وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ
قول الله تعالى: <وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ>[1] أي: ما أرسلناك يا محمد إلّا بالرحمة الكاملة البالغة للعالمين كافة الجن والإنس، المؤمنين والكافرين، ولجميع شعوب الأرض، الأولين والآخرين على طول التاريخ وعرض الجغرافيا في جميع أحوالهم إلى انقضاء العالم ونهاية التاريخ على وجه الأرض.
فالتعريف في لفظ <لِّلْعَالَمِينَ> يفيد الاستغراق لكُلّ ما يصدق عليه اسم العالم، وذلك برسالتك السمحة وما فيها من مقوّمات الرحمة للخلق كلهم، مثل: الاعتدال والوسطية والشمول والرفق والعدل مع الجميع، قول الله تعالى: <يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ>[2] فالآية الكريمة المباركة تدعو المؤمنين إلى القسط والعدل مع جميع الناس المؤمنين والكافرين، الموافقين والمخالفين، الأصدقاء والأعداء، في الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، وتحثّهم على ذلك وترغبهم فيه وتشوقهم إليه وتعدّه من مقتضيات صدق الإيمان واليقين وكمالهما، ولغلق الباب تماماً أمام جميع المعاذير والمبررات والأهواء النفسية والشيطانية، مثل: العداوة والخصومة واختلاف الدين والمذهب والنزاعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية القبلية والوطنية والقومية ونحوها، لتجاوز الحق والعدل والحقوق والوقوع في الجور والظلم وانتهاك حقوق الإنسان والحرمات والمقدسات ونحوها، وتُحذّر من عاقبة ذلك السيئة ومغبته غير المحمودة على المخالفين في الدارين الدنيا والآخرة، وتنبّه إلى أنّ الله (عز وجل) يعلم بحقائق النيات والأعمال، فلا يمكن الكذب عليه وخداعه بالمعاذير الباطلة والمبررات الكاذبة ونحوها، وأنه يحاسب الإنسان ويجاريه على أعماله الصالحة والسيئة جزاءً موافقاً لها على ما هي عليه في الحقيقة والواقع، وعليه: فرسالته وشريعته هي أوسع الرسالات والشرائع الأرضية والسماوية رحمة بالناس، وأحرصها على صلاحهم وخيرهم وسعادتهم ومصالحهم الحقيقية في دورة الحياة الكاملة.
الأوجه المختلفة لكون الرسول رحمة
أنت رحمة للعالمين برسالتك ودينك الذي يهدي إلى الحق وإلى الصراط المستقيم وإلى نهج الاعتدال القويم، والطريقة المثلى، وهي الطريقة الوسطى، وإلى ما فيه صلاح الناس وخيرهم ومصلحتهم الحقيقية الموافقة لأصل خلقهم وفطرتهم والتي تحقق غاية وجودها في دورة الحياة الكاملة العرضية في المكان والجغرافيا والطولية في الزمان والتاريخ ولما فيه نجاتهم من الشقاء الحقيقي، ويوصلهم إلى كمالهم الممكن المقدّر لهم واللائق بهم، ويحقِّق لهم السعادة الحقيقية الكاملة التي هي غاية مطلوبهم من وراء جميع أفعالهم وتصرفاتهم وتحركاتهم في الحياة.
وأنت رحمة للعالمين بسيرتك العطرة المباركة وأخلاقك الفاضلة وأعمالك الصالحة والآثار الحسنة الفكرية والعملية والروحية بشكل طبيعي وراء قيامك بالدعوة وسيرتك العطرة وإنجازاتك العملية التي تركت آثارها في واقع الحياة شاء الناس ذلك أم لم يشاؤوا.
ثم بركاتك المعنوية على الناس، قول الله تعالى: <وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ>[3]؛ أي: لا يعذّب الله (عز وجل) المشركين من أهل مكة وإن كانوا مستحقين للعذاب بكفرهم وعنادهم وأعمالهم السيئة وأنت بين أظهرهم تكريماً لك وتعظيماً لشأنك؛ ولأنه مخالف لمقتضى الحكمة الإلهية البالغة التي توجب تكريم الأولياء الصالحين وتعظيم شأنهم وإظهار فضلهم بين الناس ليعرفوهم ويقتدوا بهم، فببركة وجودك بينهم سلّمهم الله (عز وجل) من العذاب المستحق لهم، وعليه: جعل وجوده في مكانٍ ما مانعاً من نزول العذاب على أهله وسبباً لنزول الخير والبركة عليهم إعلاماً منه (ج) بكرامته (ص) عنده (ج)، وفي الحديث الشريف: «إنما أنا رحمة مهداة»[4] وفي حديث آخر: «قيل لرسول الله (ص) أدع على المشركين، قال: «إنما بعثت رحمة ولم أبعث عذاباً»[5]
وتنكير لفظ «رحمة» في الآية الكريمة يفيد التعظيم، وقال ابن عاشور: أن انتصاب «رحمة» على أنه حال من ضمير المخاطب (يعني الرسول) يجعله وصفاً من أوصافه فإذا انضم إلى ذلك انحصار الموصوف في هذه الصفة، صار من قصر الموصوف على الصفة، ففيه إيماء لطيف إلى أنّ الرسول اتحّد بالرحمة وانحصر فيها، ومن المعلوم أنّ عنوان الرسولية ملازم له في سائر أحواله، فصار وجوده رحمة، وسائر أكوانه رحمة، ووقوع الوصف مصدر يفيد المبالغة في هذا الاتحاد بحيث تكون الرحمة صفة متمكنة من إرساله.[6]
والفرق بين المؤمنين والكافرين في الاستفادة من هذه الرحمة المتمكنة من إرساله، أن المؤمنين آمنوا به وقبلوا دعوته واتبعوه واقتدوا به ونصروه وعزّروه، أي: عرفوا النعمة وشكروها وقاموا بحقها فنالوا رحمة الدنيا والآخرة.
أمّا الكافرون فكذّبوه وأنكروا دعوته ورسالته وخالفوه وخذلوه وحاربوه وبدّلوا نعمة الله كفراً وجحوداً وظلماً وطغياناً وعدواناً؛ عناداً منهم وغروراً واستبكاراً على الحق وأهله، ولم تنفع معهم المعجزات الباهرات، والبينات الواضحات، والحجج والبراهين النيّرات الساطعات، والنصائح النبوية الصادقة والمواعظ المؤثرة البالغة، فنالوا بعض الرحمة في الدنيا، مثل: الآثار الحسنة المترتبة بشكل طبيعي على الدعوة الإلهية والسيرة المحمدية العطرة والبركات المعنوية لوجوده الشريف المبارك التي تشمل المؤمنين والكافرين، مثل: منع نزول العذاب عليهم لكنّهم خسروا رحمة الآخرة تماماً، وكانوا من الأشقياء الهالكين المعذّبين في نار جهنم وبئس المصير والورد المورود، وذلك هو الخسران المبين.
الرسالة رحمة في الدين والدنيا
وكانت الرسالة الإلهية والدعوة المحمدية رحمة للناس جميعاً في الدين والدنيا:
- في الدين (وهو الأكثر أهمية): لأنه بعث بالدين الإلهي الحق الذي ينقذ الجميع، وكان الناس في جاهلية وضلال وفساد الأخلاق وقبيح الأعمال وانتشار الظلم والجور والفجور والخيانات ونحو ذلك، حيث كان يعم الشرك وعبادة الأصنام وهيمنة الخرافات والعادات والتقاليد السيئة البالية، وكانت الشعوب المتحضرة، مثل: الروم وفارس، يعانون من التفاوت الطبقي الفاحش وظلم الحكام المستبدين وجورهم، مع يأس المصلحين وجسامة تضحياتهم وكثرتها، ولم يكن هناك دين سماوي صحيح ينهض بمسؤولية التغيير ويُصلِح أحوال الناس الخاصة والعامة في أمور الدين والدنيا والآخرة الفكرية والروحية والأخلاقية والسلوكية، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، ويؤدي دور الرسالة الإلهية المطلوب في الهداية والإصلاح والإرشاد، ولم يكن هناك مصلح رباني قوي وموثوق به.
وكان أهل الكتاب اليهود والنصارى في حيرة من أمرهم وضياع؛ لطول انقطاع الوحي عنهم وتحريف كتبهم السماوية المنزلة التوراة والإنجيل، فدخلت فيها التناقضات والخرافات والمنكرات التي لا تتناسب مع جلال الله وكماله وساحة قدسه وعظمة رسالته، ولم تعد تصلح لهداية الناس وإرشادهم وإنقاذهم من ظلمات الجهل والضلال ومتاهة الضياع وإبعادهم عن الشرور والفساد والأعمال السيئة والجرائم والمنكرات في العقيدة والأخلاق والسلوك.
ووقع بين أهل الكتاب الاختلاف، وتحولت اليهودية إلى دين قومي ضيّق الأفق والمصالح، يخدم جماعة قليلة من الناس، يزعمون أنهم شعب الله المختار، ويرتكبون صنوف الجرائم والشرور باسم الله والدين من أجل مصالحهم الضيّقة.
وتحوّلت المسيحية إلى رهبانية مفرطة معزولة عن واقع الحياة، وإطلاق أيدي الحكام المستبدين الظلمة في تدبير شؤون الناس بالظلم والجور والباطل والتحكم في مصائرهم باسم الله والدين بغير وجه حق، على قاعدة «ما لقيصر لقیصر، وما لله لله» أي: تقسيم الحق في الناس بين الله وبين القيصر، وجاء في العهد الجديد: «لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة لأنه ليس سلطان إلا من الله، والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله، حتى إن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة، فإن الحكام ليسوا خوفاً للأعمال الصالحة بل للشريرة»[7] وفي ذلك إساءة بالغة لله سبحانه وتعالى وللدين الإلهي الحق وللحقيقة، بنسبة الجرائم والرذائل والمنكرات التي يأتي بها الحكام المستبدون الظلمة إليه (عز وجل)، فتسقط حرمة الدين الإلهي وقدسيته ورموزه في النفوس، وتعطي المبررات العملية للمعصية والخروج على الدين الإلهي الحنيف والاستهانة بتعاليمه وأحكامه والمقدسات الشرعية.
وبذلك صار الدين الإلهي ألعوبة بأيدي مجموعة قليلة من الفاسدين المارقين من رجال الكنيسة والحكام المستبدين الظلمة، يتحكمون فيه بحسب أهوائهم ومصالحهم كما يشاؤون، فضاعت معالم الدين الإلهي الحق وحدوده، وانقلبت التعاليم الدينية من تعاليم إلهية مقدسة إلى تعاليم وضعية بشرية تافهة وجائرة وظالمة.
مع التنبيه إلى أن رسالة بولس الرسول تصلح لأن يُستدلّ بها على إنحصار الحاكمية في الله سبحانه وتعالى، ووجوب طاعة أئمة الحق وحرمة الخروج عليهم، على غرار قول الله تعالى: <يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ>[8]، إلّا أنّ الواقع هو فهمهم بالشكل الذي سلف ذكره وبيانه، وهو نفس الأمر الذي وقعت فيه طائفة من المسلمين الذين أوجبوا طاعة الحكام المستبدين الظلمة، وحرمة مخالفتهم والخروج عليهم، مخالفين في ذلك ضروريات العقل والدين الحنيف.
وفي ظل جميع ما سبق ذكره وغيره، فقد وقع فراغ ديني ورسالي كبير، ولم يعد في الإمكان لطالب الدين الإلهي الحق الوصول إليه وتحصيله، فبعث الله تبارك وتعالى الرسول الأعظم الأكرم (ص) رحمة للعالمين في الوقت المناسب؛ ليبين للناس معالم الدين الإلهي الحق وحدوده، ودعاهم إليه بالحكمة والموعظة الحسنة بعد أن بيّنه لهم وأقام الحجة عليه وكشف لهم عن سبيل الهداية والرشاد والصلاح والخير والسعادة.
فمن آمن به وصدّقه وقَبِل منه واقتدى به اهتدى وفاز في الدارين الدنيا والآخرة، ومن كذّبه وكفر برسالته وخالفه فقد ضلّ وخسر خسران مبيناً وشقى وهلك في الدارين الدنيا والآخرة، وهذا المصير الأسود البائس الذي يصير إليه هؤلاء الجهلة الحمقى المعاندين لا يخدش في عموم الرحمة؛ لأنه لحق بهم بسبب سوء اختيارهم، وخروجهم بمحض إرادتهم عن دائرة فيض الرحمة الخاصة، وهي قبول الهداية والإيمان بعد قيام الحجة والبيان والعمل بمقتضاهما، ولأنهم لا يحرمون من فيض الرحمة العامة التي ينالونها بمقتضى الآثار الطبيعية المرتبة على وجود الرسالة والرسول أراد الكافرون ذلك أم لم يريدوا.
- في الدنيا: وأما عن كون الرسالة المحمدية رحمة للناس جميعاً في الدنيا، فذلك لأنه نشر بينهم العلم والمعرفة والقيم السماوية العليا والشريعة السمحة، وأتى إليهم بوسائل وأساليب الحياة الطيبة والحضارة الإنسانية الراقية المتوازنة، وقضى على الفتن الجاهلية والصراعات والحروب القبلية ونحوها، وعلى العادات والتقاليد الجاهلية البالية ومظاهر الذل والهوان والتخلف والظلم والتفاوت الطبقي والعرقي في المجتمع، وصان الحقوق وكرامة الإنسان وكافة الحرمات والمقدسات، يقول الإمام علي بن أبي طالب (ع): «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّداً (ص) نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ وَ أَمِيناً عَلَى التَّنْزِيلِ، وَأَنْتُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ عَلَى شَرِّ دِينٍ وَفِي شَرِّ دَارٍ، مُنِيخُونَ بَيْنَ حِجَارَةٍ خُشْنٍ وَحَيَّاتٍ صُمٍّ، تَشْرَبُونَ الْكَدِرَ، وَتَأْكُلُونَ الْجَشِبَ، وَتَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ، وَتَقْطَعُونَ أَرْحَامَكُمْ، الْأَصْنَامُ فِيكُمْ مَنْصُوبَةٌ، وَالْآثَامُ بِكُمْ مَعْصُوبَةٌ»[9].
وقول فاطمة الزهراء (عليه السلام): «وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ، مُذْقَةَ الشّارِبِ، وَنُهْزَةَ الطّامِعِ، وَقُبْسَةَ الْعَجْلانِ، وَمَوْطِئَ الأقْدامِ، تَشْرَبُونَ الطّرْقَ، وَتَقْتاتُونَ الْوَرَقَ، أذِلَّةً خاسِئِينَ، تَخافُونَ أنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِكُمْ فَأنْقَذَكُمُ اللهُ تَبارَكَ وَتَعالى بِمُحَمَّدٍ صَلى الله عليه وآله بَعْدَ اللّتَيّا وَالَّتِي»
- الأنبياء: 107-[1]
- المائدة: 8-[2]
- الأنفال: 33-[3]
- التفسير المبين، صفحة 432-[4]
- تفسير الرازي، جزء 8، صفحة 193-[5]
- تفسير التحرير والتنوير، ابن عاشور، جزء 7، صفحة 167-[6]
- رسالة بولس الرسول إلى أهل الرومية، الإصحاح الثالث عشر: 1-4-[7]
- النساء: 59-[8]
- نهج البلاغة، خطبة 26: من خطبة له (ع) وفيها يصف حاله قبل البعثة ثم يصف حاله قبل البيعة له.-[9]