مواضيع

الحياة الاجتماعية والحاجة إلى الوحي

إنّ الإنسان اجتماعي بالطبع، ويتوقف وصوله إلى كماله المقدّر له واللائق به وتحصيل السعادة الحقيقية الكاملة في الدارين الدنيا والآخرة على الحياة الاجتماعية ولايمكنه الحصول على ذلك بدونها.

وحياة الإنسان الاجتماعية تختلف عن الحياة الاجتماعية لغيره من الحيوانات؛ لأنّ الحياة الاجتماعية للإنسان تقوم على الفكر والقيم إلى جانب الغريزة التي تقوم عليها وحدها الحياة الاجتماعية لغير الإنسان من الحيوانات.

وإن كان الفكر والقيم يوحّد بين الناس وتسمو بهم، فإنّ القوى الغريزية، مثل: الغضب والشهوة وتعارض المصالح وحب التسلط والرئاسة ونحوها تفرّق بينهم، وقد تهوي بهم إلى الحضيض والدرك الأسفل للحيوانية والشيطنة، وهذا يتطلب تدخل طرف خارجي موضوعي حكيم ونزيه ينظم حياة الناس ويعالج الإختلافات بينهم معالجة موضوعية عادلة؛ لأن ما به الاختلاف والنزاع وهي النفس لا يكون به الإتفاق والحل، ويجب أن تتوفر في المعالجة شروط عديدة، منها:

  • أن تكون موافقة للعقل والمنطق وأصل الخلقة والفطرة، وتكوين الإنسان الذي هو من جوهرين الروح والجسد.
  • المحافظة على الحياة الاجتماعية والأمن والاستقرار فيها، والعمل على تنميتها وتطويرها وازدهارها.
  • إيجاد التوازن بين المصالح الفردية والمجتمعية، وإشباع جميع الحاجات الفردية والمجتمعية، المادية والمعنوية، القريبة والبعيدة، الدنيوية والأخروية، وصيانة كافة الحقوق الطبيعية والحريات الأساسية والمكتسبات الحضارية على كافة الأصعدة ومختلف الميادين الثقافية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية ونحوها.

وقد رفع الله (عز وجل) الاختلاف بين الناس وعالجه بالنبوة والوحي والتشريع، وهو الأمر الذي تتوفر فيه جميع الشروط سالفة الذكر، قول الله تعالى: <كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۖ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ>[1]

وتتضمن الآية المباركة النقاط التالية:

  1. كان الناس لعشرة قرون بين آدم ونوح (عليهم السلام) أمة واحدة متفقون على الفطرة والتوحيد، ثم حدثت تطورات في المجتمعات البشرية وتعقيدات، وتعارضت المصالح والإرادات فاختلفوا فيما بينهم، وحدثت بينهم المنازعات والصراعات على الأمورالدنيوية وظهرت الأرضية والأجواء المناسبة للإختلافات الدينية، وهذا أمر طبيعي تقتضيه الفطرة وأصل الخلقة وتكوين الإنسان من جوهرين: الروح والجسد.
  2. لحلّ الإختلافات ومعالجة المنازعات بين الناس والفصل فيها بعث الله (عز وجل) الأنبياء الكرام (عليهم السلام) بوجهين:
  3. مبشرين بما سينعم الله تبارك وتعالى به على المؤمنين الصالحين المطيعين من الرضوان والجنة.
  4. منذرين بما سيعاقب الله (عز وجل) به الكافرين والمنافقين والمفسدين العاصين من السخط والعذاب.

وتعبتر صفتا البشارة والإنذار أدعى لمتابعة الطاعة وترك المعصية.

وأنزل الله (عز وجل) مع الأنبياء الكرام (عليهم السلام) الكتب السماوية التي تتضمن ما يحتاجه الناس من المعارف الحقة والأخلاق الفاضلة والتشريعات السمحة والعلوم المختلفة؛ لتقوم على أساسها الهداية إلى الحق ومعالجة الاختلافات على أساس العدل والفضيلة والسمو بالناس من حدود الغريزة والمادة والطبيعة إلى فضاء الروح والعقل والفضيلة، ويقيموا الحجة التامة عليهم.

  • لم يتبع جميع الناس الأنبياء الكرام (عليهم السلام) ويأخذوا بما أرشدوهم إليه من الحق والعدل والفضيلة والعلم، بل وخالفهم البعض وحاربهم بعد قيام الحجة على صدقهم وصواب ما جاؤوا به وصلاحه، وظهر المنافقون الذين اختلفوا مع المؤمنين فيما أنزلت به الكتب وجاءت به سنن الأنبياء الكرام (عليهم السلام) مع أنه مما لا يصح ولا ينبغي الاختلاف فيه لغاية وضوحه ولموافقته للعقل والفطرة وقيام الحجة عليه، ولكونه أساس صلاح المجتمع والأفراد جميعاً، وكان الأولى بهم الاجتماع عليه، فكان اختلافهم بغياً منهم على الحق وحسداً لأهله، طمعاً منهم في الدنيا ومغانمها ومنافعها الزائلة وطلباً للرئاسة والزعامة، وحرصاً منهم على مصالحهم الخاصة بدافع الأنانية والإثرة وحب الذات، فاختلّت بسببهم الوحدة الدينية، وظهرت الأحزاب والطوائف والانقسامات والصراعات بين أتباع الدين الإلهي الواحد، وأصبح ما أنزل لإزالة الاختلاف سبباً لاستحكامه! وما سبق يدلّ على أنّ الاختلاف ينقسم إلى قسمين:
  • الاختلاف في أمور الدنيا، وهو اختلاف طبيعي يُعالج بالتشريعات والقضاء والقيادة والسلطة التنفيذية.
  • الاختلاف في أمر الدين، وهو اختلاف يستند إلى بغي المشركين والمنافقين وحسدهم وتعصبهم وظلمهم، ومخالف للعقل والمنطق والفطرة والطبع السليم والمصالح العامة، وهو مذموم ومدان في العقل والشرع.
  • في ظل فتنة الاختلاف في الدين الإلهي الحنيف، فإنّ الله تبارك وتعالى لا يتخلّى عن عباده المؤمنين الصالحين أصحاب النوايا الصافية الخالصة لله سبحانه وتعالى والقلوب السليمة الطاهرة الذين يطلبون الحق ويبحثون عنه بصدق وإخلاص، ولايخذلهم، بل يقف إلى جانبهم، فيؤيدهم بروح من عنده ويهديهم سبل السلام، ولما اختلف فيه من الحق وإلى صراط مستقيم، ويثبتهم وينصرهم بالحجة والبرهان على كلّ من خالفهم وعارضهم تفضلاً منه وإحساناً لهم؛ لأنهم مؤهلون للهداية ويستحقونها بصدقهم وإخلاصهم وأخلاقهم الفاضلة وخصالهم الحميدة وأعمالهم الصالحة، وهذا منه (ج) موافق لمقتضيات الحكمة والرحمة التي كتبها على نفسه، قال تعالى: <فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ>[2].

ونخلص مما سبق إلى ضرورة الوحي والنبوة بحكم العقل والمنطق، فمن صدّق الأنبياء الكرام (عليهم السلام) وآمن بهم واتّبعهم واقتدى بهم، فقد اهتدى وسلك طريق الحق والنجاة والكمال والسعادة، ومن كذبهم وكفر بدينهم ورسالتهم وخالفهم، فقد ضلّ وسلك طريق الباطل والنقص والتحلل والفساد والانحطاط والهلاك الفعلي والشقاء الأبدي الكامل والخسران المبين.


  •  البقرة: 213-[1]
  •  البقرة: 213-[2]
المصدر
رسول الرحمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟