مواضيع

الدعاء وسيلة التوجّه إلى الله والاستغفار

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله ربّ العالمين، والصَّلاةُ وَالسَّلام علی سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد وآله الأطيّبين الطاهرين المعصومين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

قال الله الحكيم: <قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ>[1]

ضرورة الذكر والوعي المستمر

وفقاً للرؤية الإسلاميّة أنّ الإنسان بحاجة إلى التذكّر والوعي المستمرّ، ذلك أنّ الإنسان عابر سبيل ومسافر يطوي الطريق، فإذا ما غفل عن هذه الحقيقة وتوقّف عن السعي والكدح، فإنّه لن يصل إلى غايته، أمّا إذا ظلّ مداوماً في سعيه وحركته حتّى نهاية الفترة الزمنيّة المتاحة له وهي عمره، فإنّه سوف يصل إلى غايته، وهي الكمال المنشود والسمو الروحي، حيث تتضمّن حياته بعد الموت على مدى سعيه في الحياة الدنيا.

وفي ضوء الرؤية الإسلاميّة فإنّ الحياة الدنيا هي حياة مؤقّتة عابرة يمتحن فيها الإنسان، وأنّ الحياة الآخرة هي الحياة الحقيقيّة والمستقبل الحقيقي للإنسان: <وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ>[2].

وعندما نرحل إلى هناك فسوف نرى الحياة الخالدة الحقيقيّة المفعمة بالسعادة والفرح والرضا، كلّ هذا يتوقّف على سعينا هنا في هذه الحياة المؤقّتة.

فإذا لم نبذل الجهد ولم نقم بالسعي المطلوب وتكاسلنا، نغمض أعيننا هنا ونفتحها هناك فجأة فنجد أيدينا خالية.

إنَّه من الضروري جدًّا التذكّر، وقد بعث الله (عز وجل) رسله للذكرى والتذكير: <إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ >[3]. إنَّ القرآن الكريم وسيلة للتذكّر، وتلاوة آياته تذكّر الإنسان، وكذلك إقامة الصلاة خمس مرّات في خمس أوقات يوميّاً وسيلة يتذكّر من خلالها الإنسان أنَّه يطوي الطريق، وأنّ الدنيا ممرّ، وأنّ الدار الاخرة هي المستقر، وهي المستقبل الحقيقي للإنسان، وإذن فإنَّ كلّ هذه الوسائل هي للتذكّر والذكرى لئلّا نغفل فإذا غفلنا، وإذا قصّرنا في السعي فإنّ مصيرنا ولا شكّ سيكون سيّئاً.

التقوى هي المراقبة والوعي المستمر

إنّ التقوى التي يؤكّدها الأنبياء والأولياء هي أن ينتبه الإنسان، وأن يكون يقظاً واعياً للمنزلقات، فيشق طريقه مستقيماً دون انحراف، وأن يكون حذراً من المنزلقات في طريق الحياة المليئة بالمنعطفات والمنزلقات، إنَّ التقوى تحفظ للإنسان وعيه ويقظته وحذره، وتمّده بالقوة على مواصلة الطريق إلى الله وإلى التكامل الإنساني والعبوديّة لله سبحانه وتعالى.

إنّ شهر رمضان المبارك هو موسم الدعاء وإقامة الصلاة والصيام حيث يجوع الإنسان، ومن خلال الجوع تنمو الروح وتجد صفاءها ونقاءها، شهر رمضان المبارك موسم الذكر والمناخ المساعد الذي تنمو فيه التقوى، فتتراجع الوساوس النفسيّة، ويعيش الإنسان الصائم في حالة من الصفاء الروحي والنقاء النفسي بعيداً عن لوث الذنوب.

إنّ الفرق بين الإنسان المتّقي والإنسان غير المتّقي: هو أنّ الإنسان غير المتّقي عندما يضع قدمه في المنزلق فكأنّه يضع نفسه في منحدر زلق، فيهوي من ذنب إلى آخر، وهكذا إلى هاوية الانحطاط والسقوط، وعندئذٍ فإنَّه لا ينتبه إلى قبح الذنب، ويصبح ارتكاب الذنوب أمراً عادياً بالنسبة إليه، هكذا يكون الإنسان غير المتّقي.

أمّا الإنسان المتّقي فإنّه عندما يرتكب الذنب يشعر بهزّة في ضميره ووجدانه، ويعود إلى وعيه: <إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ>[4].

هكذا تفعل التقوى بأهلها، إنّها جرسٌ قويٌّ يدوي في أعماق النفس، ويعيد إليها حالة الوعي واليقظة والرشاد وبالتالي حفظ النفس من الانزلاق إلى هاوية الضياع.

إن الإنسان المتّقي دائم الذكر، مثله مثل الشخص الذي يجرفه التيّار العنيف نحو جهة ما، وعليه أن يسبح عكس هذا التيّار من أجل الوصول إلى شاطئ الأمان، وفي لحظة غفلة وفي لحظة كسل وفي لحظة تفرّج ونظر هنا وهناك، إذا به يجد نفسه قد جرفه التيّار بعيداً.

إنّ هذا التيار هي غرائزنا وأهوائنا ورغباتنا ونزعاتنا التي تتصادم مع سيرنا التكاملي، هذا التيّار الجارف يأخذنا إلى الوراء، فإذا انتبهنا وتذكّرنا وشعرنا بانحرافنا مع التيّار، وعدنا إلى السباحة عكس التيّار والمضيّ قدماً نحو الأمام، وإذا لم نكن من أهل التقوى وغفلنا، جرفنا التيّار، وقد نشعر بالارتياح لأنّنا لم نعد نجهد أنفسنا بالسباحة، ذلك أنّنا أسلمنا أنفسنا إلى التيّار، ثمّ بعد فترة من الزمن نجد أنفسنا غارقين في المستنقع الآسن؛ وحينئذٍ يكون قد فات الأوان.

الدعاء وخصوصيات شهر رمضان وسيلة للذكر

إنّ الدعاء في شهر رمضان المبارك وكلّ خصائصه هو من أجل هذا؛ من أجل أن نتذكّر؛ من أجل أن نخرج عن الغفلة، وننتبه إلى ما أصابنا من لوث الذنوب، هذه هي فرصتنا في هذا الشهر، لكي نقوم بتصحيح الأخطاء ومراجعة النفس.

أحياناً يتعوّد الإنسان على بعض الذنوب بحيث لا يشعر بأنّها ذنوب. وفي هذه الساعات الأخيرة من شهر رمضان المبارك الذي أوشك أن ينتهي، لنترقّب حلوله بعد عام، إنّ هذا الشهر المبارك فرصة، إنّ ليلة القدر فرصة استثنائيّة نسأله تعالى أن نكون قد وفّقنا إلى اغتنامها.

جاء في مفاتيح الجنان في وداع شهر رمضان: «وَأَن تَجعَلَني بِرَحمَتِكَ مِمّن خِرتَ لَهُ لَيلَةَ القَدرِ وَجَعَلتَها لَهُ خَيراً مِن أَلفِ شَهرٍ».

إن من مرّت عليه ليلة القدر كأي ليلة أخرى لا فرق لديه بينها وبين سائر الليالي، لا ذكر ولا تضرّع ولا بكاء، بل لم ينتبه إلى أنّها ليلة قدر، وكان مستغرقاً في أهوائه، فليلة القدر، لن تكون له خير من ألف شهر، بل ليلة الخسران لا خير له فيها؛ إنَّ ليلة القدر تكون من نصيب من يعرف قدر ساعاتها ودقائقها، تكون من نصيب من أحياها بالعبادة والاستغفار.

إنّ دعاء الإمام السجّاد (ع) الدعاء الخامس والأربعون في الصحيفة السجّاديّة هو نموذج من أدعية أهل البيت (عليهم السلام) التي تعلّمنا أهميّة شهر رمضان المبارك.

علينا أن نقرأ هذه الأدعية مع إدراك كامل لمضامينها ومعانيها؛ لأنَّها تشمل على المعارف السامية؛ لأنَّها تعلّمنا الحب الإلهي، ولذا ينبغي ترجمتها بلغة تضاهي لغتها الأصليّة، بجمالها وبلاغتها، لكي تحقَّق تأثيرها في النفوس، ومن المؤسف أنّ الترجمة تذهب بجماليّة النص الأصلي البليغ والمؤثّر.

وما أعظمه من دعاء! أعني دعاء كميل، وما أجمله من نصّ من الناحية الأدبيّة والفنيّة! إلى جانب المضامين السامية التي تموج بالمعارف الدينيّة والحقائق الرائعة، من قبيل ما جاء في بعض الأدعية: «اللّهُمَّ يا مَنْ لا يَرْغَبُ فِي الجَزاءِ، وَيا مَنْ لا يَنْدَمُ عَلَى العَطاءِ، وَيا مُبتَدِئاً بِالنِعَمِ قَبلَ استِحقَاقِها». ومن قرأ دعاء الإمام السجاد (ع) في وداع شهر رمضان المبارك وجده زاخراً بالمعارف السامية:

«اللّهُمَّ يا مَنْ لا يَرْغَبُ فِي الجَزاءِ، وَيا مَنْ لا يَنْدَمُ عَلَى العَطاءِ وَيا مَنْ لا يُكافِئُ عَبْدَهُ عَلَى السَّواءِ مِنَّتُكَ ابْتِداءٌ، وَعَفْوُكَ تَفَضُّلٌ، وَعُقُوبَتُكَ عَدْلٌ، وَقَضاؤُكَ خِيَرَةٌ، إِنْ أَعْطَيْتَ لَمْ تَشُبْ عَطاءَكَ بِمَنٍّ، وَإنْ مَنَعْتَ لَمْ يَكُنْ مَنْعُكَ تَعَدِّياً، تَشْكُرُ مَنْ شَكَرَكَ وَأَنْتَ أَلْهَمْتَهُ شُكْرَكَ، وَتُكافِئُ مَنْ حَمِدَكَ وَأَنْتَ عَلَّمْتَهُ حَمْدَكَ، تَسْتُرُ عَلى مَنْ لَوْ شِئْتَ فَضَحْتَهُ، وَتَجُودُ عَلى مَنْ لَوْ شِئْتَ مَنَعْتَهُ، وَكِلاهُما أهْلٌ مِنْكَ لِلْفَضيحَةِ وَالمَنْعِ غَيْرَ أَنَّكَ بَنَيْتَ أَفْعالَكَ عَلى التَّفَضُّلِ وَأَجْرَيْتَ قَدْرَتَكَ عَلَى التَّجاوُزِ وَتَلَقَّيْتَ مَنْ عَصاكَ بِالحِلْمِ وَأَمْهَلْتَ مَنْ قَصَدَ لِنَفْسِهِ بِالظُّلْمِ، تَسْتَنْظِرْهُمْ بِأناتِكَ إِلى الإنابَةِ، وَتَتْرُكُ مُعاجَلَتَهُمْ إِلى التَّوْبَةِ لِكَيْلا يَهْلِكَ عَلَيْكَ هالِكُهُمْ، وَلا يَشْقى بِنِعْمَتِكَ شَقِيُّهُمْ إلا عَنْ طُولِ الإعْذارِ إِلَيْهِ، وَبَعْدَ تَرادُفِ الحُجَّةِ عَليْهِ، كَرَماً مِنْ عَفْوِكَ يا كَرِيمُ وَعائِدَةً مِنْ عَطْفِكَ يا حَليمُ، أَنْتَ الَّذي فَتَحْتَ لِعِبادِكَ باباً إلى عَفْوِكَ، وَسَمَّيْتَهُ التَّوْبَةَ، وَجَعَلْتَ عَلَى ذَلِكَ البابِ دَليلاً مِنْ وَحْيِكَ لِئَلاّ يَضِلُّوا عَنْهُ، فَقُلْتَ تَبارَكَ اسْمُكَ: <تُوبوُا إلى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِيَ اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذينَ آمَنوُا مَعَهُ نُوُرُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُوْرَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ>[5]، وَأَنْتَّ الَّذي زِدْتَ فِي السَّوْمِ عَلى نَفْسِكَ لِعِبادِكَ، تُرِيدُ رِبْحَهُمْ في مُتاجَرَتِهِمْ لَكَ، وَفَوْزَهُمْ بِالوِفادَةِ عَلَيْكَ وَالزِّيادَةِ مِنْكَ، فَقُلْتَ تَبارَكَ اسْمُكَ وَتَعالَيْتَ: <مَنْ جاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةَ فَلا يُجْزى إِلاّ مِثْلَها>[6]، وَقُلْتَ: <مَثَلُ الَّذينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ في سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أنْبَتَتْ سبْعَ سَنابِلَ في كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ>[7] وَقُلْتَ <مَنْ ذَا الَّذي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافَاً كَثيرةً>[8]، وَما أَنْزَلْتَ مِنْ نَظائِرِهِنَّ فِي القُرْآنِ مِنْ تَضاعيفِ الحَسَناتِ، وَأَنْتَ الَّذي دَلَلْتَهُمْ بِقَوْلِكَ مِنْ غَيْبِكَ وَتَرْغِيبِكَ الَّذي فِيهِ حَظُّهُمْ عَلَى ما لَوْ سَتَرْتَهُ عَنْهُمْ لَمْ تُدْرِكْهُ أَبْصارُهُمْ وَلَمْ تَعِهِ أَسْماعُهُمْ، وَلَمْ تَلْحَقْهُ أوْهامُهُمْ، فَقُلْتَ: <اذْكُرُوني أَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُروا لي ولا تَكْفُرُونِ>[9] وَقُلْتَ: <لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إنَّ عَذابي لَشَدِيدٌ>[10]، وَقُلْتَ: <ادْعُوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِروُنَ عَنْ عِبادَتي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ>[11]، فَسَمَّيْتَ دُعاءَكَ عِبادَةً، وَتَرْكَهُ اسْتِكْباراً وَتَوَعَّدْتَ عَلى تَرْكِهِ دُخُولَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ، فَذَكَرُوكَ بِمَنِّكَ وَشَكَرُوكَ بِفَضْلِكَ، وَدَعَوْكَ بِأَمْرِكَ، وَتَصَدَّقُوا لَكَ طَلَباً لِمَزِيدِكَ وَفِيها كانَتْ نَجَاتُهُمْ مِنْ غَضَبِكَ وَفَوْزُهُمْ بِرِضاكَ، وَلَوْ دَلَّ مَخْلُوقٌ مَخْلُوقاً مِنْ نَفْسِهِ عَلى مِثْلِ الَّذي دَلَلْتَ عَلَيْهِ عِبادَكَ مِنْكَ كانَ مَوْصُوفاً بِالإِحْسانِ، وَمَنْعُوتاً بِالامْتِنانِ، وَمَحْمُوداً بِكُلِّ لِسانٍ، فَلَكَ الحَمْدُ ما وُجِدَ في حَمْدِكَ مَذْهَبٌ وَما بَقِيَ لِلْحَمْدِ لَفْظٌ تُحْمَدُ بِهِ، وَمَعْنىً يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ، يا مَنْ تَحَمَّدَ إِلى عِبادِهِ بِالإحْسانِ وَالفَضْلِ وَغَمَرَهُمْ بِالمَنِّ وَالطَّوْلِ، ما أفْشى فينا نِعْمَتَكَ، وَأَسْبَغَ عَلَيْنا مِنَّتَكَ، وَأَخَصَّنا بِبِرِّكَ!، هَدَيْتَنا لِدينِكَ الَّذي اصْطَفَيْتَ وَمِلَّتِكَ الَّتِي ارْتَضَيْتَ وَسَبِيلِكَ الَّذي سَهَّلْتَ، وَبَصَّرْتَنا الزُّلْفَةَ لَدَيْكَ وَالوُصُولَ إِلى كَرامَتِكَ، اللّهُمَّ وَأَنْتَ جَعَلْتَ مِنْ صَفايا تِلْكَ الوَظائِفِ وَخَصائِصِ تِلْكَ الفُرُوضِ شَهْرَ رَمَضانَ الَّذي اخْتَصَصْتَهُ مِنْ سائِرِ الشُّهُورِ، وَتَخَيَّرْتَهُ مِنْ جَميعِ الأَزْمِنَةِ وَالدُّهُورِ، وَآثَرْتَهُ عَلى كُلِّ أَوْقاتِ السَّنَةِ بِما أَنْزَلْتَ فيه مِنَ القُرْآنِ وَالنُّورِ، وَضاعَفْتَ فِيهِ مِنَ الإيمانِ، وَفَرَضْتَ فيهِ مِنَ الصِّيامِ وَرَغَّبْتَ فِيهِ مِنَ القِيامِ، وَأَجْلَلْتَ فيهِ مِنْ لَيْلَةِ القَدْرِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، ثُمَّ آثَرْتَنا بِهِ عَلى سائِرِ الأُمَمِ وَاصْطَفَيْتَنا بِفَضْلِهِ دُونَ أَهْلِ المِلَلِ، فَصُمْنا بِأَمْرِكَ نَهارَهُ وَقُمْنا بِعَوْنِكَ لَيْلَهُ، مُتَعَرِّضينَ بِصِيامِهِ وَقِيامِهِ لِما عَرَّضْتَنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِكَ، وَتَسَبَّبْنا إِلَيْهِ مِنْ مَثُوبَتكَ وَأَنْتَ المَليءُ بِما رُغِبَ فِيهِ إِلَيْكَ، الجَوادُ بِما سُئِلْتَ مِنْ فَضْلِكَ القَرِيبُ إِلى مَنْ حاوَلَ قُرْبَكَ وَقَدْ أَقامَ فينا هذا الشَّهْرُ مَقامَ حَمْدٍ، وَصَحِبَنا صُحْبَةَ مَبْرُورٍ وَأرْبَحَنا أفْضَلَ أَرْباحِ العالَمينَ، ثُمَّ قَدْ فارَقَنا عِنْدَ تَمامِ وَقْتِهِ وَانْقِطاعِ مُدَّتِهِ، وَوَفاءِ عَدَدِهِ، فَنَحْنُ مُوَدِّعُوهُ وِداعَ مَنْ عَزَّ فِراقُهُ عَلَيْنا وَغَمَّنا وَأَوْحَشَنَا انْصِرافُهُ عَنَّا، وَلَزِمَنا لَهُ الذِّمامُ المَحْفُوظُ، وَالحُرْمَةُ ُالمَرْعِيَّةُ، وَالحَقُّ المَقْضِيُّ فَنَحْنُ قائِلوُنَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يا شَهْرَ اللهِ الأَكْبَرَ، وَيا عيدَ أوْلِيائِهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا أَكْرَمَ مَصْحُوبٍ مِنَ الأَوْقاتِ، وَيا خَيْرَ شَهْرٍ فِي الأَيَّامِ وَالسَّاعاتِ، السَّلامُ عَلَيْكَ مِنْ شَهْرٍ قَرُبَتْ فيهِ الآمالُ».

وهكذا يودّع الإمام زين العابدين شهر رمضان المبارك بحرقة حزيناً متأثراً بقلب مفعم بالأسى؛ لأنَّه يودّع شهراً قربت فيه الآمال فهي على وشك أن تتحقّق في لياليه الواعدة المباركة؛ ولذا ينبغي أن يترجم هذا الدعاء وجميع أدعية أهل البيت (عليهم السلام) بلغة قريبة من لغة النصّ العربي؛ لأنّ نصوص الأدعية تمتاز بلغة أدبيّة رائعة، أنا لا أتحدّث عن الشرح والتفسير، إنّما أتحدّث عن ترجمة النص الأصلي الذي ينبغي أن يرقى إلى جماليّة النصّ الأصلي، لكي يحقّق تأثيره في النفوس.

ترك الذنوب هي الحافظة للتقوى

وفي الختام أطلب من الأخوة والأخوات المحافظة على ما يحصل عليه الصائمون في هذا الشهر من التقوى؛ أن تستمرّ في النفوس هذه الحالة من خلال المواظبة على الحضور في المساجد، والمحافظة على الصلاة، والاستمرار في تلاوة القرآن الكريم والدعاء والمناجاة وتعزيز هذه الحالة الروحيّة والأجواء المعنويّة.

إنّ ما يحصل عليه المرء في هذا الشهر المبارك لا يقدّر بثمن، ليس من الضروري أن يزن المرء جسمه لكي يرى ما فقده من وزن، يجب أن يكون هاجسه الوحيد ما حصل عليه من صفاء ونقاء، وإلى أي مدى وصل تأثير هذا الشهر الكريم في سلوكه؟

إنّ المحافظة على حالة الصفاء الروحي يجب ان تكون أكبر همومنا، ذلك بأن إحدى مشكلاتنا العويصة هي اعتيادنا على بعض الذنوب من دون أن ننتبه إليها، من قبيل الغيبة والكذب وإيذاء الآخرين بكلامنا، إنّ علينا أن ننتبه إليها، وأن نصحّح أخطاءنا، أن ننتبه إلى حركاتنا ونظراتنا، وإلى ما نحصل عليه أموال ألّا تكون من استحقاقنا، ألّا تكون تجاوزاً على بيت المال ومن الأموال العامة التي هي حقّ الأُمّة، وهذه من الذنوب الكبيرة التي يرتكبها البعض وهو في غفلة عن ذلك، وهذه هي الغفلة عندما لا يعلم الإنسان أنّه يرتكب الذنوب، أو انُّه يستصغر ذلك، وتبدو الذنوب الكبيرة في عينيه صغيرة جدّاً، واستصغار الذنوب بحدّ ذاته ذنب كبير.

إنَّ معرفة الداء نصف الدواء، ومعرفة المشكلة تسهم في إيجاد الحلّ، وكذلك مسألة الذنوب، إنّ معرفة الذنوب تسهم في تكوين الوعي، لذا علينا أن نتعرّف على ذنوبنا، أن ندقَّق في أعمالنا اليوميّة وممارساتنا اليوميّة، خاصّة أولئك الذين هم في نظر المجتمع قدوة؛ إنّ على هؤلاء أن يكونوا حذرين في سلوكهم وتعاملهم وسيرتهم؛ لأنّها تكون في نظر المجتمع معياراً لهم في تبرير ممارساتهم وأعمالهم، وهكذا أشخاص ستكون أخطاؤهم معولاً هداماً في جسم المجتمع.

وقد جاء في الحديث الشريف عن الإمام أمير المؤمنين (ع): «المُؤمِنُ مِرآةُ المُؤمِنِ»[12]، وعندما لا نستطيع التعرّف على أخطائنا وذنوبنا يأتي دور الأخ المؤمن في التنبيه على ذلك. إنّ ضبط النفس وردعها عن ارتكاب الذنوب هو جوهر التقوى وأساسها، فلنسع إلى ترك الذنوب، وأن نحفظ أنفسنا من اقترافها.

احتياج المجتمع والنظام الإسلامي إلى الأشخاص المتقين

إنّ مجتمعنا اليوم وبلادنا بحاجة شديدة إلى الناس الطيّبين؛ إلى هذه القوى البشريّة النزيهة، بحاجة إلى القلوب العامرة بالإيمان والمعرفة والتقوى، إن قوّتنا وقوّة نظامنا وبلادنا تكمن في ذلك. وهكذا فإنّ شهر رمضان المبارك كما هو في الأعوام الماضية فرصة كبرى، وقد وفّقنا الله لصيامه وأداء طاعاته وإنّنا نشكر الله سبحانه على ذلك، فقد أشاع أجوائنا روح الصفاء والأخوّة والإيمان.

الدعاء والذكر والوعي العاشورائي

وهنا أودّ أن أختتم كلامي بالإشارة إلى بعض المشاهد في جبهات الحرب والقتال، لقد شهدت بعضها وشاهدت شبابنا عندما تقترب ساعة الصفر وتقترب بداية العمليّات، حيث احتمال الاستشهاد والرحيل إلى الله بات وشيكاً؛ هناك تتحوّل الخنادق إلى خلايا نحل، وإذا بالصلوات ترتفع، وأصداء المناجاة تملأ القضاء، وتذرف دموع الشوق للقاء الله سبحانه وتعالى، فالآجال تقترب من النهاية، وساعة الرحيل باتت قريبة جدّاً.

إن هكذا مشاهد ربما لم تحصل إلّا في ليلة عاشوراء وفي مخيم أصحاب أبي عبد الله  (ع)، فقد أشارت المدوّنات التاريخيّة إلى أنَّ أنصار الحسين (ع) أحيوا تلك الليلة الطويلة بالدعاء والصلاة والمناجاة، وكان لهم كما يقول التاريخ: دويّ كدويّ النحل في خلاياه، من تلاوة لآيات القرآن الكريم ومناجاة وابتهال وتضرّع؛ لقد كانوا مستغرقين جميعاً في حالة من الصفاء الروحي والقرب الإلهي.

أمّا في ليلة الحادي من المحرّم، وبعد أن انتهت الواقعة، فقد انطفأ ذلك الدويّ، وسكنت تلك الأصداء؛ لأنَّه لم يعد في تلك الخيام المحترقة سوى أطفال ونساء، سوى بكاء الأطفال من الظمأ، وعويل النساء على الشهداء وعلى سيّد الشهداء.

نسألك اللّهمّ وندعوك باسمك العظيم الأعظم الأعزّ الأجلّ الأكرم

وبأوليائك وبدم المظلومين، يا الله يا الله يا الله يا الله يا الله.

اللهّمّ بمحمّد وآل محمّد اجعل هذا الشهر المبارك مباركاً على أمّتنا.

اللّهمّ تقبّل من عبادك في هذا الشهر من الخيرات بفضلك وكرمك.

اللّهمّ بمحمّد وآل محمّد تجاوز عن ذنوبنا وخطايانا في هذا الشهر الكريم يا كريم يا الله.

اللّهم بمحمّد وآل محمّد ارحم موتانا ووالدينا، وتغمّد شهداءنا برحمتك الواسعة.

اللّهمّ بمحمّد وآل محمدّ تقبّل دعاءنا في هذا الشهر وخاصّة ليالي القدر.

اللّهمّ بمحمّد وآل محمّد أطل في أعمارنا في سلامة وعافية، واستجب دعاء إمامنا فينا.

اللّهمّ بمحمّد وآل محمّد ألهم أسر الشهداء الصبر والسكينة، وأجزل لهم الأجر.

اللّهمّ بمحمّد وآل محمّد اكشف كرب المكروبين، وادحر أعداء المسلمين.

اللّهمّ أعنّا على أنفسنا الأمارة بالسوء.

اللّهمّ بمحمدّ وآل محمّد عجّل فرج آل محمّد، وعجّل ظهور مهدي آل محمّد، واجعلنا من أنصاره وجنوده والمستشهدين بين يديه.

اللّهمّ تقبّل منا دعاءنا، وتجاوز عن تقصيرنا.


  • [1]. سورة الفرقان: 77
  • [2].  سورة العنكبوت: 64
  • [3].  سورة الغاشية: 21
  • [4].  سورة الأعراف: 201
  • [5]. سورة التحريم: 8
  • [6]. سورة الأنعام: 160
  • [7]. سورة البقرة: 261
  • [8]. سورة البقرة: 245
  • [9]. سورة  البقرة: 152
  • [10]. سورة إبراهيم: 7
  • [11]. سورة غافر: 60
  • [12].  تحف العقول، باب ما روي عن أمير المؤمنين (ع)، وصيته (ع) لكميل بن زياد.
المصدر
كتاب الاستغفار والتوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟