مواضيع

العالمية والشمول والخاتمية

النقطة الأولى: العالمية

يعتبر الدين الإسلامي الحنيف ديناً عالمياً خالداً للبشرية قاطبة بدون استثناء، فيجب على كل أحد من الناس الرجوع إليه، منذ إعلان الدعوة بعد نزول الوحي على الرسول الأعظم الأكرم (ص) في غار حراء في شمال مكة المكرمة بتاريخ: 27 رجب 13 قبل الهجرة (609م) على امتداد التاريخ وامتداد الجغرافيا، وحتى انقضاء حياة الإنسان على وجه الأرض، فيجب اتباع الدين الإسلامي الحنيف، والعمل بجميع أحكامه وتشريعاته في جميع الشؤون الخاصة والعامة على جميع الناس على امتداد المساحتين التاريخية والجغرافية؛ لأنه لا يختص بقوم دون قوم، ولا بلد دون بلد، ولا زمان دون زمان، بل يعم المجتمع الإنساني ككل على اختلاف العنصر والوطن واللسان والزمان، وهذه من ضروريات الدين الإسلامي الحنيف، يؤمن بها ويعتقدها كل المسلمين الملتزمين الذين يعتقدون بأن الدين الإسلامي الحنيف، دين حق، ويعلم كل الباحثين المختصين بأنها حقيقة ثابتة ثبوتاً علمياً قطعياً في مصادره الأساسية: القرآن الكريم والسنة الشريفة القطعية، وعليه إجماع المسلمين، قول الله تعالى: <وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ>[1]، وقول الله تعالى: <قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا>[2]، وقول الله تعالى: <وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ>[3] وغيرها كثير.

وقد امتثل الرسول الأعظم الأكرم (ص) لهذه الحقيقة، فبعث الرسائل والرسل لرؤساء البلدان وملوك الدول القائمة آنذاك، مثل: قيصر الروم، وكسرى الفرس، وملك الحبشة، وحكّام مصر والشام، ورؤساء القبائل العربية المختلفة، ودعاهم جميعاً للإسلام الحنيف، وحذّرهم من مفاسد الكفر بنبوته وتكذيبه والعواقب السيئة الوخيمة المترتبة على ذلك في الدارين الدنيا والآخرة، ولم يكن ذلك عبثاً، ولا مبادرة شخصية منه، بل قام بهذا العمل النوعي بأمر من الله (ج) رب العالمين، وهو يدلُّ قطعاً ويقيناً على عالمية الإسلام الحنيف وعموميته لكل الناس.

كما أنّ الخطاب القرآني موجّه كذلك لجميع الناس على امتداد التاريخ وعرض الجغرافيا، ولم يكن موجّهاً لقوم دون آخرين، أو لزمان دون آخر، وذلك بألفاظ متنوعة، مثل: يا أيها الناس، قول الله تعالى: <يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ>[4]، ويا بني آدم، قول الله تعالى: <يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ>[5]، ولفظ العالمين، مثل: <قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ>[6]، وقول الله تعالى: «تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا»[7] ونحو ذلك.

وهذا يقتضي نسخ كل الأديان السماوية السابقة، مثل: المسيحية واليهودية، وبطلان كل التشريعات الوضعية المخالفة للدين الإسلامي الحنيف، ويجب على المؤمنين بالأديان السماوية السابقة كسائر الناس، أن يتخلّوا عنها، ويتّبعوا الدين الإلهي العالمي الذي أنزله الله تبارك وتعالى على عبده ورسوله محمد بن عبدالله (ص) رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً لهم؛ لثبوت ذلك في حقهم أجمعين وبدون استثناء، قول الله تعالى: <كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ>[8]، وقول الله تعالى: <يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ ۖ فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ>[9] وغير ذلك كثير.

وقد تكفّل الله (عز وجل) ببقاء الاعتبار للقرآن الكريم أبداً، فلا يمسّه ما مسّ الكتب السماوية السابقة من التحريف والتغيير والتبديل ونحو ذلك، قول الله تعالى: <إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ>[10]، وقول الله تعالى: <إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ 41 لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ>[11]، وقد أجمع المسلمون قاطبة على سلامة القرآن من التحريف والتغيير والتبديل، فالكتاب الذي بين أيدينا اليوم هو عينه الذي أنزله الله العزيز الحكيم على عبده ورسوله محمد بن عبدالله (ص) بدون أي تغيير أو تبديل أو زيادة أو نقصان، وهو الأمر الذي يحكم العقل السليم بضرورته، وثبت علمياً صحته.

كما تكفّل ربُّ العالمين بصمود الدين الإسلامي الحنيف أمام كل التحديات والصعوبات، وأن يوجد له حملة أئمة وأتباع في كل زمان، قول الله تعالى: <أُولَٰئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ۚ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ>[12]، وقول الله تعالى: <هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ۖ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ ۚ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ ۚ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم>[13]، وقول الله تعالى: <يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ>[14]، وأن يشقّ طريقه إلى الناس ويواصل انتشاره أبداً بين مختلف الأقوام والشعوب وفي مختلف البلدان، حتى يظهره الله (عز وجل) على كافة الأديان السماوية والوضعية وكافة الفلسفات والسياسات البشرية والوضعية، كحتمية تاريخية تنتهي إليها المسيرة التاريخية البشرية، قول الله تعالى: <وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ>[15]، وقول الله تعالى: <وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا>[16]، وقد ثبت بالحس والتجربة إقبال الناس على الدين الإسلامي الحنيف واعتناقه وتطبيق أحكامه وتأدية عباداته بنفس الحماس والطريقة التي كان عليها أصحاب رسول الله (ص) وأنه دخل وانتشر في جميع البلدان وفي جميع الثقافات الشرقية والغربية، المتقدمة والمتخلفة، والحمدلله رب العالمين.

وعالمية الدين الإسلامي الحنيف حقيقة إلهية ثابتة تفرضها وحدة الربّ، قول الله تعالى: <قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ>[17]، وقول الله تعالى: <يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ>[18]، وذلك للأسباب التالية:

  • لأنّ هداية الرب الواحد الحكيم الرحيم لعباده المتفقين في العقل والمنطق والفطرة وأصل الخلقة والتكوين والطبيعة هداية واحدة لا تختلف.
  • أن إيجاد الدين الإلهي العالمي الواحد لجميع الناس أمر ممكن عقلاً؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى يتمتع بسلطة مطلقة على جميع خلقه، فهو يفعل مايشاء، وبقدرة مطلقة، فلا يعجزه أن يأتي بدين عالمي واحد لجميع الناس، وبعلم مطلق وحكمة مطلقة ورحمة واسعة، وغير ذلك من الصفات والشؤون الإلهية التي تجعل وجود الدين الإلهي العالمي الواحد لجميع الناس أمراً ممكناً.

كما أنّ وحدة الإنسانية وطبيعتها الواحدة المشتركة، تقتضي وحدة الغاية، ووحدة التشريع والمنطق، ووحدة المصير، مما يتطلب وحدة الدين والمنهج والتشريع.

نتائج مهمة

تترتب على ما سبق النتائج المهمة التالية:

  • كمال الدين الإسلامي، وأن تبنى المعارف الإسلامية والأخلاق والتشريعات كلها على مقتضى الفطرة وأصل الخلقة والتكوين والطبيعة الإنسانية الواحدة المشتركة بين جميع البشر؛ لأنها الأساس الثابت للدين الحق.
  • أن تكون المعارف والأخلاق والتشريعات موافقة للعقل والمنطق السليم، في الحديث النبوي الشريف: «استرشدوا العقل ترشدوا، ولا تعصوه فتندموا»[19]، وقد ذهب الفقهاء والمتكلمون والحكماء المسلمون إلى القول بالتلازم بين حكم العقل وبين حكم الشرع المقدس، وسموه: قاعدة التلازم، وتعني: أن كل ما حكم به الشرع المقدس يحكم به العقل، وقال أهل العرفان: إن العقل شرع داخلي، والشرع عقل خارجي، ولا فرق بينهما في حاق الواقع، فلو تجسّم العقل لكان بصورة النبي، ولو تجرّد النبي لصار العقل بعينه، فلا فرق بينهما إلا في اختلاف النشأة والعالم، العقل ينتمي إلى عالم المجرّدات، والنبي ينتمي إلى عالم الطبيعة.
  • أن يدعو الدين الإسلامي الحنيف إلى اتباع الحق وتمحيصه، وإلى العلم والمعرفة والصواب، والتحلي بالتقوى والفضيلة ومحاسن الأخلاق والخصال الحميدة، وإلى الاستقامة والصلح، وإقامة العدل والقسط بين الناس كافة بدون تمييز بينهم، وإلى المحبة والرأفة والرحمة واللين وحُسن المعاملة للآخرين، وإلى فعل الخيرات والأعمال الصالحة والنافعة لتقدّم الحياة وازدهارها وتطورها، وإلى صيانة الحريات وكافة الحقوق الطبيعية والمكتسبة المشروعة، وإلى كل ما يثبت بحق وحقيقة أن الإسلام الحنيف يتسع بواقعية لجميع حاجات البشرية ويرفع من شأنها ويصون كرامتها، وأنه يوافق في جميع أصوله ومبادئه وعلومه ومعارفه وأخلاقه وتشريعاته العقل والمنطق السليم والفطرة والطبع الإنساني السليم.

وفي المقابل ينهى عن اتباع الباطل والخرافات والأوهام ومخالفة العقل والمنطق والدليل والبرهان الصحيح، وعن الرذائل ومساوئ الأخلاق والخصال المذمومة وكل أوجه الفساد والتحلل والانحطاط، وعن الظلم والدكتاتورية والاستبداد والتمييز العنصري والطائفي بين الناس في الحقوق والواجبات، وعن الكراهية والتشدد والعنف والقسوة مع الناس وسوء معاملتهم، والنهي عن الشرور والأفعال الضارة بالحياة وتقدمها وإزدهارها، وعن انتهاك الحريات والحقوق والحرمات والمقدسات، وعن كل ما يخالف العقل والمنطق والفطرة والطبع السليم ونحو ذلك من المفاسد والمهالك، قول الله تعالى: <الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ>[20].

  • محاربة العصبيات الجاهلية والنعرات العنصرية العرقية والطائفية، والتركيز على وحدة الجنس البشري، والوحدة الدينية الروحية والمعنوية للأمة الإسلامية، التي تتجاوز حدود البلدان والأقوام، والدعوة إلى الإلفة والمحبة والإخاء، والتعاون والتضامن والتعارف والتبادل الحضاري والثقافي والمنافع بين البشر، قول الله تعالى: <يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ>[21]

وبدون شك: فإن عالمية الإسلام الحنيف هي من مظاهر رحمة الله تبارك وتعالى وتجلياتها، وسبباً لتعميمها وإيصالها إلى كافة الناس على امتداد التاريخ وامتداد الجغرافيا.

النقطة الثانية: الشمولية

لقد ثبت بالدليل العلمي القطعي استيعاب الدين الإسلامي الحنيف لمختلف جوانب الحياة الفكرية والروحية والأخلاقية والسلوكية الخاصة والعامة، الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية والإدارية والحقوقية، الداخلية والخارجية، في الحرب والسلم وغير ذلك، ولعلاقة الإنسان بربه سبحانه وتعالى من جميع الجوانب، مثل: معرفته والإيمان به وتوحيده وطاعته فيما يأمر به وينهى عنه، والثقة به وبوعده ووعيده، والتسليم له والتوكل عليه ونحو ذلك، وكل صغيرة وكبيرة يحتاجها الإنسان في حياته الفردية والمجتمعية، المادية والمعنوية، الدنيوية والأخروية، مع ما يمتاز به الدين الإسلامي الحنيف من التناسق والتكامل والتوازن، بحيث يعطي كل شيء حقه، فيحرص على إيجاد التوازن بين مطالب الروح ومطالب الجسد، ومطالب الفرد ومطالب المجتمع، ومطالب الدنيا ومطالب الآخرة، ويعطي كل غريزة إنسانية حقها، مثل: إعطاء حق القصاص لإطفاء نار الغضب والانتقام وتحقيق العدل، ويدعو إلى التسامي بالعفو عن القاتل والظالم، وعدَّه من عزائم الأمور، قول الله تعالى: <وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ 41 إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ 42 وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ>[22]، وأحلّ الطيبات من المطاعم والمشارب والملابس والمساكن والمناكح لإرضاء قوة الشهوة، ويدعو إلى التسامي بالعفة والزهد وترك الإسراف والتبذير والاستغراق في الملذات الحسية ونحو ذلك من التوجيهات والتوصيات الروحية والأخلاقية؛ لئلا تتجاوز غريزة أو قوة من قوى النفس حدودها فينعكس ضررها على نفس الفرد وعلى المجتمع الذي يعيش فيه، والغاية ضمان الوفاء بجميع احتياجات الأفراد والمجتمعات من جميع الجوانب وفي مختلف الحقول والمجالات وعلى كافة الأصعدة، وضمان صلاحهما – الأفراد والمجتمعات – الفكري والروحي والأخلاقي والسلوكي، بخطى ثابتة في طريق الرقي والتسامي والتكامل المعرفي والتربوي والحضاري، وضمان استقامتها والأمن والإستقرار الروحي والنفسي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والبيئي ونحو ذلك، وضمان اطراد حركة المجتمع وسيرة تقدمه وتطوره وتكامله ورقيه ورخائه وازدهاره، وإزالة كافة العوائق والعقبات والأغلال عن طريق تمدّنه وتقدّمه ورخائه وازدهاره، وتحقيق البهجة والغبطة والسرور والسعادة لجميع الناس في الدارين الدنيا والآخرة.

مقومات الشمولية:

وترتبط شمولية الإسلام الحنيف بثلاثة عناصر مقوّمة رئيسية وجوهرية لا تنفك عنها، وهي:

  1. الكتاب (القرآن الكريم): الذي يتضمن الأصول الكلية لكافة ما يحتاجه الناس من أمر الهداية في حياتهم، من المعارف الإلهية الحقة والأخلاق الفاضلة والتشريعات التي تبيّن الحقوق وتعمل على تقويم المجتمع وتنظيمه، والمواعظ والسيرة ونحوها، على نحو الإجمال والعموم، بمنطوقه ومفهومه وإشاراته وتنبيهاته والإحالة على ما يوجب العلم التعبدي التنزيلي، مثل: السنة والإجتهاد، قول الله تعالى: <وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ>[23].
  2. السنّة الشريفة (النبوية ولأهل البيت): وفيها بيان تفاصيل ما اشتمل على إجمال القرآن الكريم، مثل: القرآن الكريم يأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، قول الله تعالى: <وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ>[24]، ويأمر بالصيام، قول الله تعالى: <يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ>[25]، ويأمر بالحج، قول الله تعالى: <وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا>[26]، ويأمر بالقتال، قول الله تعالى: <أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا>[27]، ويأمر بالقصاص، قول الله تعالى: <يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ>[28]، ونحو ذلك، ثم تأتي السنة الشريفة المباركة (النبوية ولأهل البيت) لتبيين التفاصيل الدقيقة لجميع تلك الأعمال والعبادت المأمور بها وتبيين أحكامها، قول الله تعالى: <يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا>[29]، وقول الله تعالى: <وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ>[30]، وقول الله تعالى: <وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ>[31]، وفي الحديث الشريف عن الإمام الباقر (ع) أنه قال: «إنّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأمة إلّا أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله (ص) وجعل لكل شيء حدّاً، وجعل عليه دليلاً يدلّ عليه، وجعل على من تعدّى ذلك الحدّ حدّاً»[32].
  3. الاجتهاد: وهو بذل الجهد العلمي الصحيح، من الشخص المؤهل له في استنباط (استخراج) الأحكام الشرعية والقوانين الإلهية على أسس علمية دقيقة ثابتة ومحكمة، من أدلتها ومصادرها المعتبرة المقررة لها والثابتة لدى الفقهاء، وهي: الكتاب والسنة والإجماع والعقل في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) والكتاب والسنة والإجماع والقياس والإستصحاب وغيرها في مدرسة الخلفاء.

ويعتبر الاجتهاد وسيلة علمية أصيلة وضرورية وفعّالة لاستيعاب كافة التفاصيل المتحركة بتطورات الزمان، والمتغيّرة بتغيّر الأفراد والمجتمعات والظروف والأحوال ليصبح الإسلام الحنيف فعلياً ديناً شاملاً لجميع شؤون الحياة الخاصة والعامّة، وفي جميع الأحوال ومختلف الظروف، وخالداً ومحافظاً على أصالته وطراوته وتجدّده في آن، يقول العلّامة الشيخ محمد جواد مغنية: «وقد أذن الله ورسوله لمن له الأهلية والكفاءة أن يفرّع على أصول القرآن، ويستخرج منها الأحكام التي فيها خير وصلاح للناس بجهة من الجهات، ومعنى هذا أنّ حكم المجتهد العادل هو حكم القرآن والرسول، ولذا جاء في بعض الروايات: «أنّ الراد على حكمه كالراد على الله»[33]. وفي الحديث الشريف عن الإمام الرضا (ع) أنه قال: «إنما علينا إلقاء الأصول، وعليكم التفرع»[34]، والحديث يؤسس لشيء أوسع من الاجتهاد بالمفهوم الخاص الذي يمارسه الفقهاء المؤهلون، ليشمل الأصول العامة، مثل: لا ضرر ولا ضرار، ولا حرج، وأصالة اللزوم في العقود وأصالة الصحة، وقاعدة الفراغ والتجاوز، ونحوه التي تمثّل الخطوط العريضة للشريعة وروحها، ويستطيع عامّة المؤمنون من تطبيقها على مصاديقها وجزئياتها بعد أن ينتج الفقهاء مفادها.

وقد ثبت بالتجربة كفاءة الاجتهاد الإسلامي في القيام بوظيفته الرسالية على أحسن وأكمل وجه، واستيعابه لكافة التفاصيل المتغيرة والمتحركة، الفردية والمجتمعية، الفكرية والعملية ونحوها، فلم يتبيّن أو يظهر عجز الفقهاء أو عدم أصالة الاجتهاد في جميع المذاهب الإسلامية، كل مذهب بحسب أصوله وقواعده ومصادره في استنباط الحكم الشرعي في أية مسألة جزئية أو كلية، خاصة أو عامة، تقليدية مألوفة أو مستحدثة وغير مألوفة، في أي شأن من شؤون الحياة العملية المتحركة والمتغيرة الفردية والمجتمعية، الخاصة والعامة، الفكرية والعملية، والسائرة نحو التكامل لبلوغ الكمال الممكن المعرفي والتربوي والحضاري المقدّر للإنسان واللائق به في أصل خلقته في الإرادة الإلهية.

وتعتبر الشمولية من المظاهر البارزة للرحمة الإلهية الواسعة وتجلّياتها في الرسالة الإسلامية المحمدية الخالدة، إذ تغني الإنسان عن الرجوع إلى غيره من التشريعات الوضعية، وهي دليل قطعي على أنّ الشريعة الإسلامية شريعة سماوية منزلة من عند الله سبحانه وتعالى عن طريق الوحي على عبده ورسوله الكريم محمد بن عبدالله (ص) ويستحيل عقلاً وبحكم التجربة التاريخية الطويلة كلها، وبما في أيدينا من التراث الإنساني التاريخي والمعاصر، أن يأتي بشر فرد أو جماعة بمثل ما جاء به النبي محمد (ص) شمولاً واستيعاباً دقيقاً وبتميّز نوعي لتفاصيل المسائل والقضايا والاحتياجات الفردية والمجتمعية، المادية والروحية، الفكرية والعملية، القريبة والبعيدة، الفعلية والممكنة، الدنيوية والأخروية، لجميع الأفراد والمجتمعات، وفي جميع الحقول والمجالات والشؤون المختلفة، الفكرية والعلمية والصناعية والتقنية والإدارية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، ولمختلف الظروف والأحوال الثابتة والمتغيرة، المألوفة وغير المألوفة، ولجميع الأزمنة والعصور، حتى ينتهي أمد الحياة الإنسانية على وجه الأرض.

النقطة الثالثة: الخاتمية والخلود

تناولت العديد من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة وأحاديث أهل البيت (عليهم السلام) مسألة خاتمية الرسالة الإسلامية المحمدية وخلودها وأكدتهما، ونفت عن الرسالة الإسلامية المحمدية كل تحديد أو تقييد زماني، قول الله تعالى: <مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا>[35]، وتتضمن الآية الكريمة النقاط التالية:

  • إنّ الرابطة التي تربط بين الرسول الأعظم الأكرم (ص) وبين أمّته هي أعظم وأسمى وأشرف وأكثر أهمية للإنسان والإنسانية من الرابطة التي تربط بين الآباء وبين أبنائهم، وهو أكثر رحمة بهم وحرصاً عليهم منهم، ويجب له من التعظيم والتوقير والتقديم والطاعة أكثر مما يجب لهم.
  • إنّ الرسول الأعظم الأكرم (ص) هو خاتم الأنبياء والرسل الكرام (عليهم السلام) فلن يأتي بعده نبي ليبين للناس مالم يأتِ به من الأحكام، وعليه: يجب عليه أن يبيّن للناس بمنتهى الدقة كافة الأحكام الشرعية التي تحتاجها البشرية في حياتها إلى انقضاء التاريخ البشري على وجه الأرض، ومنها الحكم بجواز زواج الرجل بمُطلّقة ابنه بالتبنّي، لأنه ليس ابنه حقيقة، والأحكام تبنى على أسس ثابتة وحقيقية، وليس على ما هو مدّعى ولا حقيقة له.
  • إنّ الله سبحانه وتعالى قد أحاط بكل شيء علماً وقدرة، فهو يعلم حيث يجعل رسالته ويختمها بمحمد (ص) ويعلم من يصلح لفضله ومن لا يصلح، ويعلم بكل ما يصلح أحوال الناس الخاصة والعامة وما يفسدها، وهو قادر على وضع الشريعة التامة الكاملة التي تصلح لكل الناس على امتداد التاريخ وعرض الجغرافيا، وتصلح لكل الظروف والأحوال الخاصة والعامة، المألوفة وغير المألوفة، وتصلحهم وتتكفل بسعادتهم في الدارين الدنيا والآخرة.

وفي الحديث النبوي الشريف: «أُرسِلتُ إلى الناس كافة، وبي خُتِمُ النبيُّون»[36]، وفي الحديث عن أميرالمومنين علي بن أبي طالب (ع) أنه قال: «أمّا رسول الله (ص) فخاتم النبيين، ليس بعده نبي ولا رسول، وخُتِمَ برسول الله الأنبياء إلى يوم القيامة»[37].

وذلك على خلاف ما كانت عليه جميع الرسالات السماوية السابقة التي كانت جميعها محدودة ومقيّدة بدورة رسالية في مدّة زمانية معيّنة ومحددة، ثم يتم نسخها برسالة سماوية لاحقة تعالج التشريعات المؤقتة، مثل:حرمة الصيد في يوم السبت الذي حرّمه الله (ج) على بني إسرائيل، ثم جاءت رسالة عيسى المسيح (ع) فأحلّته، قول الله تعالى على لسان عيسى بن مريم (ع): <وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ۚ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ>[38]، ولمعالجة التحريفات التي أُدخلت على الرسالة السابقة، ومعالجة المسائل والقضايا والشؤون والظواهر المستجدّة والمستحدثة، التي فرضتها تطورات الحياة وتعقيداتها، وتلاقح الثقافات والحضارات ونحو ذلك.

وبناءً على ما سبق: ينبغي على المؤمنين بالرسالة السابقة أن يلتحقوا بركب التطوّر في الرسالات السماوية، فيؤمنوا بالرسالة الجديدة الناسخة للرسالة السابقة ويعملوا بمقتضاها.

فقد نسخت رسالة إبراهيم الخليل رسالة نوح (عليهم السلام) ونسخت رسالة موسى الكليم رسالة إبراهيم الخليل (عليهم السلام) ونسخت رسالة عيسى المسيح رسالة موسى الكليم (عليهم السلام) فانتهت النوبة إلى الرسالة السماوية الخاتمة، وهي رسالة النبي محمد (ص) التي هي رسالة كاملة من جميع الجوانب والوجوه، وثابتة ونهائية، فلا تقبل النسخ والتغيير والتبديل، وهي رسالة خالدة حتى انقضاء الحياة الإنسانية وتوقّف التاريخ الإنساني على وجه الأرض، وذلك لأنها من لدن عليم خبير أحاط بكل شيء علماً وقدرة، وقد بُنيت على أساس ثابت وكلي ومشترك بين جميع أفراد النوع الإنساني، وهو الفطرة وأصل الخلقة والتكوين والطبيعة الإنسانية، بحيث تستجيب لجميع الإحتياجات الضرورية للإنسان الفردية والمجتمعية، المادية والروحية، القريبة والبعيدة، المألوفة وغير المألوفة، الدنيوية والأخروية، قول الله تعالى: <فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ>[39].

وقد أجمع المسلمون قاطبة على خاتمية الرسالة الإسلامية المحمدية، فالنبي محمد (ص) هو خاتم الأنبياء والرسل الكرام والسفراء الإلهيين (عليهم السلام)، وشريعته خاتمة الشرائع السماوية الإلهية وأكملها على الإطلاق، وكتابه خاتم الكتب السماوية وأشملها للمعارف الإلهية الحقة والأخلاق الفاضلة والتشريعات الإلهية والمواعظ البالغة والسيرة الصادقة وغيرها من العلوم، وأكملها على الإطلاق، وهو كتاب خالد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنّ الرسالات السماوية قد اكتملت بالرسالة الإسلامية المحمدية، وبلغت نهايتها وغاية تمامها، قول الله تعالى: <الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا>[40]، فلا يستطيع أحد أبداً أن يأتي بجديد في أمر الهداية الإلهية بعد محمد بن عبد الله (ص).

وتعتبر خاتمية الرسالة الإسلامية المحمدية وخلودها من ضروريات الإسلام الحنيف الثابتة ثبوتاً قطعياً بنص الكتاب الكريم (القرآن) والسنة الشريفة المتواترة التي عليها إجماع المسلمين، فيجب على كل مسلم الاعتقاد بها والعمل بمقتضاها، ولا يلتفت ولا ينظر في كل دعوى للنبوة أو الرسالة بعده، وهي حقيقة ثابتة علمياً لدى الباحثين المتخصصين في الدراسات الإسلامية، بالرجوع إلى المصادر الإسلامية المعتبرة الكتاب والسنة، والاعتماد على قواعد البحث العلمي والمنطق السليم، وعليه: جاء في الحديث النبوي الشريف: «وحلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة»[41] وتتطلب خاتمية الرسالة أموراً رئيسية عديدة، منها:

  1. توفر الظروف والشروط المناسبة التي تمكّن النبي وخلفائه المعصومون (عليهم السلام) من تبليغ الرسالة الإلهية لجميع الناس في العالم؛ لأنّ الغاية من بعثة الأنبياء (عليهم السلام) هي إيصال الرسالة الإلهية إلى الناس، من أجل إرشادهم وهدايتهم إلى ما فيه صلاحهم وخيرهم وسعادتهم في الدارين الدنيا والآخرة وإقامة الحجة عليهم.
  2. أن تستجيب الرسالة لجميع الاحتياجات الضرورية للناس الفردية والمجتمعية، المادية والمعنوية، الدنيوية والأخروية، وفي مختلف الظروف والأحوال المألوفة والاستثنائية، حتى نهاية التاريخ وانقضاء حياة الإنسان على وجه الأرض، يقول العلّامة الشيخ محمد جواد مغنية: «وما من شيء يريد الله سبحانه وتعالى أن يبلغه إلى عباده، إلا وهو موجود في القرآن الكريم، أي: من شيء يتصل بوظيفة الأنبياء واختصاصهم في هداية الخلق وإرشادهم إلى مصالحهم التي تضمن لهم سعادة الدارين، ولا وسيلة لإثبات هذه الحقيقة إلّا بالتجربة التي لا تقبل الشك والجدال، ونعني بها أن يدرس أهل الاختصاص القرآن دراسة علمية شاملة من ألفه إلى يائه، ثم يقارنون بينه وبين غيره من كتب الأديان، ونحن على يقين بأنهم ينتهون من ذلك إلى أمرين:

الأول: أنّ القرآن ببلاغته وعقيدته وشريعته يفوق جميع كتب الأديان.

الثاني: أنهم يجدون في القرآن جميع الأصول والمبادئ التي تتجاوب مع حاجات الناس ومصالحهم وتقدمهم إلى قيام الساعة، فما من نهضة علمية أو ثورة تحرّرية، إلّا ويدعو إليها القرآن ويباركها، وما من تشريع يحتاج إليه الناس في دور من أدوار التاريخ إلّا ويستطيع أهل العلم والاجتهاد أن يستخرجوه من أحد أصول القرآن ومبادئه»[42].

  • وجود طريقة وأسلوب ووسيلة ناجحة للحفاظ على سلامة الرسالة وصيانتها من التحريف والتغيير والتبديل، والمحافظة على المصالح الجوهرية للأمة وحقوق أبنائها، وعدم السماح لأحد من الفراعنة من التعدي عليها وانتهاكها، ولم يكتفِ التنزيل (القرآن الكريم) بالتأكيد على خاتمية الرسالة الإسلامية المحمدية الأصيلة وخلودها، بل أكّد على انتصارها المطلق وظهورها التام الكامل النظري والعملي على جميع الأديان السماوية المنسوخة، مثل: المسيحية واليهودية، والأديان الوضعية، مثل: البوذية والكنفوشية والهندوسية والزرادشتية والبهائية وغيرها، وجميع الفلسفات والسياسات والأنظمة البشرية، مثل: الماركسية والوجودية والبرجماتية والاشتراكية والرأسمالية والليبرالية والعلمانية وغيرها، وذلك كحتمية تاريخية تتوّج الصراع بين مختلف القوى على وجه الأرض في نهاية المسيرة التاريخية للإنسان، قول الله تعالى: <هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ>[43]، وقول الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا>[44] وتتضمن الآيات المباركة النقاط التالية:
  • إنّ الله (عز وجل) أرسل رسوله محمد (ص) بالقرآن الكريم وبالدين الإلهي الحق؛ ليجعله بما هو موافق للعقل والمنطق والفطرة وأصل الخلقة والتكوين والطبع السليم، في جميع عقائده ومعارفه وأخلاقه وتشريعاته وأهدافه الإنسانية السامية ومقاصده النبيلة التي تخدم خير الإنسانية وصلاحها، واستنهاضه للعقل والفكر بما اشتمل عليه من الحجج والبراهين والبينات؛ ليجعله غالباً منتصراً ومهيمناً على جميع الأديان السماوية المنسوخة والوضعية الباطلة، والفلسفات والسياسات والأنظمة البشرية الضالّة شرقيها وغربيها، إذ سينكشف الواقع بكل جلاء، بحسب العقل والمنطق، وستظهر الحقيقة كما هي عليه، وتسقط المؤامرات والدسائس، وتنهار السدود، وتزول الموانع والعقبات ويفشل الإعلام المُضَلّل، وتجفُّ الأقلام البائسة، وينتصر الحق والعقل على الباطل والقوة، ويبدد نور العلم والإيمان، وظلام الكفر والجهل، وهذه حتمية تاريخية كائنة لا محالة، ولا يمكن أن تتخلّف عن الحدوث.
  • إنّ تلك الحتمية التاريخية العظيمة لا تأتي على حساب ما يتمتع به الإنسان من حرية الإرادة والاختيار ولا تأتي بشكل تلقائي وبدون عناء وتعب، بل تأتي من وراء اختيارات الإنسان وصراعاته، فهي ترتبط بحرية الإرادة والاختيار، وبالعمل الحثيث والجهاد العظيم في سبيل الله (عز وجل)، وتقديم المؤمنين وقوى الخير والإصلاح والتضحيات الجسيمة في صراعهم مع قوى الشر والضلال والفساد، وتأتي رغماً عن المشركين وجهودهم الكبيرة ومكرهم ودسائسهم لإطفاء نور الحق والعقل والمنطق، وتحريك الأهواء والشهوات لإغواء الناس وتضليلهم واعتماد منطق القوة؛ لفرض إرادتهم ومصالحهم الأنانية وغير المشروعة.
  • يجب على المؤمنين الكرام أن يفهموا الحقائق السابقة ويستوعبوها ويعملوا بمقتضاها، فقد تعلّقت الإرادة الإلهية بنصرة الدين الإلهي الحق، ولن تفلح جهود المشركين وكيدهم مهما عظم في إخماد نار الحق وإطفاء نوره، وكفى بالله وكيلاً وشاهداً على إنجاز هذا الوعد، فهو غالب على أمره. ويجب على المؤمنين الكرام النهوض بمسؤولياتهم الدينية والإنسانية والتاريخية، والتفكير بعمق، والتخطيط بدقة، ووضع البرامج الواقعية الفعّالة، والعمل الحثيث بجد، والتضحية من أجل حياة طيبة أفضل وأكمل، ومن أجل استنجاز ذلك الوعد الإلهي العظيم، ولا يجوز لهم اليأس أو الوهن أو التراخي أو الكسل أو القعود عن مسؤولياتهم وأداء التكليف الإلهي عليهم ومقارعة الظالمين حتى النصر.
مقوّمات الخاتمية

ولكي يكون أمر خاتمية الرسالة الإسلامية المحمدية موافقاً للحكمة الإلهية البالغة ومقاصد الرسالة وأهدافها وغاياتها، يجب أن تتوفر معه وتقترن به مقوّمات رئيسية عديدة هي من لوازم خاتمية الرسالة ومقتضياتها الأساسية، بحيث تتكفل بحفظ الرسالة وقيام الحجة عليها وتحقيق أهدافها وغاياتها، وبدونها لا تكون خاتمية الرسالة موافقة للحكمة الإلهية البالغة، وتكون الرسالة عاجزة وقاصرة عن بلوغ أهدافها وغايتها، وعلى رأسها إيصال الإنسان إلى كماله الممكن اللائق به والمقدّر له، وتحصيل سعادته الحقيقية الكاملة في الدارين الدنيا والآخرة، والمقوّمات هي:

  1. حفظ الكتاب السماوي المنزل (القرآن الكريم) من التحريف والتبديل والتغيير والزيادة والنقصان، قول الله تعالى: <إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ>[45]، وقول الله تعالى: <إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ 41 لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ>[46]، وذلك للأسباب التالية:
  2. لأنه المعجزة الخالدة الدالة على صدق نبوة النبي محمد (ص) وصدق رسالته، حتى تتم الحجة به على جميع الأجيال في جميع العصور في جميع العالم حتى تقوم الساعة ويتوقف التاريخ وتنتهي الحياة الإنسانية على وجه الأرض، وهذا مما تميّزت به الرسالة الإسلامية المحمدية من بين جميع الرسالات السماوية؛ لأن الرسالة الإسلامية المحمدية خالدة، ويجب أن تكون المعجزة الدالة على صدقها خالدة كذلك، والرسالات السماوية السابقة جميعها محددة بدورة رسالية في مدة زمنية محدّدة تنسخها رسالة جديدة لاحقة، ولازم ذلك أن تكون المعجزة الدالة على صدقها محدودة بزمان معين كذلك، فلا تكون الرسالة مؤقتة ومعجزة خالدة، ولا تكون الرسالة خالدة ومعجزتها محدودة بزمان معين.
  3. لأنّ الكتاب هو المرجع الأساسي للرسالة، قول الله تعالى: <قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ 15 يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ>[47]، وقول الله تعالى: <كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ>[48]، أي: أنّ الله تبارك وتعالى قد أنزل القرآن الكريم وجعله نوراً إلهياً تستضيئ به النفوس في ظلمات الجهالة والضلال، وجعله فرقاناً يفرق به بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، وبين الصلاح والفساد، وبين النافع والضار، وبين الحلال والحرام، وبين طريق النجات وطريق الهلاك، وبين طريق السعادة وطريق الشقاء، وعصمه من الخطأ.

وجعله هادياً ومرشداً يهدي بصائر الناس عموماً، والمتقين الراغبين في مرضات الله سبحانه وتعالى وطلب الحق لوجه الحق، لا لعصبية طائفية أو مذهبية أو نحو ذلك خصوصاً، ويرشدهم إلى صراط مستقيم وللتي هي أقوم، ويخرجهم من ظلمات الجهل والشك والكفر والمعاصي والتفرق، إلى نور العلم واليقين والإيمان والطاعة والوحدة الدينية والإتحاد بإذن الله (عز وجل) وتوفيقه وتسديده وتأييده، ويهديهم إلى سبيل السلام والأمن الكامل الشامل لجميع الأفراد والشعوب، المادي والروحي، وينمي الحياة ويجعلها متعة وهناء، ويسلم صاحبه من العذاب والشقاء والتعاسة والضيق والضنك في الدارين الدنيا والآخرة، وهو سبيل الإيمان والعلم بالحق والعمل به، إذ لا ينفك صلاح الإنسان وكماله ومصلحته في دورة الحياة الكاملة العرضية في امتداد المكان والجغرافيا، والطولية في امتداد الزمان والتاريخ وسعادته الحقيقية عن العلم بالحقائق والسنن والعمل بمقتضاها.

ونظمت آياته نظماً محكماً من جميع الجهات، وأتقنت وأحسنت فناً وعلماً، فلا نقص فيها ولا ضعف ولا لهو ولا خلل في لفظها ولا في معناها، ولا انحراف أو ميل عن الحقيقة والصواب، ولا يتطرق إليها الفساد ولا يدخلها التناقض ولا تقبل النقض والهدم ولا شيء من نحو ذلك، وبُيّنت أكمل وأتمّ تبيين، وفُصّلت آية بعد آية، ودليلاً بعد دليل، وأمراً ونهياً، وترغيباً وترهيباً ونحو ذلك، تفصيلاً واضحاً كاملاً شافياً كاشفاً لكل لبس أو خلط أو شبهة أو مغالطة أو نحو ذلك؛ لأنه صادر من لدن حكيم في أفعاله، يُدبّر الأمور كلها على أساس العلم والحكمة والعدل ويضع الأشياء في مواضعها، وينزلها في منازلها، وخبير بكيفيات الأمور وبمصالح العباد وبجميع حاجاتهم الفردية والمجتمعية، المادية والمعنوية، القريبة والبعيدة، المألوفة والاستثنائية، الدنيوية والأخروية ونحو ذلك، فلا يخبر إلّا بالصدق والحق، ولا يأمر إلّا بالطيبات والعدل والإحسان، ولا ينهى إلّا عن الخبائث والفواحش والمنكر والبغي والمضار المادية والمعنوية، الظاهرية والباطنية، فلا مثيل له بين الكتب قاطبة في جميع المطالب والجهات في الفصاحة والجزالة والبيان والبلاغة، وفي العلوم النظرية والعلمية، إذ اشتمل على المعارف الإلهية الحقة والمطالب الروحية، وتهذيب الأعمال الظاهرة (الفقه) وتهذيب الأحوال الباطنة (الأخلاق والمجاهدة) والمواعظ (الترغيب والترهيب) والعبر والسيرة ونحو ذلك.

وقد أجمع المسلمون قاطبة على وجوب الرجوع إلى القرآن الكريم في جميع ما يختلفون فيه، وأن ينتهي كل رأي ديني إلى القرآن، في الحديث النبوي الشريف: «عليكم بالقرآن فاتخذوه إماماً وقائداً»[49].

ولأنّ في القرآن الكريم المحكم والمتشابه، ولأنّ جميع الآيات المحكمة والمتشابهة لها تأويل، ولأنّ لآياته بالضرورة مراتب مختلفة بالمعنى مترتبة طولاً، فقد قال علماء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام): إنّ القرآن لا يهتدي به فعلاً، حقيقة وواقعاً بدون قيّم عالم بجميعه علماً لَدُنيّاً يقينياً، وهم المطهرون الراسخون في العلم من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) الذين طهرهم الله تبارك وتعالى من الرجس، وقرنهم بالقرآن، فلا يفترقان في العلم والعمل، قول الله تعالى: <إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ ۖ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ>[50].

وقد أجمع المسلمون قاطبة على القول بصيانة القرآن من التحريف والتغيير والتبديل، والأقوال بالتحريف عند أتباع المذاهب الإسلامية هي أقوال شاذة لا يعتدُّ بها، ويجب على المسلمين التركيز على إجماعهم بشأن صيانة القرآن من التحريف والتغيير والتبديل والزيادة والنقصان، وإبرازه وإظهاره إلى العالم، وليس اهتمام كل طائفة بإظهار ما يوجد عند الطوائف الأخرى من أقوال شاذة بالتحريف من أجل التعريض بهم، فيظهر للعالم على خلاف الحقيقة، وكأن المسلمين مجتمعين على القول بالتحريف.

والتركيز على الإجماع بصيانة القرآن من التحريف للأسباب الوجيهة والمنطقية التالية:

  • لأنّ القول بصيانة القرآن من التحريف هو الموافق للكتاب الكريم (القرآن) وجميع المذاهب الإسلامية تعتقد به، والأقوال بالتحريف أقوال شاذة عند الجميع، والأحاديث فيه إما موضوعة، وإما لا تدل على التحريف في نفس الكتاب، وإنما في فهمه وتأويله.
  • أنّ مصلحة الدين والأمّة تكمن في تعزيز القول بصيانة الكتاب من التحريف، والترويج للأقوال الشاذة بالتحريف مضرٌ بالدين والأمة، ويدل على الجهل والتعصب الأعمى وضعف البصيرة والوقوع تحت تأثيرات الأهواء والشيطان الرجيم والدوافع النفسية المريضة المنحرفة.
  • وجود الإمام المعصوم: الذي يتلقى العلم اللّدُنّي اليقيني الموهوب له من الله تبارك وتعالى، قول الله تعالى: <فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا>[51] الذي يكفل وجوده المحافظة على الرسالة الإسلامية المحمدية الأصيلة من التحريف والتغيير والتبديل، وتنفيذ التشريعات الإلهية وتطبيقها بشكل صحيح، والمحافظة على كافة المصالح والحقوق الرئيسية والجوهرية للأمة وصيانتها من الضياع والانتهاك؛ لأنّ الخاتمية تفيد توّقف الوحي عن النزول وختم النبوة والرسالة، إلّا أنّ وظائف الرسول الأخرى، مثل: بيان تفاصيل ما اشتمل القرآن على إجماله من المعارف والقيم والأحكام والسيرة والمواعظ بكل أبعادها وخصوصياتها، بدون أن يقع تحت سطوة الجهل والخطأ والغفلة والدوافع النفسية والأهواء والرغبات والمصالح الخاصة ونحوها من الآفات الفكرية والروحية والسلوكية، وتربية المؤمنين المؤهلين وإيصالهم إلى كمالهم الممكن المقدّر لهم واللائق بهم حسب قابلياتهم واستعداداتهم الفكرية والروحية، وقيادة الأمة الإسلامية القيادة الرسالية الرشيدة والتطبيق الصحيح للرسالة والتشريعات الإلهية وتنفيذها على مستوى الأفراد والأمة والدولة بالشكل الذي يحقق مقاصدها والغرض منها ونحو ذلك؛ لأنّ الهدف من خلق الإنسان في الإرادة الإلهية حين خلق الإنسان وتكوينه، هو إيصاله إلى كماله الممكن المقدّر له واللائق به معرفياً وتربوياً وحضارياً، وتحصيل سعادته الحقيقية الكاملة في الدارين الدنيا والآخرة، الأمر الذي يتوقف على وجود الوحي الإلهي والعلم اللَدُنّي اليقيني، والعمل بالرسالة وكافة تطبيقاتها الصحيحة في جميع الجوانب وكافة شؤون الحياة الخاصة والعامة، الفردية والمجتمعية.

ولأنّ الغرض من الرسالة الإسلامية المحمدية الخاتمة ليس تعريف الأمة الإسلامية بالدين الإلهي الحق في خصوص عصر صاحب الرسالة، بل تعريف كل الأمة على امتداد التاريخ وعرض الجغرافيا في كل العصور، مما يتطلب تمامية طرق التعريف وتمامية الوسائل وسلامة التطبيق والعمل بالتشريعات على مستوى الأمة والدولة، وليس على مستوى الأفراد فقط.

ولأنّ الدين الإلهي الحق لا يمكن أن يستغني عن تلك المهام الجوهرية النظرية والعملية، أو أن يسمح بتولّي غير المؤهلين لها من الطواغيت الضالين والفراعنة المتجبرين والحكام المستبدين الظلمة والمترفين المفسدين المارقين ونحوهم، لما يترتب على تولّيهم لها من المفاسد في الدين والدنيا وتعطيل الدين عن التطبيق والعمل به وفصله عن واقع الحياة ووقوع المظالم العظيمة الفردية والمجتمعية، الأمر الذي يخالف حقيقة الرسالة وأهدافها وغاياتها ومقاصدها، ويخالف حقيقة التوحيد، لا سيّما توحيد الربوبية والحاكمية والطاعة التي تفرض تطبيق الدين الإلهي والعمل به في جميع الأبعاد والجوانب والشؤون العامة والخاصة في الحياة.

ويَدلُّ حديث المنزلة على مجموع ما سبق ذكره، وهو حديث نبوي صحيح ومتواتر عند جميع المسلمين، وقد ذكر في موسوعاتهم للحديث، قول الرسول الأعظم الأكرم (ص) مخاطباً الإمام علي بن أبي طالب (ع): «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلّا أنه ليس بعدي نبي»[52] وغيرها من المصادر المعتبرة عند المدرستين، والحديث يفيد أن علياً (ع) شريكٌ للنبي (ص) في التبليغ بالرسالة وقيادة الأمة وبقية المهام العامة، مثل: القضاء ونحوه، كما كان الحال بالنسبة إلى هارون مع موسى (عليهم السلام) إلّا أنّ علياً ليس نبياً بالضرورة وكما هو صريح الحديث الشريف.

وبناءً على ما سبق: فقد نصب الله (عز وجل) الإمام المعصوم الذي يخلف الرسول الأعظم الأكرم (ص) في تأدية مهامه الرسالية الضرورية في الأمة بعده، وفرض على كل مسلم أن يعرف إمام زمانه وأن يتبعه ويطيعه في جميع ما يأمر به وينهى عنه في أمور الدين والدنيا، ويقتدي به في حياته، وفي الحديث النبوي الشريف: «من مات ولم يعرف إمام زمانه، مات ميتة جاهلية»[53].

  • إقامة دولة العدل الإلهي العالمية: إذ بدون الدولة لا يتحقق كمال العمل بالدين، ويتم الفصل بين الدين وواقع الحياة، وإتاحة الفرصة للطواغيت والفراعنة والحكام المستبدين بفرض إرادتهم على الناس وظلمهم والجور عليهم، وذلك بالنظر إلى نفوذ الدولة وسط سيطرتها على الناس وتدبير كافة شؤونهم والتأثير فيهم.

وعليه: فقد ذهب الفقهاء إلى القول بوجوب إقامة الدولة الإسلامية متى سمحت الظروف بذلك في أي قطر أو أي عصر وزمان، ولا يجوز تعطيل أي حكم شرعي اختياراً، فإن مقتضى تشريع الحكم مطلقاً، بقاؤه مستمراً، إلّا إذا كان الحكم لا إطلاق له يبقيه مستمراً، كأن ينسخ الحكم، أو قيد بقيود أو شروط غير متحققة، كأن يُقيّد بزمن الحضور أو وجود الفقيه المبسوط اليد، أو كان من وطائف الحكومة وليس الأفراد، فيكون العمل به مع وجود الحكومة وليس بدونها، مثل: إقامة الحدود الشرعية.

وقد تكفل الله (عز وجل) بقيام الدولة الإسلامية العادلة العالمية (دولة العدل الإلهي العالمية) في آخر الزمان؛ لأن بها يتحقق كمال الظهور والانتصار والخاتمية، قول الله تعالى: <هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ>[54] وقول الله تعالى: <قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ>[55]، وقول الله تعالى: <وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ>[56]، وقول الله تعالى: <وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ>[57]، وقول الله تعالى: <وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ>[58] وغيرها، وسوف يتحقق ذلك في آخر الزمان بإجماع المسلمين على يد الإمام المهدي (عج)، في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (ع) في تفسير الآية 33 من سورة التوبة، أنه قال: «والله ما نزل تأويلها بعد، ولا ينزل تأويلها حتى يخرج القائم، فإذا خرج القائم لم يبقَ كافر بالله العظيم»[59]، وفي الحديث النبوي الشريف: «لو لم يبقَ من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملأها (الأرض) عدلاً كما ملئت جوراً»[60]، وفي الحديث النبوي أيضاً: «إن علياً إمام أمتي من بعدي، ومن وُلدِه القائم المنتظر، الذي إذا ظهر ملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً»[61]، وقد ثبت بالتجربة التاريخية أموراً مهمة عديدة، منها:

  • إنّ إبعاد الإمام المعصوم عن قيادة الأمة أدّى إلى التنافس والتناحر على السلطة الدينية والسياسية بين الطواغيت الضالين والفراعنة المتجبرين والحكام المستبدين والمترفين الفاسدين والإنتهازيين النفعيين المارقين، وظهور الأنظمة الدكتاتورية والحكومات المستبدة التي فرضت سيطرتها وهيمنتها على الأمة في العالم الإسلامي على امتداد التاريخ وعرض الجغرافيا.
  • تعطيل العمل بالإسلام وفصله عن واقع الحياة وقضايا المسلمين، وانتشار الفساد والتحلّل الأخلاقي والانحطاط الحضاري والضعف والتخلّف والتبعية للأجانب ثقافياً وسياسياً وعسكرياً وأمنياً واقتصادياً، وفقدت الرسالة الإسلامية فرصتها في هداية الناس وإرشادهم وتوجيههم، وفقدت الأمة الإسلامية اعتدالها ووسطيتها واستقامتها ورشدها واستقلالها وقياديتها.
  • اختلف المسلمون في دينهم، وكثرت بينهم المذاهب والمدارس الكلامية، وتفرّقوا إلى طوائف وأحزاب متحاربة متناحرة مختلفة في الدين والسياسة، يُكَفّر بعضهم بعضاً ويضرب بعضهم رقاب بعض، فذهبت حرمة دم المسلم وحياته وعرضه وماله أدراج الرياح، وصار الجميع أسرى التعصب الأعمى المذهبي والطائفي والعرقي، وأسرى المصالح السياسية والاقتصادية، والصراع على زعامة المسلمين، ودخل في الصراع والتنافس على الزعامة الدينية والسياسية للمسلمين كل مَنْ هبّ ودبّ، الشريف والوضيع، المؤهل وغير المؤهل، من يستحق ومن لا يستحق، وكثر الوضع للحديث والكذب على رسول الله (ص) وعلى أهل بيته (عليهم السلام) والاجتهاد بغير الأهلية، واتسعت رقعة الاختلاف في الدين وكثرت الشبهات والمغالطات في الدين، وانتشرت الفتن ونحو ذلك من المهالك والمفاسد على خلاف ما أمرهم الله (عز وجل) به وأمرهم الرسول الأعظم الأكرم (ص) قول الله تعالى: <وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ>[62]، وفي الحديث النبوي الشريف: «لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض»[63].

وقد ثبت بالحسّ والتجربة: أنّ الإختلافات والصراعات يترتب عليها الوهن والضعف والتخلّف والتبعية في الأمة، وتُعدُّ من أهم الأسباب التي تحول دون تقدّم الرسالات وانتشارها، ووصول الحركات الإصلاحية والثورية إلى أهدافها وغاياتها، ولهذا حذّر القرآن الكريم الأمة المسلمة منها أشد التحذير، ونهى عنها أشد النهي، قول الله تعالى: <وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ>[64]، وقول الله تعالى: <إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ۚ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ>[65]، وهذا يتطلب من المسلمين التوقّف والتأمل في أحوالهم، ومعرفة مدى الخطر في الدين والدنيا والآخرة لما هم عليه من الخلاف والشقاق والتناحر، وأن يتحلّوا بالصدق والإخلاص والتجرّد الكامل والنزاهة والموضوعية التامة في البحث عن الحقائق في مسائل الاختلاف الرئيسية بعيداً عن التعصب الأعمى والأهواء الشيطانية والدوافع النفسية، وأن يتعرّفوا على الأسباب الحقيقية للصراعات الدامية بينهم، ويعالجوها بموضوعية ويتصرّفوا إزائها بجد ومسؤولية فائقة.

وبالنظر إلى خطورة الاختلاف ونتائجه الكارثية على الدين وعلى واقع الأمة ومستقبلها في الدارين الدنيا والآخرة، ولشدة التحذير منه، فإنّ ذلك يقتضي توفّر أمور عديدة، منها:

  • وضوح الحجة وجلاؤها بنحو لا يقبل الاشتباه واللبس، ولا يحتمل التأويل والاجتهاد والتشكيك، ولا تستطيع المغالطات التعتيم عليه وتضييع معالمه وطمس آثاره، قول الله تعالى: <رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا>[66]، وفي الحديث النبوي الشريف: «قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلّا هالك»[67].
  • إيجاد عامل الوحدة الدينية وكفايته من لدن العليم الخبير، وقد تمثّل بحق وحقيقة في الثقلين كتاب الله والعترة الطاهرة، قول الرسول الأعظم الأكرم (ص): «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما»[68] وهو حديث صحيح ومتواتر في المدرستين: مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ومدرسة الخلفاء.

وبناءً على ما سبق نتوصل إلى النتائج المهمة التالية:

  1. إنّ التفرّق والاختلاف ليس بسبب عدم وضوح الحجة أو عدم كفاية الوسيلة، وإنما بسبب المخالفة والمعصية بغياً بعد العلم، قول الله تعالى: <كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۖ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ>[69].
  2. لا يمكن إصلاح الوضع والخروج من مأزق الاختلاف في الدين والتفرّق والعودة إلى الوحدة الفكرية والروحية والعملية للأمة إلّا بوجود قيادة رشيدة لديها العلم اللَدُنّي اليقيني الكامل بالدين، الموهوب لها من الله تبارك وتعالى، ويجمع على شرعيتها ووجوب الرجوع إليها في أمور الدين والدنيا والآخرة، وحرمة مخالفتها والخروج عليها، ولا يجوز الاجتهاد في قبال ما تأتي به، وليس هو إلّا الإمام المعصوم المنصوص عليه، كما يدلُّ على ذلك حديث الثقلين، وهو حديث صحيح ومتواتر عند جميع المسلمين، وقد رواه مسلم والحاكم في المستدرك والترمذي وأحمد وأبي نعيم والبيهقي والمتقي الهندي وابن حجر وغيرهم عن الرسول الأعظم الأكرم (ص) ولهذا الحديث طرق كثيرة، ويزيد رواته على عشرين صحابياً، وهو يدلّ على أمور رئيسية عديدة، منها:
  3. عصمة أهل البيت (عليهم السلام) من الضلال، وملازمتهم للتقوى ولكتاب الله علماً وعملاً، وعدم مفارقتهم له في شيء من ذلك.
  4. تفرّد أهل البيت (عليهم السلام) بالعلم اليقيني الكامل بكل ما جاء به الكتاب (القرآن الكريم) من المعارف الإلهية الحقة والأخلاق الفاضلة والأحكام والمواعظ والسيرة وسائر العلوم المذكورة في القرآن الكريم صراحة أو إشارة وتلميحاً، لا يجاريهم في ذلك أحد من الصحابة أو التابعين أو غيرهم من العلماء، في الحديث النبوي الشريف: «لا تتقدموهما (يعني الكتاب والعترة) فتهلكوا ولا تعلّموهما فإنهم أعلم منكم»[70].
  5. وجود متأهل منهم في كل زمان من غير انقطاع للتمسك به إلى يوم القيامة، في الحديث النبوي الشريف: «في كل خلف من أمتي عدول من أهل بيتي ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ألا وإن أئمتكم وفدكم إلى الله تعالى فانظروا مَنْ توفدون»[71]
  6. إنّ التمسك بالكتاب والعترة ورعاية حقوقهما واتباعهما والتعلّم منهما أمان للناس من الضلال والتفرق والاختلاف في الدين والعذاب، ومخالفتهما هو الطريق المؤدّي إلى كلِّ ما يخاف منه ويحذر، في الحديث النبوي الشريف: «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمتي من الإختلاف»[72]، وفي الحديث النبوي أيضاً: «مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق»[73].

وما سبق يدلّ قطعاً على إمامة أهل البيت (عليهم السلام) بعد الرسول الأعظم الأكرم (ص) بلا فصل ولا انقطاع، حتى قيل: لو لم يكن للشيعة دليل على خلافة أهل البيت (عليهم السلام) وإمامتهم سوى حديث الثقلين لكفاهم ذلك حجة على مخالفيهم.

ولا يغني وجود الكتاب والسنة عن إمامة أهل البيت (عليهم السلام)؛ لأنّ الاختلاف بين المسلمين واقع في فهم الكتاب والسنة، بالإضافة إلى ما دخل السنة من الوضع والكذب والتحريف والتغيير والتبديل، وعليه: لا تستقيم الخاتمية، ولا توافق الحكمة الإلهية البالغة، ولا يتحقق أهداف الرسالة وغاياتها ومقاصدها إلا بتعيين الائمة المعصومين للخلافة بعد النبي (ص).

بقي أن نشير إلى أنّ خاتمية الرسالة الإسلامية المحمدية تدلُّ على أنّ الرسول الأعظم الأكرم (ص) هو أكمل الأنبياء الكرام (عليهم السلام) وأفضلهم قاطبة؛ لأنه يحمل الرسالة الخاتمة الكاملة والكتاب الكامل وأحاط بهما علماً وعملاً، وقد جمع كل صفات الكمال البشري وبلغ الغاية منها والنهاية القصوى والمرتبة الأعلى بحيث لا يجاريه في ذلك أحد غيره، وأنّ الأئمة المطهرين من أهل بيته (عليهم السلام) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، هم أفضل من جميع الأنبياء الكرام السابقين (عليهم السلام)؛ لأنهم لا يفارقون القرآن في العلم والعمل، كما يدلّ على ذلك حديث الثقلين المتواتر عند جميع المسلمين؛ ولأنّ الفضل يدور مدار العلم والعمل، فأكمل الناس علماً وعملاً هو أفضل الناس، ومن يعلم بجميع الكتاب الإلهي الكامل ويعمل به، فهو أفضل من الذين ليس لهم مثل هذا العلم والعمل، وهذا في غاية الوضوح والجلاء لكل ذي بصيرة وإيمان.

ولا شك ولا ريب أنّ خاتمية الرسالة الإسلامية المحمدية وخلودها، من أبرز مظاهر الرحمة الإلهية وتجلياتها، ومن أبرز فوائدها:

  • تراكم العلوم والخبرات بالرسالة وتطبيقاتها، مما يساهم في الإسراع في وتيرة التكامل المعرفي والتربوي والحضاري في السيرة التاريخية للأمة الإسلامية والبشرية.
  • زيادة ثقة الأمة بنفسها، والتوجه بكامل قوتها وطاقتها نحو غايتها الحضارية القصوى وهو الظهور المبارك للإمام المهدي (عج) والسعي عن بصيرة وتخطيط لتوفير شروط الظهور المبارك الفكرية والروحية والعملية حتى يتحقق الظهور، ويتحقق الانتصار للدين الإلهي الحق على الدين كله، وتتحقق الوراثة للأرض وإقامة دولة العدل الإلهي العالمية التي هي آخر الدول وأعظمها في مسيرة البشرية كلها، وتتحقق فيها آمال وأحلام جميع الأنبياء الكرام والأوصياء المطهرين (عليهم السلام) والمؤمنين الصالحين والعباد المصلحين، وتظهر ثمرة جهادهم وتضحياتهم، وتتكامل فيها العقول وتصفوا النفوس، وتبلغ الحضارة الإنسانية أوجها وتصل إلى الكمال الممكن المقدّر للحضارة الإنسانية على وجه الأرض.

  •  الأنبياء: 107-[1]
  •  الأعراف: 158-[2]
  •  سبأ: 28-[3]
  •  البقرة: 21-[4]
  •  الأعراف: 31-[5]
  •  الأنعام: 90-[6]
  •  الفرقان: 1-[7]
  •  آل عمران: 110-[8]
  •  المائدة: 19-[9]
  •  الحجر: 9-[10]
  •  فصلت: 41-42-[11]
  •  الأنعام: 89-[12]
  •  محمد: 38-[13]
  •  المائدة: 54-[14]
  •  التوبة: 33-[15]
  •   الفتح: 28-[16]
  •  الأعراف: 158-[17]
  •  البقرة: 21-[18]
  •  بحار الأنوار، جزء 1، صفحة 96-[19]
  •  الأعراف: 157-[20]
  •  الحجرات: 13-[21]
  •  الشوى: 41-43-[22]
  •  النحل: 89-[23]
  •  البقرة: 43-[24]
  •  البقرة: 183-[25]
  •  آل عمران: 97-[26]
  •  النساء: 77-[27]
  •  البقرة: 178-[28]
  •  النساء: 59-[29]
  •  النحل: 44-[30]
  •  الحشر: 7-[31]
  •  نور الثقلين، جزء 3، صفحة 74-[32]
  •  الكشاف، محمد جواد مغنية، جزء 6، صفحة 225-[33]
  •  الوسائل، جزء 18، صفحة 41، الباب:6، الحديث:52 -[34]
  •  الأحزاب: 40-[35]
  •  مسند الإمام أحمد، جزء 2، صفحة 412-[36]
  •  الاحتجاج، جزء 1، صفحة 220-[37]
  •  آل عمران: 50-[38]
  •  الروم: 30-[39]
  •  المائدة: 3-[40]
  •  الكافي، جزء 1، صفحة 58-[41]
  •  الكاشف، محمد جواد مغنية، جزء 6، صفحة 225-[42]
  •  التوبة: 33-[43]
  •  الفتج: 28-[44]
  •  الحجر: 9-[45]
  •  فصلت: 41-42-[46]
  •  المائدة: 15-16-[47]
  •  هود: 1-[48]
  •  كنز العمال، الحديث: 4029-[49]
  •  الرعد: 7-[50]
  •  الكهف: 65-[51]
  •  بحار الأنوار، جزء 37، صفحة 254 – صحيح البخاري، جزء 3، صفحة 58 – صحيح مسلم، جزء 2، صفحة 323-[52]
  •  ينابيع المودة، جزء 3، صفحة 372-[53]
  •  التوبة: 33-[54]
  •  الأعراف: 128-[55]
  •  الأنبياء: 105-[56]
  •  القصص: 5-[57]
  •  النور: 55-[58]
  •  نور الثقلين، جزء 2، صفحة 211-[59]
  •  صحيح الترمذي، جزء 2، صفحة 46-[60]
  •  ينابيع المودة، صفحة 494-[61]
  •  آل عمران: 103-[62]
  •  صحيح البخاري، جزء 1، صفحة 56-[63]
  •  آل عمران: 105-[64]
  •  الأنعام: 159-[65]
  •  النساء: 165-[66]
  •  مسند أحمد، جزء 4، صفحة 146-[67]
  •  صحيح الترمذي، جزء 2، صفحة 308-[68]
  •  البقرة: 213-[69]
  •  كنز العمال، جزء 1، صفحة 47-[70]
  •  ينابيع المودة، جزء 2، صفحة 114-[71]
  •  مستدرك الوسائل، جزء 3، صفحة 162-[72]
  •  مستدرك الوسائل، جزء 2، صفحة 373-[73]
المصدر
رسول الرحمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟