الإشراف والرقابة والرقي
إن استمرار المؤسسات والهياكل التنظيمية بالإشراف الدؤوب والمراقبة المستمرة وفق الترتيبات الإدارية، ويمكن أن نشبه الإشراف والرقابة بالمصباح اليدوي الذي إذا سلطناه على مكان محدد يضيئه وإلا فلا!
والأمر هنا كذلك فإذا كان الرئيس مشرفاً حقيقياً على الأوضاع وراقبها فإنها تبقى وتستمر، فتبث الحياة والحيوية فيها لا محالة، وقصدي من المراقبة بالعيون ليست المراقبة الظاهرية التي تتم بقوة العين فحسب، وإنما أقصد ذلك الحضور الدائم في كافة فروع التنظيمات وفقاً لسلّم الأولويات من الأعلى إلى الأسفل، ليشعر الجميع أن هناك إشرافاً مستمراً.[1]
خلال تجربتي في الشؤون الإدارية والتنفيذية على مدار سنين طويلة توصلت إلى أن المدير أو الرئيس يجب أن يراقب ويشرف جميع الموظفين، هذا إذا أراد أن يكون مكان عمله نظيفاً بعيداً عن الفساد والخلل، ولا يكتفي بتعيين مسؤولٍ أو وزيرٍ يراه مناسباً دون أن يشرف بنفسه على عمله، وذاك المسؤول يجب أن يكون له معاونون، وللمعاونين معاونون وهكذا ..
كما لا ننسى أن المسؤولية على قدر المنصب، فكلما كان منصب الشخص رفيعاً كلما كانت مسؤوليته أكثر أمام الله وأمام الناس، ومن ثم ما ننتظره من كبار المسؤولين ليس بقدر ما نريده من معاونيهم، وما نريده من المعاونين ليس بقدر ما نلتمسه من الموظفين، والمسؤولية الوحيدة التي يتشاركون بها هي إيجاد الاطمئنان والثقة وقيام الكل بوظائفه المحددة له، ومراعاة تقوى الله (جل وعز).[2]
كان في السابق إذا ارتكب أحد مخالفة واعترض عليه أحد كان النظام السائد وقتها يصدّ المتعرض ويكفّه، لا بل كان أحياناً يشجع المخالف على مخالفته ويتم تقريع المعترض، وهذا ما شهدناه بأم العين، أما اليوم بحمد الله فإن الأمور تغيرت كثيراً وتحسنت ولا أقول أن المجتمع أصبح نظيفاً خالياً من المخالفين، بل إن هذا الأمر كان في زمن أمير المؤمنين (ع)، لكن المهم أن النظام والمؤسسات الفاعلة لا تشجع المخالف على مخالفته، كما أن المسؤولين والمتصدين فيها يميلون نحو الصلاح ويرفضون المخالفين.[3]
- الاهتمام بمحتويات التقارير
يجب أن تجعلوا التقارير الموصولة نصب أعينكم، وأن تكونوا مهتمين لها جداً وتتعاطوا بمحتوياتها بجدية، يجب أن يبلغ الإنسان درجة كلما وصله تقرير أو نقد، أن يستخلص منه ما يفيده من الحق والصحة.
يجب على المدير أن يجعل جميع من يعمل معه وتحت إمرته ضمن حمايته، وإلا لن يتيسر لهم العمل بشكل صحيح؛ والدفاع عن الموظفين والزملاء في العمل رغم أنه جيد مستحسن، ولكنه لا يعني ذلك أنه بمجرد توجيه أي انتقاد في المقام أن نبادر إلى الدفاع دون تريث وتثبت، بل يجب متابعة القضية بكل جدية.[4]
يقول أمير المؤمنين (ع): «فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك»[5]، مما يعني أنه إذا بلغك خبر خيانة أحد، لا تقم بعقوبته فوراً، بل يجب التريث والتيقن من ذلك أو أن يصل الأمر إلى مرتبة التواتر، ثم القول: «اكتفيت بذلك شاهدا فبسطت عليه العقوبة في بدنه، وأخذته بما أصاب من عمله»[6]، وعند ذلك تتم محاسبته، ثم على فرض المجازاة هناك أنواع لها وأقسام، ولها أسبابها وظروفها، بحيث يجب أن يجازى المدان بقدر جرمه.[7]
- عدم الاكتفاء بالتقارير المرفوعة
أطلبوا التقارير من المدراء والمسؤولين، ولا تثقوا بها ثقة كاملة، وهذا لا يعني عدم الثقة بالمسؤولين، بل هو واجب مراعاة للحيطة والحذر، فالتجربة تؤكد أنّ كثيراً من التقارير لا تنطبق مع الواقع والحقيقة، فليس كلّ ما يرفع صحيح، بل منها ما لا يوافق الواقع، ولتكن المراقبة من أقرب الناس إليكم، وقد اقترحت سابقاً هذه الفكرة على آية الله هاشمي رفسنجاني عندما كان رئيساً للجمهورية، وكذلك السيد محمد خاتمي، فقلت للسيد خاتمي أن ينصب أخاه السيد علي خاتمي لهذه المهمة وقد فعل، وما أكثر فائدة هذا الاختيار، فيجب اختيار أقرب الناس لتلك المناصب، لثقتنا بهم، كي يكونوا مصدراً موثوقاً للمعلومات إلى جانب التقارير المرفوعة.[8]
- الإشراف على جميع أقسام الدوائر والهياكل التنظيمية ومراقبتها بشكل مستمر
يعد الإشراف على جميع الأقسام في المؤسسات من الأمور المهمة جداً، ولذلك أؤكد عليكم بصفتكم كبار المسؤولين والمدراء أن تكون جميع الأقسام وموظفوها تحت إشرافكم المباشر، وهذا الإشراف المستمر هو الذي يأتي بالثمار ويضمن صحة العمل وتقدمه، ولو أغفلتهم عنه وعن المراقبة الدؤوبة ليظهر الفساد والخلل فيما أغفلتم عنه، ويجب أن تنتبهوا أن المجموعات البشرية لا تعمل كالماكينات، تشتغل وتتحرك بمجرد ضغط زر التشغيل، بل إنما هي مجموعات مكونة من الميول والغرائز الجنسية، فقد يحدث أن تعزموا على القيام بأمر ما، وتأملتم فيه كثيراً لكنه يصطدم ببعض الميول والغرائز، لذلك يجب إزالة كل هذه الشوائب ولا يتيسر ذلك إلا بالإشراف الدائم والمراقبة المستمرة، وهنا تكمن أهمية الإشراف.[9]
والعامل المهم الآخر في كفاءة الأنظمة والمؤسسات هو إشراف المدراء، فمهمة الوزير مثلاً لا ترتبط فقط بشؤون عادية ككتابة الرسائل وتوجيهها إلى فلان وفلان …، وقد ذكر لي المغفور السيد رجائي قصة أنه ذهب مرة إلى مكتب أحد وزرائه عندما كان رئيساً للوزراء، ففوجئ باختفاء الوزير خلف مكتبه لكثرة ما عليه من ملفات.
قال لي: فتقدمت إليه وأخرجته من بين تلك الملفات، وأيضاً قبلها في التنظيمات العسكرية ووزارة الدفاع، أن البعض يعتمد إشغال الوزير بأمورٍ هامشية غير مفصلية ليبعده عن الواقع والمسائل الخطيرة، لذلك عليكم أن تكونوا حذرين محتاطين تماماً كي لا يستخدم البعض حيلاً دقيقة ليبعدكم عن وظيفتكم الأساسية.
إن أهم وظيفة للوزير هي إشرافه الدقيق على أداء جميع المدراء الذين هم تحت إمرته، وهو أشبه بمدرب فريق رياضي، يقف على جانب الملعب ليشرف على أداء جميع اللاعبين، فإذا تعب أحدهم أو لم يؤدي دوره بشكل جيد يخرجه من الملعب ويستبدله بغيره، أو قد يضطر لتغيير التكتيك في الخطة، فيخرج لاعباً جيداً ليستبدله بآخر يقوم بهذا الدور، وقد يحدث أن يرتشي اللاعب فعلى المدرب أن يدرك ذلك بفطنته وذكائه.
وأنتم بصفتكم وزراء وأصحاب سلطة ومسؤوليات، يجب أن تنظروا إلى مدرائكم بهذه النظرة، وأن تشرفوا على جميع من تحت إمرتكم إشرافاً مباشراً، فقد يكون قد طرأ على أحدهم التعب وعلى الآخر الضعف، كما يمكن أن لا يكون الآخر كفؤاً في عمله، وقد يصدر خطأ من الآخر، أو قد لا يكون متخصصاُ في مجاله، مع الالتفات إلى وجوب وجود موظفين احتياطيين تملؤون المناصب الشاغرة بهم.[10]
والنقطة الهامة التي نؤكد عليها هي الإشراف على تلك المجموعات التي لكم سلطة عليها. يجب أن تنتبهوا إلى أن البيروقراطية من أغرب ما يوجد في مختلف الدوائر والإدارات، والحق أننا وقد يمر على تجربتنا السياسية والإدارية عشر أو اثنا عشر سنة وأكثر ولا نزال لا نعرف معنى البيروقراطية!
نحن نعرف البيروقراطية من أقوال رجالها الذين خبروا ميدانها مدة خمسين أو ستين سنة، وتعريفاتهم تلك تنطبق على وضعنا الراهن بشكل كبير، فبالرغم من أنه لا مجال لاجتناب البيروقراطية هذه، ولكن لو لم تراقب وتعدّل لتحولت إلى أمر خطير جداً، هذه المراقبة هي التي توصلكم إلى أهدافكم المنشودة بسرعة ونجاح، فلو لم تكن أياديكم العاملة وتلك الأجهزة التنفيذية، لن تتمكنوا من الوصول إلى أهدافكم المنشودة.
إن البيروقراطية إن لم تُراقب فإنها ستحرفكم عن هدفكم مهما كنتم أتقياء صالحين فإنكم لن تتمكنوا من السيطرة عليها.
لا يمكننا أن نقول انتخبوا كل موظفيكم جيدين، لأنه ليس هناك معيار لذلك ومن ثم يطبق على الجميع فضلاً عن أنه لا يمكن إجراء ذلك على أرض الواقع، لو سلمنا إمكانية الأمر، فمن يضمن الموظفين الجيدين أن يبقوا جيدين إلى آخر عمرهم؟ أليس كل واحدٍ منا عرضة للتغيير والتبدّل؟ أليس للوسوسات النفسية والشيطانية أثرٌ على الناس؟ لهذا بالذات أؤكد على أهمية الإشراف ودوره في تقدم أهدافكم.
إذا أراد مدير ممتاز أن يقسم وقته، لأمكن القول أنه ينبغي أن يخصص نصف وقته للإشراف والنصف الآخر لبقية أعماله كالتخطيط ووضع السياسات وإصدار الأوامر وعقد الجلسات.
والإشراف على الجهاز التنفيذي يعني التواجد الدائم والمتابعة المستمرة في أعمال الموظفين، بالإضافة إلى المتابعة حيث إنها تندرج ضمن الإشراف، هذه كانت نقطة هامة وجدتها جديرة أن تذكر، وأتمنى من الجميع أن يوليها الاهتمام والعناية.[11]
والمدير الجيد قد يكون في غرفته بالمكتب وقد لا يكون! وقصدي من أنه قد لا يكون في غرفته لأنه يتابع مختلف القضايا في مكتبه وفي الجهاز التنفيذي الذي تحت إمرته، وكلما زيد في المنصب والمقام زيد في المسؤولية، ومن ثم يجب عليكم أنتم بصفتكم مدراء وأصحاب مناصب عليا أن تكونوا على علم بما يفعله الموظفون والمسؤولون. ففي الشؤون الإدارية ليست هناك «حمل على الصحة»، بمعنى أن نوجه غياب البعض وأن نقول لعلهم مشغولون بشؤونهم وأعمالهم، كلا، وقولنا أن الموظفين في المؤسسة الفلانية جيّدون، لا يعني ذلك أنهم معصومون، فوصف «جيّدون» يعني أنهم لا يخونون، ولكن هل يعني ذلك أنهم لا يخطئون ولا يتكاسلون ولا يقصرون؟ فإني إذا أُراجع نفسي في خلواتي؛ أجد أنه قد ينيبني الضعف والكسل، لو لم أكن على حذر ولو لم أتغلب على هواي، وأظن أنكم كذلك؛ لأننا بشر والبشر عرضة للخطأ والنسيان والكسل.
فيجب أن نراقب أنفسنا قبل كل شيء ثم الوزراء والمدراء، يجب أن نراقب، كي تجري الأعمال على الوجه الأحسن دون خطأ.[12]
راقبوا المسؤولين والموظفين مراقبة تامة، ولا تغفلوا عنهم للحظة، لعلكم رأيتم كيف أن الحرّاس دائماً يسلطون الأضواء الكاشفة على مختلف الأماكن المظلمة، كذلك عليكم أن تكونوا في إشرافكم ومراقبتكم، فلا تغفلوا عن العاملين والموظفين ولا عن تفقد أعمالهم، لتروا هل هم يقومون بمهامهم أم لا؟ وهل يقومون بها على الوجه الصحيح أم لا؟ يقول الإمام علي (ع): «ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ وابْعَثِ الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ والْوَفَاءِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي السِّرِّ لِأُمُورِهِمْ حَدْوَةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الأمَانَةِ والرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ»[13].
وهذا كله يؤدي إلى أن تصونوا الأمانات وتردوها إلى أهلها.[14]
- [1]– كلمة سماحته في لقائه مع الفنانين والمسؤولين الثقافيين في البلد بتاريخ 22-4-1373هـ ش
- [2]– كلمة سماحته في مراسم تنصيب الدور الثاني لرئيس الجمهورية هاشمي رفسنجاني بتاريخ 12-5-1372هـ ش
- [3]– كلمة سماحته في لقائه مع جمع غفير من الناس والمواطنين في مدينة قم بمناسبة حلول 19 شهر دي بتاريخ 19-10-1368هـ ش
- [4]– كلمة سماحته في لقائه مع رئيس الجمهورية وهيئة الوزراء بمناسبة أسبوع الدولة بتاريخ 3-6-1370هـ ش
- [5]– نهج البلاغة، الكتاب 53
- [6]– المصدر السابق
- [7]– كلمة سماحته في لقائه مع أعضاء الحكومة بتاريخ 17-7-1384هـ ش
- [8]– كلمة سماحته في لقائه مع رئيس الجمهورية وأعضاء حكومته بتاريخ 5-6-1380هـ ش
- [9]– كلمة سماحته في لقائه مع رئيس الجمهورية وأعضاء حكومته بتاريخ 2-6-1387هـ ش
- [10]– كلمة سماحته في لقائه مع رئيس الجمهورية وأعضاء حكومته بتاريخ 5-6-1380هـ ش
- [11]– كلمة سماحته في لقائه مع رئيس الجمهورية وأعضاء حكومته بتاريخ 3-6-1370هـ ش
- [12]– نفس المصدر
- [13]– نهج البلاغة، الخطبة 53، عهد مالك الأشتر
- [14]– كلمة سماحته في لقائه مع أعضاء الحكومة بتاريخ 17-7-1384هـ ش