قاعدة اللطف تقتضي بعث الأنبياء
لما ثبت بالعقل والتجربة عجز الإنسان ونقصه الذاتي عن وضع التشريعات التي تكفل مصالحه الفردية والمجتمعية، المادية والمعنوية، القريبة والبعيدة، الدنيوية والأخروية، وأنه قد يغرق في عالم الدنيا والمادة والأهواء والخيالات والخرافات والشهوات والملذات الحسية والمصالح العاجلة، ويجانب الحق والخير والعدل والفضيلة، وينحدر إلى حضيض الدرك الأسفل للشيطنة والحيوانية، ويتصف بالخسة والدناءة والحقارة والهمجية والرذيلة والفجور، ويعرف في الجريمة والجنايات والخطايا والآثام والمعاصي والذنوب والتخريب والتدمير والفساد، مما يترتب عليه إلحاق أشد الأضرارالمادية والمعنوية بالإنسان في حياته ومعاده، كما يشهد بذلك واقع المجتمعات المعاصرة في ظل الفلسفات الضالة، مثل: الماركسية والوجودية والبرجماتية، والسياسات الوضعية الجائرة، مثل: الاشتراكية والرأسمالية والليبرالية ونحوها. مع أنّ الانسان هو أفضل المخلوقات وخلاصة الوجود وجوهره، فقد رأى الحكماء والمتكلّمون بأنّ الله سبحانه وتعالى بما هو كامل كمالاً مطلقاً وحكيماً، فإنه يجب عليه بحكم العقل والمنطق وجوب تفضل وكرم وبر وإحسان، لا بإلزام ملزم وحساب يحاسب؛ لأنه لا يُسأل عمّا يفعل، أن يكون لطيفاً بعباده ورحيماً بهم، قول الله تعالى: <كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ>[1]، وأن يوصل إليهم المنافع ويدفع عنهم المضار، ويُسهّل لهم سُبُلَ الحياة والنجاة والرخاء، وعمل كل ما يتوقف عليه تحقق غرض الخلقة وصونها من العبث واللغو والباطل، قول الله تعالى: <اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ 19 مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ۖ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ>[2]، أي: أنّ الله تبارك وتعالى رفيق بعباده واسع اللطف بهم، رحيم في التعامل معهم جميعاً المؤمنين والكافرين، كثير الإحسان بهم، يعمهم ببره وإحسانه ولا يعاجل مسيئهم بالعقوبة، فلا يخلو أحد منهم من برّه وإحسانه، فأصل البرّ والإحسان الإلهي عام في حق جميع العباد المؤمنين والكافرين، مثل: الإحسان إليهم بالحياة والعقل والفهم والإرادة والقدرات والرزق وتوفير أسباب العيش ودفع البليّات ونحو ذلك، وقد بلغ برّه بهم وإحسانه إليهم إلى حدّ لا يبلغه تصور أحد منهم، فهو يرزق من يشاء من النعم المادية والمعنوية على مقتضى رحمته وبمقدار ما يُصلِح أحوالهم وحياتهم الدنيوية والأخروية.
لأنه قوي قادر لا يعجزه فعل شيء ممكن، وهو غالب على أمره، محيط بكل شيء علماً وقدرة، عزيز لا يمنعه مانع من تحقيق إرادته وإنفاذ قدرته، فهو يفعل كل ما يريد وأين ومتى يريد.
وقد شاء الله (عز وجل) بمقتضى حكمته البالغة ورحمته الواسعة: أنّ كل من كان من عباده يعمل الصالحات من الطاعات والعبادات ويكافح الظالمين والمفسدين ويناضلهم، يريد بسعيه وبعمله وجه الله سبحانه وتعالى ورضوانه، وإحقاق الحق وإقامة العدل والقسط وصلاح الناس وزيادة ثواب الآخرة، فإن الله تبارك وتعالى يهبه القوة والنشاط، ويمدّه بعونه وتوفيقه وتسديده، ويسهّل له سُبُلَ الخير والصلاح والطاعات والسعادات، ويؤتيه نصيبه ورزقه المقسوم له في الدنيا، لا ينقص منه شيء، ويكون أكثر ابتهاجاً وغبطة وسعادة في الحياة من غيره، ثم يزيد في بره به وفضله عليه وإحسانه إليه في يوم القيامة، فيكثر له من ثواب الآخرة ويضاعفه له أضعافاً كثيرة، أي: يفوز بخير الدنيا والآخرة.
وفي المقابل: من عمل لنفسه وللدنيا في نفسها، وكانت مقصوده وغاية مطلوبه، ويريد استغلال نعم الله تبارك وتعالى عليه وتوظيفها للحصول على المزيد من المنافع ومتاع الدنيا الفانية وزينتها وزخرفها ولذاتها الزائلة، فإن الله (عز وجل) يؤتيه منها ما يقيم به الحجة عليه ولا ينافي الحكمة البالغة، أي: يؤتيه بعض ما يريده كما يريد الله (عز وجل) لا كما يريد هو، ثم لا يكون له نصيب من ثواب الآخرة؛ لأنه قصر همّه وغايته في الدنيا ولم يعمل للآخرة، فيضيع نصيبه من الآخرة، قول الله تعالى: <وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ>[3]
وما سبق يدل على أمور مهمة عديدة، منها:
- أنّ الآخرة أشرف، ومقدمة في الفضل والأهمية والأولوية على الدنيا.
- لا بد للحصول على منافع الدنيا والآخرة من العمل والبذل وتحمل المتاعب والمشاق.
- أنّ طلّاب الدنيا لا يصلون إلى كل مايريدون في الدنيا وطلّاب الآخرة لا يحرمون نصيبهم من الدنيا ولا ينقص منهم شيء.
- أنّ طالب الآخرة يزداد في مطلوبه وطالب الدنيا يعطي بعض مطلوبه، لا كلّه.
- أنّ طالب الآخرة يكون حاله دائماً في الترقي والتزايد والتكامل والدوام، وطالب الدنيا يكون حاله دائماً بين النقصان والفساد والبطلان، وعليه: فالأفضل للإنسان بحسب العقل والمنطق أن يعمل للآخرة ويفضّلها على الحياة الدنيا.