مواضيع

الاعتدال والوسطية

قول الله تعالى: <وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا>[1]

معنى العدل والاعتدال والعدالة

العدل: التسوية بين الشيئين، والقسط على السواء، والمساواة والإنصاف في المكافأة إن خيراً فخير وإن شراً فشر، ويقابله: الظلم، وهو التعدي على حقوق الآخرين وتجاوز الحد، والإحسان وهو أن يقابل الخير بأكثر منه، والشر بأقل منه.

ويطلق العدل على الاستقامة والميل إلى الحق، والأمر المتوسط بين الداني والعالي، وبين الإفراط والتفريط، والقصد في الأمور والإنسان الصالح.

وفلان عدل: مستقيم وصالح، يجعل الشهوة والغضب تحت سلطة العقل والدين، ويراعي حدود الشرع كلها في جميع شؤونه الخاصة والعامة ومقبول الشهادة.

والعدل أيضاً: المثل والنظير، والقيمة والفدية.

والعدل: من أسماء الله الحسنى، ومعناه: ذو العدل، وهو مصدر أقيم مقام الأصل، وقد وُصِفَ الله سبحانه وتعالى به للمبالغة ولكثرة عدله؛ ولأنه لا يجور في الحكم، ويضع كل شيء في موضعه الذي ينبغي أن يوضع فيه، كما يشهد بذلك خلق السماوات والأرض وخلق جميع الكائنات.

والعدل في علم الكلام: العلوم المتعلقة بتنزيه الذات الإلهية المقدسة عن فعل القبيح والإخلال بالواجب، حيث انقسم المتكلمون إلى قسمين:

  • العدلية: قالوا بأن بعض الأفعال حسنة بالذات، مثل: الصدق والوفاء بالعهد والعدل في الحكم، وبعضها قبيح بالذات، مثل: الكذب والخيانة والظلم، والواجب على الله سبحانه وتعالى بما هو كامل وحكيم مطلق أن يفعل الأفعال الحسنة بالذات، ويترك الأفعال القبيحة بالذات، لا بإلزام ملزم ولا بحساب محاسب، وإنما يكون حسن الشيء داعياً لفعله، وقبحه داعياً لتركه.
  • غير العدلية: قالوا لا حسن إلا ما حسّنه الشرع ولا قبيح إلّا ما قبّحه الشرع، وأنّ الله (عز وجل) يفعل ما يشاء؛ لأنّه لا حسن ولا قبيح في حقه، وأنه لا يُسأل عما يفعل.

والعدل والمعادلة: لفظ يقتضي معنى المساواة.

وقيل عن الفرق بين العَدل (بفتح العين) والعِدل (بكسر العين):

  • العَدل (بفتح العين) يستعمل فيما يدرك بالبصيرة، مثل: العدل في القانون والأحكام ونحوها.
  • العِدل (بكسر العين) يستعمل فيما يدرك بالحواس، مثل: العدل في الوزن والكيل والعدد ونحو ذلك.

وينقسم العدل إلى قسمين:

  • عدل مطلق: وهو العدل الذي يقتضي العقل حسنه، وهو ثابت لا يتغيّر بتغيّر الزمان والمكان ولا يوصف بالاعتداء بوجه، مثل: الإحسان إلى من أحسن إليك.
  • عدل نسبي: وهو العدل الذي يعرف كونه عدلاً بغيره، مثل: الشرع والقانون، ويمكن أن يتغير بتغير الزمان والمكان، مثل: حركة الصيد في يوم السبت والقصاص والتعزير والعقوبات الجنائية ونحوها.

والعدول: الميل، فيقال: عدل عن الطريق، أي: مال عنه وانصرف عنه.

والعدلية: العدول عن الحق إلى الباطل، أو الشك في الحق.

وبربهم يعدلون: يجعلون له عديلاً أو نظيراً يعادله، وقيل: يعدلون بأفعاله عنه، بأن ينسبونها إلى غيره، أو يعدلون بعبادتهم عنه، أي: يميلون بها عنه.

وعادَلَ بين الأمرين: نظر أيهما أرجح.

وعادل الأمر: ارتبك فيه، فلا يميل برأيه إلى أحد طرفي الترجيح: النفي أو الاثبات.

والعادل: الذي يضع كل شيء في موضعه، والذي لا يتعدّى على حقوق الآخرين، والإنسان الصالح المستقيم الملازم للتقوى.

والفريضة العادلة: القسمة على السهام المذكورة في الكتاب والسنة من غير جور، والفريضة غير المنسوخة، وما اتفق عليه المسلمون، والفريضة الواجبة، وتقابلها: النافلة.

والعديل: المثيل والنظير والمساوي في الوزن والعدد وسنوات العمر ونحو ذلك، ويطلق على زوج أخت الزوجة.

والاعتدال: الاستقامة والتوسط بين حالين، كم أو كيف أو تناسب، مثل: الاعتدال في الدين والتفكير، والاعتدال في الحرارة، والاعتدال في الطول ونحو ذلك، ويطلق على يومين في السنة، أول يوم في الربيع، وأول يوم في الخريف، إذ يعتدل بهما الليل والنهار.

والعدالة: الاستقامة والاعتدال والتوسط بين العالي والداني وبين الإفراط والتفريط.

والعدالة شرعاً: الصلاح والاستقامة على طريق الحق والدين وملازمة التقوى، والبعد عن كل ما هو محظور شرعاً باجتناب الكذب، والبعد عن الأفعال الخسيسة والدنيئة ونحو ذلك.

والعدالة في الفلسفة: المبدأ المثالي أو الطبيعي أو الوضعي الذي يحدّد معنى الحق، ويجب احترامه وتطبيقه، وله صور مختلفة عديدة، منها:

  • إذا كانت العدالة متعلقة بالشيء المطابق للحق، دلّت على الصواب والاستقامة والمساواة.
  • إذا كانت العدالة متعلقة بالفاعل، دلّت على إحدى الفضائل الرئيسية الأربع في قوى النفس: الحكمة في القوة الناطقة، والشجاعة في القوة الغضبية، والعفة في القوة الشهوية، والعدالة (المتوسط) في جميع القوى، وهي من أهم كمالات النفس البشرية.

وتنقسم فضيلة العدالة إلى قسمين:

  • العدالة الفردية: وهي ملكة (هيئة) راسخة في النفس، تصدر عنها الأفعال المطابقة للحق بتلقائية، وجوهرها الاعتدال والتوسط والاستقامة والتوازن والامتناع عن القبيح، والبعد عن الإخلال بالواجبات ونحو ذلك.
  • العدالة الاجتماعية: وهي قاعدة عملية موضوعية لضبظ علاقات الناس فيما بينهم، أي: ببعضهم البعض، وتعني: احترام حقوق الآخرين الطبيعية والوضعية والمكتسبة، مثل: حق الحياة، وحرية التعبير، وكفاية الأجور، وضمان الخدمات الأساسية كالتعلّم والصحة ونحوهما، وإعطاء كل ذي حق حقه والتقيد بالصالح العام وهي قاعدة شاملة لجميع الواجبات.

كما تنقسم العدالة الاجتماعية إلى قسمين:

  • عدالة المعارضة: وهي تنظم علاقات الأفراد ببعضهم البعض، وتتعلّق بتبادل المنافع والمصالح على أساس المساواة والانصاف، مثل: البيع والشراء.
  • عدالة التوزيع (القسمة): وتنظم علاقات الدولة بالأفراد، وتتعلّق بتوزيع الثروة والوظائف ونحوها بحسب الاستحقاق بحيث تكون نسبة كل واحد كنسبة غيره ممّن هم في مرتبته، ووضع الشخص المناسب في المكان (الموضع) المناسب الذي ينبغي أن يوضع فيه، بدل المحسوبية والقبلية ونحوها.

العلاقة بين العدالة والمحبة: العدالة توجب التقيد بالحق، والمحبة توجب الإحسان، والإنسان لا يحتاج إلى العدالة إلا إذا فاته شرف المحبة والإحسان، ولوكان الناس متحابين؛ لتناصفوا ولم يقع بينهم خلاف، وعليه فواجبات العدالة أضيق من واجبات المحبة، والمحبة أساس الأفعال العادلة.

معنى الوسط والوسطية

الوسط: القسم الذي يقع بين طرفين متساويا القدر، ويقال: فيما له طرفان مذمومان، مثل: الحكمة وسط بين الجربزة والبله، والشجاعة وسط بين التهور والجبن، والكرم وسط بين التبذير والبخل، ونحو ذلك، فالوسط هو أبعد نقطة عن الطرفين المذمومين.

وقد يقال فيما له طرف محمود وآخر مذموم، مثل: الوسط بين الشريف والخسيس، وبين العالي والداني، وبين الجيد والرديء، ونحو ذلك.

ويطلق على المعتدل والخيار من كل شيء والصلاح والعدل والاستواء والاستقامة، وفلان من وسط قومه: من خيارهم، أو وسط بين العالي والداني، أو بين الغني والفقير ونحو ذلك.

وقيل: إن أضيف الوسط إلى ما هو متصل كالأجسام، أو ما هو منفصل كالأعداد يكون معياراً لتعيين الطرفين، وإنُ أضيف إلى المعنويات يكون معياراً لتمييز مرتبتي الإفراط والتفريط.

والوسط: ظرف بمعنى: بين، مثل: وسط الدار، ووسط القوم.

والوسط: المجال والبئية مثل: الوسط الفني والوسط الإعلامي والوسط السياسي، ونحو ذلك.

الوسط عند علماء المنطق: الحدّ الأوسط الذي يربط الحدّ الأكبر بالحد الأصغر في القياس، مثل: الإنسان في القياس التالي:

كل إنسان فان – محمد إنسان = محمد فان

والأوسط: الأعدل والأفضل من كل شيء.

وفلان أوسط قومه: أفضلهم وأعدلهم.

والوسطية: الاعتدال والاستقامة والصلاح.

والوسيط: المتوسط بين الشيئين لتقريب أحدهما من الآخر، والمتوسط بين الخصمين أو المتعاقدين أو المتابعين ونحو ذلك، والمعتدل بين شيئين، والذي يقوم بالوساطة أو يصلح لتحقيقها.

والوساطة: عمل الوسيط، والشيء الذي يتم به الانتقال من طرف إلى آخر، مثل: توسط الحواس بين العقل والعالم الخارجي، وتوسّط الشفيع بين الشافع والمشفوع له، والتوسّط بين الشيء الذي تبدأ منه والشيء الذي تنتهي إليه، فيكون علّة للثاني أو شرطاً من شروط حدوثه.

معنى الشهادة والشهيد

الشهود والشهادة: الحضور مع المشاهدة بالبصر أو البصيرة، وقد يقال لمجرد الحضور، مثل: شهد الشهر. وقيل: الشهود أولى للحضور المجرّد، والشهادة أولى للحضور مع المشاهدة.

والمشهد: المحضر من الناس أو من غيرهم.

ومشاهد الحجج: مواطنه الشريفة التي تحضرها الملائكة والأبرار من الناس، وقيل: مواضع أداء المناسك.

والشهادة: القتل في سبيل الله (عز وجل) وإخبار المرء بما رأى أو إقراره بما علم عن يقين حصل له بمشاهدة بصرية، مثل: الشهادة على حادث عاينه أو بمشاهدة بصيرة، مثل: الشهادة على التوحيد والنبوة.

ويطلق على ما يستشهد به في إثبات الأمر، وعلى مجموع ما تدركه الحاوس الخمس، فيقال: شهادة الحواس. ويقال للحكم، مثل: شهد شاهد من أهلها. وللإقرار، مثل: شاهدين على أنفسهم بالكفر. والشهادة البيّنة: أقوال الشهود أمام الجهة القضائية. وشهد الله أنّه لا إله إلا هو: إيجاد ما يدلُّ على وحدانيته، وقيل: بَيَنَ وأعَلَمَ.

ونقد الشهادات: قواعد تمحيص الأخبار لمعرفة ما يتطرق إليها من الكذب والتوهم والتلبيس والتصنع.

وعالم الشهادة: عالم المادة والطبيعة، ويقابله: عالم الغيب.

والشاهد والشهيد: الحاضر، والذي يؤدي الشهادة، والدليل الذي يستشهد به في إثبات الأمر، والجزئي الذي تثبت به القاعدة العامة.

وشواهد الحق: حقائق الأكوان.

وشواهد الأشياء: اختلاف الأكوان باختلاف الأحوال والأوصاف والأفعال.

والشهيد: الذي يشاهد الشيء، والذي يُقتل في سبيل الله (عز وجل) مع إمام عادل، سميّ بذلك؛ لأنّ ملائكة الرحمة تشهده، وقيل: لأنه يشهد ما أعدّه الله تبارك وتعالى له من الكرامة، وقيل: لأنّ الله (ج) وملائكته شهود له في الجنة، وقيل: لأنه ممن يُستشهد (تطلب شهادته) في يوم القيامة من النبي على الأمم، وقيل: لأنه لم يمت فكأنه شاهد، أي: حاضر، وقيل: لقيامه بشهادة الحق في الله سبحانه وتعالى حق قيامها حتى قتل وغير ذلك.

ويقال للمحتضر لحضور الملائكة أياه أو لأنه يشهد في تلك الحالة ما أعدّه الله (عز وجل) له.

والشهيد: من أسماء الله الحسنى، ومعناه: العليم الحاضر الذي لا يغيب عنه شيء، وقيل: إذا اعتبر العلم مطلقاً فهو العليم، وإذا أُضيف العلم إلى الغيب والأمور الباطنة فهو الخبير، وإذا أضيف العلم إلى عالم الطبيعة والمادة والأمور الظاهرة فهو الشهيد، هو الذي يشهد على الخلق في يوم القيامة بما علم وشاهد منهم.

والشواهد: الحواس الخمس، سُمّيت بذلك؛ لأنها تشهد ما تدركه.

واليوم المشهود: يوم القيامة، وقيل: يوم الجمعة أو يوم عرفة، سميّ بذلك؛ لأنّ الناس يشهدونه، أي: يحضرونه أو لأنه شاهد لكل من شهده.

والتشهد: النطق بالشهادة: أشهد ألّا إله إلّا الله وأشهد أنّ محمداً رسول الله (ص)، واسماً للذكر المعروف الذي يُقرأ في الصلاة.

الأفكار الرئيسية والمضامين العامة للآية

تتضمن الآية المباركة العديد من النقاط الرئيسية، منها:

  1. أنّ الله تبارك وتعالى قد امتنّ وأنعم على الأمة الإسلامية المباركة بالهداية، وجعلها أمّة وسطاً خياراً كاملين معتدلين في كل أمور الدين الحنيف والدنيا، في العقيدة والأخلاق والشريعة والتدبير ونحو ذلك، بعيداً عن التطرف بجميع صوره وأشكاله وأنواعه، بعيداً عن التشدد والتهاون، وبعيداً عن الإفراط (الزيادة على المطلوب في الأمر) والتفريط (النقص في المطلوب في الأمر) في أمور الدين والدنيا والآخرة؛ لأن التشدد والتهاون، والإفراط والتفريط ونحوهما، ميل عن الحق والجادة والصراط المستقيم إلى الباطل والانحراف، فهو قبيح وشر ومذموم، فلا مادية صرفة، ولاروحانية صرفة، وإنما جمع الله (ج) لهم بين الحقين والكمالين والسعادتين المادية والروحية؛ لأن الإنسان هو مجموع الروح والجسد، وليس روح محض أو جسد محض. فيلبوا مطالب الروح ومطالب الجسد، ويصونوا جميع الحقوق الإنسانية فقد أباح الله تبارك وتعالى لهم الطيبات من المطاعم والمشارب والمساكن والملابس والمفالح ونحوها، وحرّم عليهم الخبائث والإسراف في الشهوات والملذات الحسية ونحو ذلك، ودعاهم إلى الحق والخير والعدل والإحسان والمحبة والرأفة والرفق واللين ونحو ذلك، فلهم من الدين أكمله وأتمه، ومن الأخلاق أفضلها، ومن الشريعة أوسعها وأكثرها سماحة واعتدالاً، ومن الأعمال أصلحها، ومن الأفعال أطيبها وأكثرها خيرية ونفعاً للناس، فهم الأمة الوسط والعدل والخيار والصلاح والاستقامة، التي يقاس بها كل طرف وكل حال لكل أمة سواها: على طول التاريخ وعرض الجغرافيا.

وتدلّ الآية الكريمة المباركة: إنّ الأمة المسلمة إذا عملت بالدين الإسلامي الحنيف وطبّقت منهجه فإنها سوف تكون حجة على كافة الأمم، وتثبت بأن الإنسان في مقدوره أن يعيش الحياة الاجتماعية وأن يقيم حضارة إنسانية راقية ومزدهرة تقوم على معايير فكرية وروحية، وعلى التوازن والوسطية والاعتدال، فلا تناقض بين العلم والتكنولوجيا وبين الإيمان والتقوى، ولا بين متطلبات الروح ومتطلبات الجسد، فيمكن إيجاد التوازن بين متطلباتهما، وسلوك الطريق الوسط الذي يقوم على التوازن بدون إفراط ولا تفريط.

إلّا أنّ المؤسف جداً أنّ الأمة المسلمة خانت الأمانة وتخلّفت عن الدين الإسلامي الحنيف، وأقامت أنظمة دكتاتورية تتحكم فيها حكومات مستبدة فاسدة ظالمة، ولم تتحمّل المسؤولية الملقات على عاتقها، وأعطت صورة في غاية السوء عن الدين الإسلامي الحنيف وعن نفسها للآخرين، بما صارت إليه من الانحراف والفساد والتحلّل والانحطاط والضعف والوهن والتخلف والتبعية وانتشار التطرف والتشدد والإرهاب في ظل الانحراف عن الدين الإسلامي الحنيف، وبتشجيع من الأنظمة الدكتاتورية والحكومات المستبدة؛ لأغراض سياسية وطائفية مقيتة.

  • إنّ أفعال الله سبحانه وتعالى كلّها منوطة بحكم وغايات حكيمة محكمة، وأنّ الغاية من جعل الأمة الإسلامية أمة وسطاً خياراً كاملين معتدلين، هي:
  • ليسبقوا الأمم الإنسانية كلها على طول التاريخ وعرض الجغرافيا باعتدالهم وتوسطهم واستقامتهم في الأمور كلها، أمور الدين والدنيا والآخرة، ليكونوا قدوة وأسوة حسنة للناس في العقيدة، ومناهج التفكير والبحث، وفي الأخلاق الفاضلة، والأعمال الصالحة، والتمدن والحضارة والازدهار في مناحي الحياة المختلفة كلها الفكرية، والعملية، والمادية، والروحية؛ لأنّ ما هداهم الله (عز وجل) إليه هو الحقيقة الثابتة والطريق الصحيح إلى الكمال الإنساني المعرفي، والتربوي، والحضاري، ومنهج الاعتدال القويم، الذي تتحصل به السعادة الحقيقية الكاملة لكل من عمل به في الدارين الدنيا والآخرة.
  • ليكونوا شهوداً على كافة الناس والأمم أتباع سائر الأديان السماوية المنسوخة المنحرفة، والوضعية، والفلسفات، والسياسات الأرضية الباطلة والمنحرفة، وأتباعها من الملحدين والعلمانيين والبرجماتيين والعبثيين والمفرطين في المادية أو الروحانية ونحوهم، بأنهم خرجوا عن جادة الاعتدال والوسطية والاستقامة والحق والخير والفضيلة فيما يكونون عليه من الإفراط والتفريط وأعمالهم الضالة المنحرفة المخالفة للحق والعدل والخير والفضيلة والحقوق الإنسانية. وذلك لما يتمتع به المسلمون من العلم والمعرفة، ولما هم عليه من الاعتدال والوسطية والاستقامة، ولحكمهم بالعدل والقسط وتنزّههم عن الظلم والكذب، ولايكون غيرهم حاكماً وشاهداً عليهم؛ لأنه يفتقر لما يتمتعون هم به.

وطبعاً هذا الكلام ينطبق على الأمة المسلمة حينما تطبّق وتعمل بالإسلام الحنيف، ولا ينطبق على الأجلاف من الحكام المستبدين الظلمة، والمتطرفين الإرهابيين، ولا على العصاة الفسقة من أبناء المسلمين.

ولأنّ الأفراد في كل المجتمعات ينقسمون بحسب معاييرها إلى ثلاثة أقسام، وهي:

  • الفرد العالي الشريف: الذي يتمتع بالاستقامة التامة والصلاح الكامل، ويتحلّى بالفضائل العالية، وبالمبدئية الكاملة، ويمثّل عصارة الحياة الاجتماعية وخلاصتها وبغيتها النهائية، وهم بطبيعة الحال قليلون في كل المجتمعات.
  • الفرد الداني الخسيس: المنحرف الذي يتصف بالرذائل والخصال القبيحة، الذي لا داعي باطني له يدعوه إلى رعاية الحقوق والواجبات والأصول الاجتماعية العامة، ولا رادع داخلي له يردعه عن اقتحام الذنوب والمعاصي والآثام والخطايا والجرائم والجنايات التي يأتي بها ويواقعها من غير اكتراث ولا مبالات، فلا يقوم بما يجب عليه من المسؤوليات والواجبات الاجتماعية، ولا يتحقق فيه الحد الأدنى من آمال وأماني المجتمع في أفراده والمنتسبين إليه، وهم بطبيعة الحال كذلك قليلون في كل المجتمعات.
  • الفرد المتوسط بين العالي والداني، وبين الشريف والخسيس: وهم الغالبية في جميع المجتمعات، الذين يعتمد عليهم فيها، وتقوم بهم بنيتها، ويمثلون وجهها المشرق ونور معارفها وتربيتها وحضارتها، وتتحقق فيهم وبهم مقاصدها ومآربها، وتظهر فيهم وتتجلّى آثارها الحسنة ومحامدها، وهؤلاء هم الذين يُشهد لهم بالعدالة وتقبل شهادتهم في القضاء في المجتمعات الإسلامية وفق الشريعة الإسلامية السمحة، وفيهم تتمثل الوسطية والاعتدال والاستقامة بالمقياس العام في الأمة والمجتمع، وبهم تتمثل القدوة الحسنة وتتجلى وتظهر في الأمّة الإسلامية لسائر الأقوام والأمم والشعوب، والشهادة عليها بالتطرف والميل نحو طرفي الإفراط والتفريط في العقيدة والفكر والأخلاق والسلوك والأفعال والمواقف والعلاقات.

وقيل: أمّة وسطاً بين الرسول الأعظم الأكرم (ص) وبين الناس في التبليغ بالحكمة والموعظة الحسنة، ويشهدون عليهم برسالة النبي محمد (ص) الكاملة الخاتمة، كما وصلت إليهم وأخذوها بصورة علمية دقيقة محكمة من الكتاب والسنة، وأقاموا الحجة عليهم بالبلاغ، أي: أنه قد بلغتهم الرسالة كما هي عليه بأمانة تامة وموضوعية كاملة ونزاهة غير متناهية، كما يشهدون بما يحصل لهم من العلم اليقيني القاطع والرؤية بالبصيرة النافذة للأنبياء السابقين الكرام (عليهم السلام) على أممهم الجاحدين المنكرين لتبليغهم إياهم، بأنهم قد بلغوهم بما أمرهم الله سبحانه وتعالى بتبليغه إليهم.

وهذا يفرض على الأمة الإسلامية أن تحافظ على الرسالة الإسلامية المحمدية كما هي عليه، وتأخذها من مصادرها كما أمرت به، وتصونها من التحريف والتغيير والتبديل، وأن تعمل بها وتطبقها في جميع الأحوال والشؤون، ثم تتحمل مسؤولية وأمانة التبليغ بها بالحكمة والموعظة الحسنة إلى سائر الأمم والشعوب والأقوام.

ولن تنجح الأمة المسلمة في حمل هذه المسؤولية والأمانة وتأدية هذا الواجب الإلهي والإنساني إلا إذا تحلّت بالوسطية والاعتدال والاستقامة والتقوى، وتمثلت فيها القدوة الحسنة واقعاً بحق وحقيقة في العلم والمعرفة، والتربية والحضارة، بحيث تكسب ثقة الأمم واحترامها وتقديرها؛ لأنّ العالي لا يأخذ من الداني، والقوي لا يأخذ من الضعيف، والنيّر لا يأخذ من المظلم، وبذلك يتجسد لنا حجم تفريط الأمة المسلمة في الأمانة الإلهية، والمسؤولية التاريخية الإنسانية بإهمالها الرسالة الإسلامية، ولما صارت إليه من الضعف والتخلّف والفساد والانحلال والانحطاط، فبدلاً من خدمة الرسالة الإسلامية ونشرها والتبليغ بها أساءت إليها وظلمتها غاية الإساءة والظلم، وسوف تسأل عن ذلك، ويُسأل طواغيتها وفراعنتها عن ذلك، ويؤاخذون عليه في يوم القيامة أشد المؤاخذة، ويعاقبون عليه أشد العقوبة في نار جهنم.

وقيل بحق: أنّ المراد بالأمّة الوسط هم الأئمة المطهرون من أهل البيت العصمة (عليهم السلام)؛ لأنّ لهم كامل العلم والمعرفة بالدين الإلهي الحق، والاستقامة التامة على الصراط المستقيم ونهج الاعتدال القويم والطريقة الوسطى المثلى في الدين، دون غيرهم من سائر المسلمين السابقين بالخيرات والمتوسطين في الإيمان والعلم والعمل، والمقصرين، قول الله تعالى: <ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ>[2]، ويمثل الأئمة المعصومون المطهرون (عليهم السلام) القدوة الحسنة لجميع الناس بعد الرسول الأعظم الأكرم (ص) والحجة البالغة عليهم في العمل بالدين وتطبيقه، وهم الواسطة بين الرسول الأعظم الأكرم (ص) وبين الناس في التبليغ بالرسالة والقيام على العمل بها وتطبيقها، وهم الشهداء لله سبحانه وتعالى على الناس، يقول العلّامة العارف السيد السبزواري: «أنّ المراد بالشهادة في الآية الشريفة ليست الشهادة الجسمانية – تحمّلاً وأداءً – بل الشهادة الحضورية المعنوية على أعمال الجوارح والجوانح، إحاطة حضورية من الله تعالى في مقام التحمّل في الدنيا، وفي مقام الأداء في الآخرة ويستلزم ذلك إحاطة الشاهد إحاطة معنوية من قبل الله تعالى، ولا يمكن أن يصل إلى هذه الدرجة كل أحد مع كل ماهم عليه، فمثل هذه الشهادة تختص بالأقل من أمة محمد (ص)، فالشهادة مما تختلف باختلاف العوالم، وإن الشهادة على الأمور الظاهرية الدنيوية شيء، وهي بالنسبة إلى النشأة الآخرة شيء آخر»[3]

إذ لا بد في أداء الشهادة النوعية في الآخرة، من أن يكون تحمّلها في الدنيا بعرض أعمال العباد على الشاهد لله سبحانه وتعالى من قبله، بحيث يعلم الشاهد بحقيقتها كما هي عليه من صحتها وفسادها، جيدها ورديئها، في الظاهر (الصورة) والباطن (الإخلاص) ونحو ذلك؛ ليكون أداءه لها عن علم ويقين ناجم عن مشاهدة لحقيقة العمل وليس لمجرد صورته وظاهره، وإلا لا يتحقق التحمل في الدنيا حقيقة، فلا يترتب الأداء عليه في النشأة الآخرة، وفي الحديث الشريف عن الإمام الباقر (ع) أنه قال: «نحن الأمة الوسط، ونحن شهداء الله على خلقه، وحجته في أرضه وسمائه»[4]، وفي الحديث أيضاً عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) أنه قال: «فرسول الله (ص) شاهد علينا، ونحن شهداء الله على خلقه، وحجته في أرضه»[5].

ولأنّ قبول شهادة الفرد في الدنيا تحتاج إلى قيود وشروط في الشريعة الإسلامية السمحة العادلة، فلا يصح أن يقبل الله سبحانه وتعالى الشهادة في النشأة الأخرى على النوع الإنساني كله بجميع شعوبه وأممه وأجناسه، وعلى جميع أعمالهم الظاهرية والباطنية، السرية والعلنية، وهو أمر ليس في وسع الإنسان العادي القيام به؛ لأنه خارج حواسه الظاهرة وطاقته، وأن يقبلها من كل واحد من المسلمين من دون قيد أو شرط، وهي شهادة هدفها إبطال ما يعتذر به العبد لتتم عليه الحجة وليتميّز بها الأخيار من الأشرار، ويترتب عليها الخلود في نعيم الجنة أو الخلود في عذاب نار جهنم.

وفي الآية الكريمة تنويه إلى شرف هذه الشهادة وعظمتها، حتى أنّ الله (عز وجل) وهو العليم بكل شيء، والمحيط به علماً وقدرة، لا يقضي إلّا بعد حصول هذه الشهادة، وتعتبر التزكية أصل في الشهادة، ومن المفروض أن يكون الإحتجاج بهذه الشهادة أشد موثقاً وأعظم حجة، وفي الأمة بطبيعة الحال من لا تجوز شهادته في الدنيا على حزمة بقل أو على صاع من تمر، فكيف يطلب الله سبحانه وتعالى منه الشهادة على الأمم، وعلى حقائق أعمالهم الظاهرية والباطنية في يوم القيامة ويقبلها منه؟!

أضف إلى ذلك: انتشار التطرف والتشدد والإرهاب الفكري والأمني والسياسي بين قطاع ليس بالقليل من المسلمين، وتفشي الأنظمة الدكتاتورية والحكومات المستبدة والحكام الظلمة في العالم الإسلامي، وظهور التحلل الأخلاقي، والفساد والإنحطاط الحضاري، والضعف والتخلف والتبعية للغير ونحو ذلك من الحالات المخالفة لمقاصد الشريعة وأهدافها وغاياتها، وللصورة النورانية الحقيقية التي ينبغي أن يكون عليها المسلمون بما هم مسلمون حقيقة وواقعاً.

وهذا يدلُّ قطعاً على أنّ المراد بالأمّة الوسط التي جعلها شهيدة على الناس، ليست الأمّة المسلمة ككل، وإنما هم قسم خاص فيها، تولى الله تبارك وتعالى أمرهم، وكشف لهم بنفسه عن حقائق أعمال العباد، وأوقفهم عليها، وأحاطهم بها علماً، ومكَّنهم من تشخيصها على حقيقتها وكما هي عليه في الواقع في الظاهر والباطن؛ ليحتج بشهادتهم على خلقه غداً في يوم القيامة في جملة الشهود من الملائكة وأعضاء الجسم وغير ذلك، يقول العلّامة الطباطبائي: «وهذه الكرامة بالشهادة تخصّ الأولياء الطاهرين دون العدول من أهل الإيمان، فضلاً عن من دونهم الأجلاف وفراعنة الأمة»[6]، والآية الكريمة دليل على عصمتهم، ومن قال بأنّ المراد كل الأمة المسلمة، ذهب إلى القول بحجية إجماع الأمة؛ لأنها معصومة، ويستحيل أن تجتمع على الخطأ، كما استدل الفقهاء بالآية الكريمة على اشتراط العدالة في الشهادة والحكم والفتوى.

الجدير بالذكر: أنّ من ذهب إلى القول بأنّ المراد بالأمة الوسط في الآية الكريمة موضوع البحث هم الأئمة المطهرون من أهل البيت (عليهم السلام) لا ينفي حقيقة كون أنّ الأمّة الإسلامية المحمدية هي خير أمّة أخرجت للناس، وأنها أشرف الأمم وأعظمها درجة، قول الله تعالى: <كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ>[7] وهذه الخيرية ترتبط بالرسالة الإسلامية والشريعة بجميع خصائصها، وفيها تشريف للرسول الأعظم الأكرم (ص) الذي صنعها بجهاده، ويمثل القدوة الحسنة فيها والسراج المنير لظلامها.

وهو الأمر الذي لا ينفي، بل يعزّز لذات السبب وجود صنف خاص متميز ورائع ولامع في داخل الأمة، هم أشرف الأمة وأعظمها وعلة عظمتها وشرفها، وهم العلة بعد الرسول الأعظم الأكرم (ص) لما تتمتع به من الخصائص والشرف والعظمة، كما هو الحال في تشريف النوع الإنساني رغم وجود المفسدين وسفاكي الدماء بغير وجه حق، قول الله تعالى:<وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ>[8]، وعلة ذلك: وجود صنف خاص راقي ومتميز يتحلّى بالكمالات المطلوبة، ويتحقق بوجودهم غاية الخلق والمقصود بالذات ومباشرة في الإرادة الإلهية، في الحديث الشريف عن قتادة في تفسيرها، قال: «كان في علم الله أنه سيكون من الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنوا الجنة»[9]

وبخصوص الجعل، يمكن تقسيم الجعل في القرآن الكريم وبحسب دور الإنسان واختياره فيه إلى ثلاثة أقسام، وهي:

  • الجعل التكويني: وهو الجعل الذي لا اختيار ولا دور للعباد فيه، مثل: قول الله تعالى: <وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْن>[10]
  • الجعل الاجتماعي: وهو جعل وسط، فيه الجانب التكويني، وفيه الاختيار من جانب العباد إجمالاً، مثل: قول الله تعالى: <وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا>[11]
  • الجعل التفضيلي الرتبي: وهو الجعل الذي يكون تمام سببه كمال العبد في نفسه في ما بينه وبين الله سبحانه وتعالى، مثل: قول الله تعالى: <وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا>[12]، وقول الله تعالى: <وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا>[13]

وقول الله تعالى: <وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا>[14]، هو بدون شك من الصنف الثالث (التفضيلي الرتبي) وهو من أجّل المقامات وأعلى الرتب وأرفع الدرجات؛ لأنه يتطلب الاعتدال في قوى النفس، والوسطية في العقيدة والمنهج والأخلاق، والاستقامة في السلوك والمواقف والعلاقات، وتحصيل سائر الكمالات للنوع الإنساني، وكلها مقتبسة من عند الرسول الأعظم الأكرم (ص) والاقتداء به؛ لأنه النموذج الأكمل في جميع ذلك. وهذا يستلزم أن لا يكون المراد جميع الأمة، وإنما صنف خاص منها، الذين هم تحت ولاية الله (عز وجل) ونعمته وهدايته الخاصة.

وفي وجه آخر لتفسير الآية الكريمة، قال العلّامة العارف السيد السبزواري: «أنّ الشهادة ليست قولية فقط، بل يحتمل أن تكون تكوينية أيضاً، والمراد من الأخيرة هي: أنّ أمّة الإسلام بالمعنى المتقدم هي بنفسها تكويناً تكون بارزة بحقائقها ومعارفها وأحكامها، وتشهد على جميع الأمم والأديان، كما تشهد الجوهرة النفيسة بين جملة الأحجار، أن ليس للأخيرة شأن مقابلها، أو شهادة المؤمن الكامل الإيمان والمعرفة بنفسه على سائر الأفراد بأن ليس لهم شأن، وأنه على الصراط المستقيم، وأنّ ما سواه على غير الصراط، فيكون ما ورد في الآية الشريفة من القضايا الفطرية»[15].

  • أنّ الرسول الأعظم الأكرم (ص) هو القدوة الحسنة للأئمة المطهرين (عليهم السلام) وللأمة أجمعين، قول الله تعالى: <لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا>[16]، وهو يختص بالشهادة عليهم أجمعين غداً في يوم القيامة بين يدي الله العزيز الجبّار بما بلغهم وبيّن إليهم من المعارف الإلهية الحقة، والأخلاق الفاضلة، وأحكام الشريعة، وسائر العلوم والمعارف، وسبل التطهير والتزكية وأقام الحجة عليهم فيه، وبما كان منهم من القبول والرد، والانقياد والتمرد، والاستقامة والانحراف، وبحقائق أعمالهم الصالحة والطالحة، الظاهرية والباطنية، السرية والعلنية، ونحو ذلك، قول الله تعالى: <فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا>[17]؛ لأنه المثال الانموذج الأكمل للوسطية والاعتدال والاستقامة والجامع لكل الكمالات للنوع الإنساني، وأن وسطية الأمة واعتدالها واستقامتها قبس من فيضه ونور إشعاعه؛ لاتباعها له وأخذها منه واقتدائها به، وليس لها شيء من ذلك بدونه، وإذا أهملت وقصرت وخالفت ولم تعمل، فليس ذلك بسبب التقصير والنقص في التبليغ والبيان والأسوة، وإنما بسبب أنفسهم؛ ولأنهم لم يراعوا الأمانة ولم يحفظوها، يقول العارف الفيض الكاشاني: «فالنبي يشهد لله على الأئمة (عليهم السلام) بأن الله أرسله إليهم وأنهم أطاعوه، والأئمة يشهدون لله على الأمم بأن الله أرسل النبي (ص) إليهم، وللنبي (ص) بأنه بلّغهم، وأنّ منهم من أطاعه ومنهم من عصاه. وكذلك يشهد نبينا (ص) لسائر النبيين (عليهم السلام) على أممهم بأن النبيين بلّغوا رسالات ربهم إلى أممهم»[18]، ويقول العلّامة الشيخ محمد جواد مغنية: «والويل كل الويل لمن يشهد عليه رسول الله، ويحكم عليه الله … هذا إذا أهمل ولم يبشر، فكيف إذا أساء وكان هو السبب الباعث على التشكيك في الدين وأهله»[19] وتركيز الشيخ مغنية في كلامه في المقام الأول على العلماء.

وبدون شك ولا ريب ولا تردد: فإنّ الاستقامة والاعتدال والوسطية هي من أبرز مظاهر الرحمة الإلهية وتجلياتها في الرسالة الإسلامية المحمدية، وتلزم عنها أمور رئيسية عديدة، منها:

  • اليسر في التشريع وعدم التكليف فوق الوسع والطاقة، قول الله تعالى: <لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ>[20]، أي: لا يفرض الله (ج) على العباد من التكاليف إلا ما يستطيعون ويقدرون على القيام به ويوافق ميزان تحملهم؛ لأن التكليف مبني على الرحمة والإحسان، والتكليف فوق الوسع والطاقة ظلم وقبيح ولا يكون إلا عن جهل وحاجة، والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك؛ فهو العادل المطلق العليم الخبير بخلقه، لا يخفى عليه شيء من أحوالهم وشؤونهم وظروفهم، وهو الغني المطلق الحميد على فعاله، والخلق كلهم عياله، وهو سبحانه وتعالى لا ينتفع بطاعة العبد، ولا يتضرر من عصيانه، بل يعود نفع الطاعة وضرر المعصية على العبد نفسه في الدارين الدنيا والآخرة، إذ يُجازى بحقيقة عمله، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وعليه: كل من قصر وأهمل وضيّع وخالف، فليس ذلك بسبب صعوبة التكليف، وإنما بسبب جهله وحماقته واتباع نفسه الأمارة بالسوء.
  • موافقة الرسالة في العقيدة والأخلاق والشريعة للطبيعة الإنسانية وأصل الخلقة والتكوين، قول الله تعالى: <الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰوَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ>[21]، وقول الله تعالى: <قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ>[22]، أي: ربُّنا الذي أوجد كل المخلوقات، فسوى خلق كل مخلوق وأتقنه، ورتّبه ونظّمه وقدّره فأحكم تقديره، وزوّده بكل ما يحتاجه في وجوده المادي والمعنوي، ويحفظ بقاءه وكيانه، ويسهل له طريق الوصول إلى غاية خلقه ووجوده، ثم هداه هداية تكوينية وهداية تشريعية موافقة لفطرته ولأصل خلقته وتكوينه وطبعه الناشئ عنه، من أجل الوصول إلى كماله المقدّر له واللائق به، وتحصيل سعادته الحقيقية في الدارين الدنيا والآخرة، في خير وعافية.
  • أن تكون الرسالة هي الطريق الحصري الوحيد إلى صلاح الإنسان وخيره ومصلحته في دورة الحياة الكاملة، العرضية في المكان والجغرافيا، والطولية في المكان والتاريخ، وإيصاله إلى كماله المقدّر له واللائق به، وتحصيل السعادة الحقيقية الكاملة في الدارين الدنيا والآخرة، قول الله تعالى: <قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ 123 وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ>[23]، والآية تفيد بوضوح تام أنّ العمل بالرسالة الإلهية هو الطريق الوحيد الذي يحافظ على صلاح الإنسان ومصلحته في الدارين، وأنّ الإعراض عنها ومخالفتها يترتب عليه الفساد وضيق المعيشة والشقاء في الدارين الدنيا والآخرة.

  •  البقرة: 143-[1]
  •  فاطر: 32-[2]
  •  مواهب الرحمن، العلّامة السبزواري، جزء 2، صفحة 116-[3]
  •  الكافي، جزء 1، صفحة 251-[4]
  •  شواهد التنزيل، جزء 1، صفحة 119-[5]
  •  مختصر الميزان، صفحة 33-[6]
  •  آل عمران: 110-[7]
  •  البقرة: 30-[8]
  •  زبدة التفسير، محمد سليمان الأشقر، صفحة 6-[9]
  •  الإسراء: 12-[10]
  •  الحجرات: 13-[11]
  •  السجدة: 24-[12]
  •  البقرة: 124-[13]
  •  البقرة: 143-[14]
  •  مواهب الرحمن، العلامة السبزواري، جزء2، صفحة 122-[15]
  •  الأحزاب: 21-[16]
  •  النساء: 41-[17]
  •  تفسير الصافي، فيض الكاشاني، جزء 1، صفحة 296-[18]
  •  الكاشف، محمد جواد مغنية، جزء 1، صفحة 226-[19]
  •  البقرة: 286-[20]
  •  الأعلى: 2-3-[21]
  •  طه: 50-[22]
  •  طه: 123-124-[23]
المصدر
رسول الرحمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟