناس ويعاشرهم ويعاملهم، فيفيدهم ويهديهم إلى الرشد والصلاح، وإلى مافيه خيرهم وسعادتهم في الدارين الدنيا والآخرة.
- تأمر الآية الكريمة المباركة الرسول الأعظم الأكرم (ص) بأمور رئيسية جوهرية عديدة في تعامله مع المؤمنين، وهي:
- فَاعْفُ عَنْهُمْ: اعفُ عن مسيئهم فيما يعود إلى حقّك الخاص، واستقبلهم بصدر رحب ووجه بشوش.
- وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ: استغفر لذنوبهم فيما يعود إلى حقوق الله سبحانه وتعالى عليهم.
- وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ: شاركهم في كل خطوة من خطوات العمل والتخطيط والبرامج الاستراتيجية العملية في الحرب والسلم، والتنمية، وجميع أمور الحياة التي تخصّهم وتعنيهم وتعود عليهم في واقع حياتهم وتحتاج إلى نظر وتفكير واستشارة، مثل: شؤون إدارة الدولة في حالتي الحرب والسلم، والمشاريع التنموية والخدمات التي تقدمها الدولة للمواطنين، والمصالح العامة، وقضايا الأمن والدفاع ونحو ذلك، وليس الشورى في مسائل الدين التي يجب الرجوع فيها إلى الوحي والتسليم إليه فيها، قول الله تعالى: <وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا>[21]، وعليه: فالأمور تنقسم إلى قسمين:
- أمور الله سبحانه وتعالى: وهي الأمور التي تعود إلى الله وحده، ومنها: تعيين الخليفة أو الإمام بعد الرسول، ويجب التسليم فيها إليه ولا مكان فيها للشورى.
- أمور الناس: وهي الأمور التي تخصّ الناس وتعود إليهم، وهي موضع الشورى بين الناس، ولهذا التشاور ثمار طيبة ومنافع ومصالح عظيمة دينية ودنيوية، منها: تطييب خواطر المواطنين ورفع روحهم المعنوية ومستوى الوعي والشعور العميق بالمسؤولية وإيجاد البصيرة النافذة لديهم في الأمور، وتوثيق عرى المحبة والصلة بينهم وبين القيادة على أساس المسؤولية والمصير المشترك، والرفع من أقدارهم ومكانتهم وأهميتهم للدين والوطن والدولة، وإيجاد الاستقرار النفسي لديهم، وتفعيل قدراتهم ومواهبهم وإمكانياتهم واستعداداتهم لخدمة الدين والدولة والوطن، وتربيتهم على الجد والاجتهاد وتحمل المسؤولية، وتنويرهم وتأهيلهم لممارسة المراقبة والمحاسبة والمحافظة على الرسالة ومقدرات الدولة والوطن، وترسيخ حالة الممانعة وتحصين الأمة والشعب ضد اختراقات الأعداء، وتربيتهم على الشجاعة الأدبية، وإفساح المجال أمامهم للتراجع عن الأخطاء وتصحيحها، ويعطي القيادة الشعور العميق بالثقة والمسؤولية، ويقطع الطريق على القيادات المنحرفة، ولكي لا يفرض القائد مزاجه الشخصي ونوازعه الذاتية ويقدم مصالحه على مصالح الأمة والرسالة، ولتمييز الصادقين المخلصين من الانتهازيين المتعصبين تمهيداً لوضع الشخص المناسب في المكان المناسب من قبل القيادة والشعب، ونحو ذلك من الفوائد والمنافع والمصالح الدينية والدنيوية.
- إذا فرغ من التشاور واتخذ القرار وعُقد الرأي على فعل شيء، فالذي يعلن القرار هو القائد الأعلى في مجلس القيادة والشعب، ويجب المضي قدماً في تنفيذ القرار بعزم وقوة إرادة، والحذر من التلكؤ والتردّد والتراخي في تنفيذ القرارات، الأمر الذي يؤدي حتماً إلى الوهن والضعف والفشل، ويجب ألّا يقع الإعتماد على الرأي ولا على القوة الذاتية لتحقيق النجاح والظفر والوصول إلى ماهو مطلوب، بل يجب التوكل على الله (عز وجل) والإعتماد على حوله وقوته وتأييده وإعانته وتسديده لتحقيق النجاح والفوز والوصول إلى الأصلح في النتائج المرجوة، والتبرّي من الحول والقوة الذاتية، والحذر من الغرور والتكبر الذي يقود إلى الضياع والهلاك، فلا شيء يستقلّ بالتأثير عن الله (عز وجل)، وهو الأعلم بالأصلح، وهو وحده الذي يقضي ما يشاء ويحكم ما يريد، فالفكر والمشورة والتخطيط والبرامج والسعي والعمل، لا تكفي وحدها لتحصيل النجاح والظفر وتحقيق المطلوب، فيجب أن ينضم إليها الإذن الإلهي، فلا محيص إذن من التوكل على الله (عز وجل)، فيجب أن نأخذ الأهبة وتستكمل العدة والاستعدادت، ويؤخذ بجميع الأسباب المادية الظاهرية المأمور بها من جميع الجهات في التفكير والتخطيط والاستعداد والعمل، وترك الاستعجال والتقصير في الدراسة والتخطيط والعمل ونحو ذلك، فإذا فعلوا ذلك فقد أدّوا ما عليهم وما أمروا به من التكليف، ثم إيكال النجاح والظفر وتحصيل النتائج المرجوة إلى الله (عز وجل) مُسبّب الأسباب، إذ لا يقدر على ذلك ولا يملكه أحد غيره، وهذه هي حقيقة التوكل، وقد بيّن الله تبارك وتعالى أنه يُحِب المتوكلين اللاجئين المنقطعين إليه الواثقين به، الذين يملكون القوة في الصبر والإيمان والإرادة، وهو مؤيدهم وناصرهم وهاديهم إلى الصلاح، لما يتمتعون به من الصدق والإخلاص وصفاء السريرة، ولشديد حُبّهم لله ذي الجلال والإكرام وثقتهم به واعتمادهم عليه، ولقيامهم بما يجب عليهم من المسؤوليات وما أُمِروا به من التكليف.
ويعتبر التوكل من أعظم الفضائل، وأشرف منازل الإيمان، وأعلى مراتب ومقامات الإنسانية الكاملة، وهو من خواص الأنبياء الكرام (عليهم السلام) والعباد المؤمنين الصالحين؛ لأنه لا ينفك عن حقيقة الإيمان وكماله.
وفي الآية الكريمة تحذير شديد من التقصير في الواجبات، ومن الغرور والاستقلال عن الله (عز وجل) في أي من الشؤون الخاصة والعامة، وفيها تشويق وترغيب في محبة الله ذي الجلال والإكرام التي هي من أعظم الكمالات وهي الخير الجامع، والانقطاع إليه عن كل شيء سواه، وفي الجد والاجتهاد وبذل الوسع والطاقة في جميع الأعمال وتحمل المسؤوليات والقيام بجميع الواجبات، وفي التوكل على الله (عز وجل) والثقة به.
نتائج مهمة
ونتوصل مما سبق إلى النتائج المهمة التالية:
- إنّ الحكومة الإسلامية والجماعة المؤمنة ذات صبغة إنسانية قيمية راقية، وأنها دستورية منظمة وشورية عادلة، وليست مادية أو مستبدة أو ظالمة.
- إنّ الشورى مبدأ أساسي وثابت في إدارة الدولة الإسلامية الراشدة والجماعة المؤمنة الناصحة وتدبير شؤونهما، ولا يجوز إبطال الشورى أو تعطيلها تحت أية حجة أو في ظل أي ظرف من الظروف أو حال من الأحوال.
- إنّ الشورى قد تتسبب في بعض الأحيان في حصول نتائج سلبية، وهذه حالات إستثنائية لا يؤخذ بها ولا يعوّل عليها، وأنّ نتائجها الإيجابية كثيرة وثابتة بحيث لا تقاس بها النتائج السلبية، والشورى من علامات الصدق والحكمة في التدبير، ومن معالم الإنسانية ومظهر من مظاهر الكرامة، والأمة التي تقوم بتدبير أمورها على الشورى يقلّ خطؤها وتنذر عثرتها، على خلاف الدكتاتورية والاستبداد التي هي من معالم الانحطاط، ومظهرمن مظاهر الحيوانية المتوحشة والشيطانية الخبيثة.
- يجب أن يكون القائد الإسلامي على درجة عالية من حسن الخلق، ولا يكفي أن يكون على درجة عالية من العلم والخبرة، وهذا شرط لنجاح القائد في مهامّه الرسالية والإنسانية والحضارية.
الأقوال حول إلزامية الشورى
وبخصوص إلزامية نتائج الشورى للقيادة العليا، هناك قولان رئيسيان، وهما:
- إنّ الأمر بالشورى للندب وليس للوجوب، وأنّ الإمتثال لما تتمخض عنه الشورى من نتائج غير واجب ولا مزلم للقيادة العليا؛ لأنّ الهدف من الشورى معنوي، وهو تطييب خواطر المؤمنين، وهو الأمر الذي تفرضه العلاقة الإنسانية والروحية التي تربط بين القيادة والأتباع.
- إنّ الأمر بالشورى في الأمور التي تعود إلى الناس فيما هو تدبير بشري وليس فيما هو تكليف شرعي للوجوب وليس الندب، قول الله تعالى: <وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ>[22]، وأمّا قوله تعالى: <فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ>[23] هو أمر تنظيمي وإداري بحت؛ لأنّ القائد الأعلى هو المسؤول عن تنظيم عملية التشاور وإدارتها، وإعلان النتائج وإمضائها بعزم وثبات، ولا يدلُّ على الندب أو الإستحباب.
وبناءً على ما سبق: يجب التمييز بين ثلاثة أنواع من الإدارات:
- الإدارة المعيّنة: مثل: الحكومة، وإدارة الشركة، ويعود القرار النهائي فيها إلى القائد الأعلى.
- الإدارة المنتخبة: مثل: البرلمان المنتخب، ويُحسم القرار النهائي فيها بالأغلبية: المطلقة أو النسبية بحسب النظام الأساسي للمؤسس.
- الإدارة المزدوجة: مثل: إدارة الأحزاب والجمعيات الأهلية، حيث يعود القرار النهائي فيها إلى القائد الأعلى أحياناً، ويُحسم بالأغلبية أحياناً.
والخلاصة: تتأثر مرجعية القرار في الإدارات بماهية المؤسسة.
- إنّ الأخلاق العظيمة للرسول الأعظم الأكرم (ص) لا يظهر أثرها مع المؤمنين فقط، بل يشمل المؤمنين وغير المؤمنين؛ لأنه أرسل رحمة للعالمين.
فهو يتألّم لما يظهر من خصومة الجفاة القساة الغلاظ من الشقاق والعناد والسفاهة والحماقة، وما يقع عليهم من الشدائد والمكاره والمشاق والمتاعب، وما يلحق بهم من الضرر وآفات الدنيا والاخرة، ويخاف عليهم سوء العاقبة والهلاك والعذاب الأليم؛ بسبب تركهم الإيمان به والإصرار على مخالفته ومعاندته والجحود برسالته؛ لأنه حريص على الجميع، ويريد الهداية والإيمان وصلاح الشؤون وإيصال خيرات الدنيا والآخرة والسعادة والنجاة للجميع، ويسعى جهده لإيصالهم إلى كمالهم وسعادتهم الحقيقية، ويخاف أن يخرج أحد من الناس عن السعادة والنجاة بسبب تركهم الإيمان بدينه الذي جاء به، والاصرار على معاندته والجحود برسالته، غير أنه بحكم الرابطة الروحية والإيمانية، ولما يتمتّع به المؤمنون من خصال حميدة وصفات روحية جميلة وأعمال صالحة ونافعة، فإنه أكثر رأفة ورحمة بهم من غيرهم، وهذه حالة منطقية وموافقة لمقتضى العدالة، حيث يجب التمييز بين المُحق والمُبطل، وبين المُحسن والمُسيئ.
- الكافي، جزء 1، صفحة 266-[1]
- ص: 86-[2]
- القلم: 4-[3]
- نفس المصدر-[4]
- النساء: 113-[5]
- القلم: 4-[6]
- التفسير الكبير، جزء 10، صفحة 602-[7]
- تفسير القمي، جزء 2، صفحة 17-[8]
- معاني الأخبار، صفحة 118-[9]
- الأعراف: 199-[10]
- الكشاف، جزء 2، صفحة 190-[11]
- التفسير الكبير، الفخر الرازي، جزء 10، صفحة 602-[12]
- الجاثية: 18-[13]
- الأحزاب: 21-[14]
- الكافي، جزء 1، صفحة 215-[15]
- آل عمران: 159-[16]
- التوبة: 128-[17]
- آل عمران: 159-[18]
- تفسير الأمثل، ناصر مكارم الشيرازي، جزء 2، صفحة 447-448-[19]
- الكاشف، محمد جواد مغنية، جزء 2، صفحة 188-[20]
- الأحزاب: 36-[21]
- الشوى: 38-[22]
- آل عمران: 159-[23]