مواضيع

الأوجه المختلفة لكون الرسول رحمة

أنت رحمة للعالمين برسالتك ودينك الذي يهدي إلى الحق وإلى الصراط المستقيم وإلى نهج الاعتدال القويم، والطريقة المثلى، وهي الطريقة الوسطى، وإلى ما فيه صلاح الناس وخيرهم ومصلحتهم الحقيقية الموافقة لأصل خلقهم وفطرتهم والتي تحقق غاية وجودها في دورة الحياة الكاملة العرضية في المكان والجغرافيا والطولية في الزمان والتاريخ ولما فيه نجاتهم من الشقاء الحقيقي، ويوصلهم إلى كمالهم الممكن المقدّر لهم واللائق بهم، ويحقِّق لهم السعادة الحقيقية الكاملة التي هي غاية مطلوبهم من وراء جميع أفعالهم وتصرفاتهم وتحركاتهم في الحياة.

وأنت رحمة للعالمين بسيرتك العطرة المباركة وأخلاقك الفاضلة وأعمالك الصالحة والآثار الحسنة الفكرية والعملية والروحية بشكل طبيعي وراء قيامك بالدعوة وسيرتك العطرة وإنجازاتك العملية التي تركت آثارها في واقع الحياة شاء الناس ذلك أم لم يشاؤوا.

ثم بركاتك المعنوية على الناس، قول الله تعالى: <وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ>[1]؛ أي: لا يعذّب الله (عز وجل) المشركين من أهل مكة وإن كانوا مستحقين للعذاب بكفرهم وعنادهم وأعمالهم السيئة وأنت بين أظهرهم تكريماً لك وتعظيماً لشأنك؛ ولأنه مخالف لمقتضى الحكمة الإلهية البالغة التي توجب تكريم الأولياء الصالحين وتعظيم شأنهم وإظهار فضلهم بين الناس ليعرفوهم ويقتدوا بهم، فببركة وجودك بينهم سلّمهم الله (عز وجل) من العذاب المستحق لهم، وعليه: جعل وجوده في مكانٍ ما مانعاً من نزول العذاب على أهله وسبباً لنزول الخير والبركة عليهم إعلاماً منه (ج) بكرامته (ص) عنده (ج)، وفي الحديث الشريف: «إنما أنا رحمة مهداة»[2] وفي حديث آخر: «قيل لرسول الله (ص) أدع على المشركين، قال: «إنما بعثت رحمة ولم أبعث عذاباً»[3]

وتنكير لفظ «رحمة» في الآية الكريمة يفيد التعظيم، وقال ابن عاشور: أن انتصاب «رحمة» على أنه حال من ضمير المخاطب (يعني الرسول) يجعله وصفاً من أوصافه فإذا انضم إلى ذلك انحصار الموصوف في هذه الصفة، صار من قصر الموصوف على الصفة، ففيه إيماء لطيف إلى أنّ الرسول اتحّد بالرحمة وانحصر فيها، ومن المعلوم أنّ عنوان الرسولية ملازم له في سائر أحواله، فصار وجوده رحمة، وسائر أكوانه رحمة، ووقوع الوصف مصدر يفيد المبالغة في هذا الاتحاد بحيث تكون الرحمة صفة متمكنة من إرساله.[4]

والفرق بين المؤمنين والكافرين في الاستفادة من هذه الرحمة المتمكنة من إرساله، أن المؤمنين آمنوا به وقبلوا دعوته واتبعوه واقتدوا به ونصروه وعزّروه، أي: عرفوا النعمة وشكروها وقاموا بحقها فنالوا رحمة الدنيا والآخرة.

أمّا الكافرون فكذّبوه وأنكروا دعوته ورسالته وخالفوه وخذلوه وحاربوه وبدّلوا نعمة الله كفراً وجحوداً وظلماً وطغياناً وعدواناً؛ عناداً منهم وغروراً واستبكاراً على الحق وأهله، ولم تنفع معهم المعجزات الباهرات، والبينات الواضحات، والحجج والبراهين النيّرات الساطعات، والنصائح النبوية الصادقة والمواعظ المؤثرة البالغة، فنالوا بعض الرحمة في الدنيا، مثل: الآثار الحسنة المترتبة بشكل طبيعي على الدعوة الإلهية والسيرة المحمدية العطرة والبركات المعنوية لوجوده الشريف المبارك التي تشمل المؤمنين والكافرين، مثل: منع نزول العذاب عليهم لكنّهم خسروا رحمة الآخرة تماماً، وكانوا من الأشقياء الهالكين المعذّبين في نار جهنم وبئس المصير والورد المورود، وذلك هو الخسران المبين.


  •  الأنفال: 33-[1]
  •  التفسير المبين، صفحة 432-[2]
  •  تفسير الرازي، جزء 8، صفحة 193-[3]
  •  تفسير التحرير والتنوير، ابن عاشور، جزء 7، صفحة 167-[4]
المصدر
رسول الرحمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟