الشمولية
لقد ثبت بالدليل العلمي القطعي استيعاب الدين الإسلامي الحنيف لمختلف جوانب الحياة الفكرية والروحية والأخلاقية والسلوكية الخاصة والعامة، الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية والإدارية والحقوقية، الداخلية والخارجية، في الحرب والسلم وغير ذلك، ولعلاقة الإنسان بربه سبحانه وتعالى من جميع الجوانب، مثل: معرفته والإيمان به وتوحيده وطاعته فيما يأمر به وينهى عنه، والثقة به وبوعده ووعيده، والتسليم له والتوكل عليه ونحو ذلك، وكل صغيرة وكبيرة يحتاجها الإنسان في حياته الفردية والمجتمعية، المادية والمعنوية، الدنيوية والأخروية، مع ما يمتاز به الدين الإسلامي الحنيف من التناسق والتكامل والتوازن، بحيث يعطي كل شيء حقه، فيحرص على إيجاد التوازن بين مطالب الروح ومطالب الجسد، ومطالب الفرد ومطالب المجتمع، ومطالب الدنيا ومطالب الآخرة، ويعطي كل غريزة إنسانية حقها، مثل: إعطاء حق القصاص لإطفاء نار الغضب والانتقام وتحقيق العدل، ويدعو إلى التسامي بالعفو عن القاتل والظالم، وعدَّه من عزائم الأمور، قول الله تعالى: <وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ 41 إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ 42 وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ>[1]، وأحلّ الطيبات من المطاعم والمشارب والملابس والمساكن والمناكح لإرضاء قوة الشهوة، ويدعو إلى التسامي بالعفة والزهد وترك الإسراف والتبذير والاستغراق في الملذات الحسية ونحو ذلك من التوجيهات والتوصيات الروحية والأخلاقية؛ لئلا تتجاوز غريزة أو قوة من قوى النفس حدودها فينعكس ضررها على نفس الفرد وعلى المجتمع الذي يعيش فيه، والغاية ضمان الوفاء بجميع احتياجات الأفراد والمجتمعات من جميع الجوانب وفي مختلف الحقول والمجالات وعلى كافة الأصعدة، وضمان صلاحهما – الأفراد والمجتمعات – الفكري والروحي والأخلاقي والسلوكي، بخطى ثابتة في طريق الرقي والتسامي والتكامل المعرفي والتربوي والحضاري، وضمان استقامتها والأمن والإستقرار الروحي والنفسي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والبيئي ونحو ذلك، وضمان اطراد حركة المجتمع وسيرة تقدمه وتطوره وتكامله ورقيه ورخائه وازدهاره، وإزالة كافة العوائق والعقبات والأغلال عن طريق تمدّنه وتقدّمه ورخائه وازدهاره، وتحقيق البهجة والغبطة والسرور والسعادة لجميع الناس في الدارين الدنيا والآخرة.
مقومات الشمولية:
وترتبط شمولية الإسلام الحنيف بثلاثة عناصر مقوّمة رئيسية وجوهرية لا تنفك عنها، وهي:
- الكتاب (القرآن الكريم): الذي يتضمن الأصول الكلية لكافة ما يحتاجه الناس من أمر الهداية في حياتهم، من المعارف الإلهية الحقة والأخلاق الفاضلة والتشريعات التي تبيّن الحقوق وتعمل على تقويم المجتمع وتنظيمه، والمواعظ والسيرة ونحوها، على نحو الإجمال والعموم، بمنطوقه ومفهومه وإشاراته وتنبيهاته والإحالة على ما يوجب العلم التعبدي التنزيلي، مثل: السنة والإجتهاد، قول الله تعالى: <وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ>[2].
- السنّة الشريفة (النبوية ولأهل البيت): وفيها بيان تفاصيل ما اشتمل على إجمال القرآن الكريم، مثل: القرآن الكريم يأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، قول الله تعالى: <وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ>[3]، ويأمر بالصيام، قول الله تعالى: <يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ>[4]، ويأمر بالحج، قول الله تعالى: <وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا>[5]، ويأمر بالقتال، قول الله تعالى: <أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا>[6]، ويأمر بالقصاص، قول الله تعالى: <يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ>[7]، ونحو ذلك، ثم تأتي السنة الشريفة المباركة (النبوية ولأهل البيت) لتبيين التفاصيل الدقيقة لجميع تلك الأعمال والعبادت المأمور بها وتبيين أحكامها، قول الله تعالى: <يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا>[8]، وقول الله تعالى: <وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ>[9]، وقول الله تعالى: <وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ>[10]، وفي الحديث الشريف عن الإمام الباقر (ع) أنه قال: «إنّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأمة إلّا أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله (ص) وجعل لكل شيء حدّاً، وجعل عليه دليلاً يدلّ عليه، وجعل على من تعدّى ذلك الحدّ حدّاً»[11].
- الاجتهاد: وهو بذل الجهد العلمي الصحيح، من الشخص المؤهل له في استنباط (استخراج) الأحكام الشرعية والقوانين الإلهية على أسس علمية دقيقة ثابتة ومحكمة، من أدلتها ومصادرها المعتبرة المقررة لها والثابتة لدى الفقهاء، وهي: الكتاب والسنة والإجماع والعقل في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) والكتاب والسنة والإجماع والقياس والإستصحاب وغيرها في مدرسة الخلفاء.
ويعتبر الاجتهاد وسيلة علمية أصيلة وضرورية وفعّالة لاستيعاب كافة التفاصيل المتحركة بتطورات الزمان، والمتغيّرة بتغيّر الأفراد والمجتمعات والظروف والأحوال ليصبح الإسلام الحنيف فعلياً ديناً شاملاً لجميع شؤون الحياة الخاصة والعامّة، وفي جميع الأحوال ومختلف الظروف، وخالداً ومحافظاً على أصالته وطراوته وتجدّده في آن، يقول العلّامة الشيخ محمد جواد مغنية: «وقد أذن الله ورسوله لمن له الأهلية والكفاءة أن يفرّع على أصول القرآن، ويستخرج منها الأحكام التي فيها خير وصلاح للناس بجهة من الجهات، ومعنى هذا أنّ حكم المجتهد العادل هو حكم القرآن والرسول، ولذا جاء في بعض الروايات: «أنّ الراد على حكمه كالراد على الله»[12]. وفي الحديث الشريف عن الإمام الرضا (ع) أنه قال: «إنما علينا إلقاء الأصول، وعليكم التفرع»[13]، والحديث يؤسس لشيء أوسع من الاجتهاد بالمفهوم الخاص الذي يمارسه الفقهاء المؤهلون، ليشمل الأصول العامة، مثل: لا ضرر ولا ضرار، ولا حرج، وأصالة اللزوم في العقود وأصالة الصحة، وقاعدة الفراغ والتجاوز، ونحوه التي تمثّل الخطوط العريضة للشريعة وروحها، ويستطيع عامّة المؤمنون من تطبيقها على مصاديقها وجزئياتها بعد أن ينتج الفقهاء مفادها.
وقد ثبت بالتجربة كفاءة الاجتهاد الإسلامي في القيام بوظيفته الرسالية على أحسن وأكمل وجه، واستيعابه لكافة التفاصيل المتغيرة والمتحركة، الفردية والمجتمعية، الفكرية والعملية ونحوها، فلم يتبيّن أو يظهر عجز الفقهاء أو عدم أصالة الاجتهاد في جميع المذاهب الإسلامية، كل مذهب بحسب أصوله وقواعده ومصادره في استنباط الحكم الشرعي في أية مسألة جزئية أو كلية، خاصة أو عامة، تقليدية مألوفة أو مستحدثة وغير مألوفة، في أي شأن من شؤون الحياة العملية المتحركة والمتغيرة الفردية والمجتمعية، الخاصة والعامة، الفكرية والعملية، والسائرة نحو التكامل لبلوغ الكمال الممكن المعرفي والتربوي والحضاري المقدّر للإنسان واللائق به في أصل خلقته في الإرادة الإلهية.
وتعتبر الشمولية من المظاهر البارزة للرحمة الإلهية الواسعة وتجلّياتها في الرسالة الإسلامية المحمدية الخالدة، إذ تغني الإنسان عن الرجوع إلى غيره من التشريعات الوضعية، وهي دليل قطعي على أنّ الشريعة الإسلامية شريعة سماوية منزلة من عند الله سبحانه وتعالى عن طريق الوحي على عبده ورسوله الكريم محمد بن عبدالله (ص) ويستحيل عقلاً وبحكم التجربة التاريخية الطويلة كلها، وبما في أيدينا من التراث الإنساني التاريخي والمعاصر، أن يأتي بشر فرد أو جماعة بمثل ما جاء به النبي محمد (ص) شمولاً واستيعاباً دقيقاً وبتميّز نوعي لتفاصيل المسائل والقضايا والاحتياجات الفردية والمجتمعية، المادية والروحية، الفكرية والعملية، القريبة والبعيدة، الفعلية والممكنة، الدنيوية والأخروية، لجميع الأفراد والمجتمعات، وفي جميع الحقول والمجالات والشؤون المختلفة، الفكرية والعلمية والصناعية والتقنية والإدارية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، ولمختلف الظروف والأحوال الثابتة والمتغيرة، المألوفة وغير المألوفة، ولجميع الأزمنة والعصور، حتى ينتهي أمد الحياة الإنسانية على وجه الأرض.