ليلة القدر، فرصة الاستغفار الكبرى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، نحمده ونستعينه ونتوكّل عليه ونؤمن به وسنتغفره، ونصلّي ونسلّم على حبيبه ونجيبه وخيرته في خلقه، حافظ سرّه ومبلّغ رسالاته، بشير برحمته ونذير بنقمته، سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمّد وعلى آلة الأطيبين الأطهرين المنتجبين المعصومين، سيّما بقيّة الله في الأرضين، اللّهمّ وصلّ على أئّمة المسلمين وحُماة المستضعفين وهداة المؤمنين.
أُوصي جميع الأخوة والأخوات المؤمنين والمؤمنات في هذه الساعات والأيّام والليالي المباركة باغتنام الفرصة والاستفادة من بركات هذا الشهر الكريم، شهر نزول البركات من لدن الله تبارك وتعالى، أُوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى ومراقبة النفس، وأن نجعل الله سبحانه نصب العين في سلوكنا وكلامنا، وأن ننتبه إلى الأشواك والمزالق في طريقنا، والتزام الاستقامة في المواطن والمنعطفات المزلزلة في مسار حياتنا الفرديّة والاجتماعيّة، والتزام الوسائل التي وهبها الله لنا من اجل العبور واجتياز المنزلقات والوصول إلى الغاية والهدف؛ وهذه هي التقوى، وطالما سمعتم أنّ شهر رمضان المبارك والصوم في هذا الشهر ينمّي في النفوس حالة التقوى: <لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ>[1]
وعندما نلاحظ الأعمال التي يدعو الشارع المقدّس المسلمين إلى القيام بها في شهر رمضان المبارك من تلاوة الكتاب العزيز، القرآن المجيد، وقراءة الأدعية المأثورة، والتضّرع إلى الله (عز وجل)، والاستغفار الذي هو عنصر مهمّ جدّاً، ندرك أهمّيّة الاستغفار، وطلب المغفرة من الله تبارك وتعالى من كلّ قصور ومن كلّ جهل ومن كلّ تقصير بدر منّا.
في مثل هذه الأيّام المباركة في العام الماضي كنت قد تحدّثت بالتفصيل عن موضوع التوبة والاستغفار، واليوم لا أُريد أن أكرّر ما قلته حول الاستغفار في العام الماضي كبحث فكري أو بحث قرآني وحديثي، إنّما أُريد أن نستذكر بعض ما تحدّثنا عنه حول الاستغفار بمناسبة اقتراب ليالي القدر المباركة الفائقة الأهمّيّة.
استغفار أولياء الله
أيها الأعزّاء! أخوتي وأخواتي! إنّ الخطوة الأولى هي طلب الغفران من الله تبارك وتعالى والعودة إلى الله (عز وجل)؛ أينما كنتم وتكونون، وفي أيّ مستوى من الكمال بلغتموه حتّى لو كنتم على مستوى الإمام أمير المؤمنين علي (ع)، فإنّكم بحاجة ماسّة إلى الاستغفار؛ إنّ الله (عز وجل) يخاطب نبيه وحبيبه محمّدًّ قائلاً: <وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ>[2]، <فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ>[3]
وفي كثير من الآيات القرآنية يأمر الله سبحانه أنبياءه الكرام بالاستغفار، طبعاً أنّ استغفار الأولياء والأنبياء موضوع قابل للبحث والتحقيق، إنّ استغفار الأنبياء ليس من الذنوب التي يرتكبها أمثالنا، إنّ الأنبياء يتمتّعون بالعصمة، وقد بلغوا الدرجات العلى في سلّم القرب الإلهي؛ فهناك أشياء هي بالنسبة لنا جزءٌ من المباحات وربما تكون من المستحبّات، وهي بالنسبة إلى نبيّنا الكريم (ص) تعدّ من الموانع؛ لأنَّها لا تتناسب مع مقامه الرفيع في القرب من الله سبحانه وتعالى، ولذا فهو يستغفر الله من ذلك استغفاراً جاداً وليس استغفاراً شكليّاً وصوريّاً .
وعندما نتأمّل في دعاء كميل نلاحظ أنّ الإمام أمير المؤمنين (ع) يفتتح دعاءه بالاستغفار، فهو يقسم على الله (عز وجل) باسمه وبقدرته وبعظمته وبصفات جلاله وجماله، وبعد هذه السلسلة العظيمة من القسم يقول (ع): «اَللّهُمَّ اغْفِرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تَهْتِكُ الْعِصَمَ»، وهكذا في دعاء أبي حمزة الثمالي والأدعية الأُخرى الصادرة عن أئّمة أهل البيت (عليهم السلام).
أنا وإيّاكم بحاجة إلى الاستغفار! أيّها المؤمنون الأعزّاء يا أهل القلوب الصافية النقيّة الطاهرة لا تغترّوا بطاعتكم، ولا تقولوا في نفسكم: إنّنا لم نرتكب الذنوب، نحن في مأمن، كلّا نحن غارقون في التقصير والقصور! «وَما قَدرُ أَعمالِنا في جَنبِ نِعَمِكَ»[4].
إنّ ما نقوم به من أعمال صالحة لا تساوي شيئاً في مقابل النعم التي أنعم الله بها علينا، والتي لا يمكن إحصاؤها والتي تستوجب الشكر إلّا أنَّ الإنسان لا يمكنه أن يقوم بذلك أبداً، بل أنّ شكرنا لله هو نعمة من الله تستوجب الشكر أيضاً «لَا الَّذي أَحسَنَ استَغنى عَن عَونِكَ»، وهل يمكن أن يستغني عن الله (عز وجل) وهو الفقير المطلق المحتاج دائماً وفي كلّ لحظة إلى الغني الحميد الذي ينزل خيره إلينا على الدوام: «خَيرُكَ إِلَينا نازِلٌ».
إنّنا عاجزون تماماً عن شكر الله وفي هذا قصور وتقصير وعلى كلّ حال، فإنَّ الاستغفار مطلوب من الجميع وواجب على الجميع.
ليلة القدر هي فرصة الاستغفار
إنّ ليلة القدر فرصة كبرى لطلب المغفرة والاعتذار إلى الله عزّوجلّ؛ اعتذروا لله سبحانه وتعالى، وقد منحنا الله فرصة للاعتذار والاستغفار والتوبة والعودة إلى طريق الرشاد؛ اطلبوا من الله الغفران من قبل أن يأتي يوم يخاطب فيه الله تبارك وتعالى المجرمين: <وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ>[5]، لن يجدوا يومئذٍ فرصة للاعتذار، لا توجد في يوم القيامة فرصة لكي يعتذر المجرمون، سوف تنعقد ألسنتهم ولا يستطيعون الاعتذار.
الفرصة متاحة اليوم للجميع لكي يعتذروا ويستغفروا ويغتسلوا من الذنوب، فتسطع القلوب بالنور، وتتنزل الرحمة الإلهيّة.
مدّوا أكفكم إلى الله وتوبوا، ولا تنسوا الله فينساكم الله، ويأتي النداء يوم القيامة: <إِنَّا نَسِينَاكُمْ>[6] كما نسيتم لقاء هذا اليوم.
إن الله سبحانه وهبنا فرصة في هذه الحياة لكي نتضرّع إليه، ونذرف دموع الندم على ما بدر منّا من الذنوب من قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه الندم ولا الصراخ: <لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ>[7]، واغتنموا هذه الفرصة؛ فرصة الحياة الدنيا، واغتنموا الأيّام المباركة في شهر رمضان المبارك وليالي القدر العظيمة وخاصّة الليالي الثلاث، أو ليلتي الحادي والعشرين والثالث والعشرين من هذا الشهر المبارك.
وقد جاء في مرويّات[8] المحدّث القمّي رحمه الله، أنَّه سئل عن ليلة القدر: هل هي ليلة الحادي والعشرين أم الثالث والعشرين؟ فقال في معرض الجواب: لماذا يدقّق المرء في ذلك؟ وكم تستغرق من الوقت هذه الليالي؟ إنّ هناك من يتعبد في تمام الشهر المبارك كما لو أنّ كلّ لياليه ليالي القدر؛ إنّ علينا أن نعرف قدر ليالي القدر وقدر ليالي الشهر كلّها.
الآثار الاجتماعية للاستغفار
إنّ الأمّة التي تتطلّع إلى الله (عز وجل) وتعبد الله وتسجد لله في بيوت الله، وتسلّم أمورها إلى الله سبحانه وتعالى، وتصدق في علاقتها بالله سبحانه وتعالى هي اُمّة موفّقة دائماً، وتعيش مرفوعة الهامة عزيزة قويّة، لا يستطيع العدوّ مهما بلغ من قدرة وكيد أن يقهرها، أمّة ثابتة متآلفة؛ لأنَّ الله سبحانه هو الذي يؤلّف بين القلوب. إن كلّ ما يعتري الأُمّة من بؤس وحرمان <فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ>[9]، إنّ الذنوب والغفلة تجرّ على الناس الشقاء، وبالعكس فإنّ الطاعة والتسليم لله وعمل الصالحات يعود بالسعادة والخير والرخاء والحياة الكريمة الطيّبة؛ لنلجأ إلى الله ونلوذ به، ونطلب منه أن نعمل في سبيله ونسير في طريقه ونعمر قلوبنا بذكره. وعندما تصفو قلوبنا، وعندما تتحرّر قلوبنا من أسر الدنيا ومطامعها؛ فإنّ النور يغمر أُمّتنا ويصفو مجتمعنا ويتحرّك الناس من أجل إعمار دنياهم وآخرتهم، فمن لا دنيا له لا آخرة له؛ والدنيا مزرعة الآخرة، إن عدم حبّ الدنيا لا يعني أن نزهد فيها، فلا نعمل ولا نسعى، بالعكس، إنّ إعمار الدنيا أمر يريده الله سبحانه وتعالى وهو عمل أُخروي، إنَّ الإنسان الذي يعمل من أجل دنياه هو عمل من أجل الآخرة إذا كان في سبيل الله، ويرافقه ذكر الله وتقوى الله.
خيرٌ من ألف شهر
اعرفوا قدر هذه الأيّام وقدر ليالي القدر؛ إنّ القرآن الكريم يقول بكلّ وضوح: <لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ>[10]، وفي هذا قدر عظيم؛ في هذه الليلة تهبط الملائكة، تحمل سلام، تحمل السكينة والطمأنينة والسلام بين الناس.
ادعو الله سبحانه وتعالى في حلّ مشكلات البلاد ومشكلات جميع المسلمين في العالم. ادعو الله سبحانه وتعالى لهداية عباده.
ادعو أن يغمر بالرحمة موتى المسلمين، وادعوه لقضاء حوائج جميع المؤمنين، وأسألكم الدعاء في ليالي القدر وأسأله سبحانه وتعالى الإجابة. نسألك اللّهمّ وندعوك باسمك العظيم الأعظم الأعزّ الأجلّ الأكرم، يا الله يا الله يا الله.
اللّهمّ وفّقنا لإدراك ليلة القدر.
اللّهمّ ارزقنا ثواب هذه الليالي العظيمة.
اللّهمّ استجب دعاءنا في ليالي القدر.
اللّهمّ وأبلغ سلامنا وتحيّاتنا إلى وليّنا بقية الله أرواحنا فداه.
اللّهمّ أعزّ أُمّتنا بعزّتك.
اللّهمّ ادحر أعداء الإسلام في كلّ مكان.
اللّهمّ هب شهداءنا الأعزّاء الدرجات العالية، واحشرهم مع أوليائك وعبادك الصالحين.
اللّهمّ احشر روح الإمام مع أوليائك.
اللّهمّ ارحم موتانا ووالدينا ومن له حقّ علينا، واغفر لهم.
اللّهمّ فرّج عن جميع المكروبين بكرمك.
اللّهمّ اجعل علاقتنا بالقرآن والإسلام قويّة وثيقة أكثر فأكثر.
اللّهمّ ارزقنا العمل بأحكام القرآن الكريم برحمتك يا أرحم الراحمين.
تعليق واحد