آثار الذنب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، أحمده وأستعينه واستمدّ منه وأتوكل عليه، وأُصلّي على حبيبه ونجيبه وخيرته في خلقه وحافظ سرّه ومبلّغ رسالاته، سيّدنا أبي القاسم المصطفى محمّد وعلى آلة الأطيبين المنتجبين، الهداة المهديّين المعصومين، سيّما بقيّة الله في الأرضين، وصلّ على أئمة المسلمين وحماة المستضعفين وهداه المؤمنين.
قال الحكيم في كتابه: بسم الله الرحمن الرحيم <وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا>[1].
إنّ شهر رمضان المبارك هو شهر التوبة والاستغفار والاستغاثة، وأبارك لكم أيّها الأعزّاء وجميع المسلمين في العالم هذا الشهر الكريم.
وإنّني أفتتح الخطبة الأولى ـــ التي سأتطرق فيها إلى بعض المواضيع ـــ بدعوتكم أيّها المصلّون الأعزّاء إلى التزام تقوى الله (عز وجل)، فهذا شهر التقوى، والصوم وسيلة لتحصيل التقوى، والتقوى ذخر المؤمن في الدنيا والآخرة، الفرد المؤمن والمجتمع المؤمن؛ وإنني أرجو الله سبحانه وتعالى أن يغمرنا جميعاً برحمته، ويوفّقنا لاكتساب التقوى، وأن يوفّق المجتمع الإيراني الكريم لما يحبّ ويرضى.
ورد في دعاء شهر رمضان المبارك هذا الوصف: «وَهذا شَهرُ الإِنَابةِ، وَهذا شَهرُ التَّوبَةِ، وَهذا شَهرُ العِتقِ مِنَ النّارِ». ولذا سأتحدّث في هذه الخطبة عن موضوع الاستغفار؛ إنّ الاستغفار يعني طلب المغفرة والعفو الإلهي عن الذنوب؛ ولو قام المرء بالاستغفار على نحو صائب، فإنّ باب بركات الله سبحانه تنفتح عليه.
الاستغفار وسيلة إلى الألطاف الإلهية
إنّ كلّ ما يحتاج إليه الفرد والمجتمع الإنساني من الألطاف الإلهيّة، ومن التفضّلات الإلهيّة، ومن الهداية والنور الإلهي، ومن توفيق الله سبحانه وتعالى، ومن الظفر في ميادين الحياة المتنوّعة، إنّ كلّ ذلك ينغلق طريقه علينا بسبب الذنوب التي نرتكبها؛ لأنّ الذنوب حجاب يحول بيننا وبين رحمة الله (عز وجل)، ولا وسيلة لرفع الحجب إلّا الاستغفار والتوبة؛ ذلك أنّ الاستغفار هو الذي يرفع الحجاب، فتسطع أنوار الرحمة الإلهيّة علينا. وهذه هي فائدة الاستغفار؛ ولذا تلاحظون في العديد من آيات القرآن الكريم إشارة إلى أهميّة الاستغفار ودوره في الحياة الإنسانيّة من قبيل قوله تعالى في محكم كتابه العزيز: <اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا>[2].
وهناك الكثير من الآيات في هذا المضمار ما يدلّ على أهميّة الاستغفار، وأنّه السبب في نزول الرحمة والبركات الإلهيّة في حياة الفرد والمجتمع. والحقيقة أنّ نفس الاستغفار جزء من التوبة؛ ذلك أنّ التوبة تعني العودة إلى الله (عز وجل)، وأنّ أحد أركان التوبة هو الاستغفار، يعني طلب العفو والغفران من الله (عز وجل)، وهذا من أكبر النعم الإلهيّة، يعني أنّ الله (عز وجل) فتح باب التوبة لعبادة الخاطئين من أجل أن يعودوا إليه، ويستأنفوا طريق الكمال، ولا تعرقل الذنوب حركتهم وتعيقهم عن السير في طريق التكامل الإنساني.
الآثار المعنوية للذنوب
إنّ الذنوب تطيح بالإنسان من علياء كرامته؛ وإنّ كلّ خطأ وذنب يقترفه الإنسان هو في الحقيقة ضربة توجه إلى الصميم من الروح، وتعكّر صفاءه ونقاءه، تزلزل شخصيّته الآدميّة، إنّ الذنوب تلوّث نقاء الروح وصفاء القلب، وإنّه لما يميز الإنسان عن سائر الكائنات في هذا العالم المادّي هو شفاّفية روحه، فإذا تلوّثت الروح بشوائب الذنوب، فانّ الإنسان ينسلخ عن إنسانيّته وآدميّته، ويكون قريباً جداً من البهيميّة. هكذا تفعل الذنوب في حياة الإنسان.
إنّ للذنوب وارتكاب الذنوب دوراً في حياة الإنسان؛ ذلك أنّ الفشل الذي يعتور طريق الإنسان مردّه إلى الذنوب التي يقترفها، فالذنوب والخطايا تلقي بظلالها السلبيّة على حياة الإنسان وتعيق حركته وسيْره، طبعاً أنّ لهذا مبرّراته العلميّة والفلسفيّة، وليس مجردّ التعبّد، أجل إنّ لهذا مبرّراته العلميّة والنفسيّة؛ كيف يقعد الذنب بحياة الإنسان ويفشل حركته؟ على سبيل المثال ما حصل في معركة أحد، لقد انتصر المسلمون في البداية انتصاراً باهراً، وراحوا يطاردون فلول المشركين؛ ولكنّ الرماة المرابطين في الجبل عصوا الرسول الأكرم (ص)، وتركوا الجبل طمعاً في الأسلاب والغنائم، فانكشفت مؤخرة جيش الإسلام، وقام المشركون بحركة التفاف قويّة حوّلت نصر المسلمين إلى هزيمة ساحقة، واستشهد أثر ذلك العشرات من جنود الإسلام.
في سورة آل عمران آيات عديدة تحدّثت عمّا جرى في أُحد، لقد هزّت حوادث معركة أُحد نفوسهم بقوّة، وقد كلّفتهم الهزيمة ثمناً غالياً، وكانت الآيات القرآنية تهدّئهم وتسكّنهم وتهديهم وتبيّن لهم ما وراء هذه الحادثة المريرة، على أن تصل بهم إلى قوله تعالى: <إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا>[3]، وتشير الآية إلى أنّ الذين فعلوا ذلك إنّما استزلهم الشيطان ببعض ما قاموا به من أعمال من قبل حدوث المعركة، يعني ارتكابهم الذنوب فظهرت آثارها في جبهة القتال، وهكذا فإنّ الذنوب التي يقترفها المجتمع تظهر آثارها في المجال العسكري، وفي المجال السياسي، وفي مواجهة العدوّ، وفي مجال التربية والتعليم، وفي مجال البناء؛ وفي المجالات التي يتطلّب وجود الاستقامة فيها ويتطلّب فهمها وإدراكها، وفي المجالات التي ينبغي أن يكون الإنسان كالفولاذ في قوّته وحركته وصلابته، هنا يأتي دور الذنوب وتظهر آثارها؛ طبعاً إنّ المراد الذنوب التي لم يتب الإنسان منها توبة نصوحاً ولم يستغفر منها استغفاراً حقيقياً.
وفي نفس هذه السورة المباركة (آل عمران) آية أُخرى تتحدّث عن نفس هذا المعنى وعلى نحو آخر، وهو عندما يقول القرآن الكريم حسناً ليس الأمر عجيباً أن يكون مآلكم الانكسار في جبهات الحرب، فهذه أُمور تحدث وقد حدثت في الماضي، قال تعالى: <وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا >[4].
إنّ ما حدث في معركة أُحد من هزيمتكم بحيث تزلزلتم وشعرتم بالحزن الشديد لما أصابكم، وشعرتم بالضعف والهوان واليأس بسبب الخسائر في الأرواح، إنّ كلّ ما حصل كان بسبب الذنوب.
وقد كان أصحاب الأنبياء فيما مضى عندما يجري عليهم ما جرى عليكم، كانوا يقولون: <مَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا>[5].
كانوا يتوجّهون إلى الله سبحانه طالبين العفو والمغفرة من الذنوب التي ارتكبوها وسبّبت لهم هذه المشكلات، لقد انتبهوا إلى أنّ ما أصابهم كان بسبب الذنوب وبسبب الإسراف في أُمورهم.
لاحظوا إذن أنّ الذنوب التي يرتكبها الإنسان إنّما هي ناجمة عن الاستجابة للشهوة، وعن حبّ الدنيا، وعن الطمع والحرص على المال والثروة، والالتصاق بالمناصب، والإخلاد إلى الحياة الدنيويّة، وعن البخل، وعن الحسد والعصبيّة.
إنّ للذنوب المختلفة نوعين من التأثير في وجود الإنسان؛ الأثر الأوّل أثر معنوي وروحي، حيث تفقد الروح شفّافيّتها، وتتراجع حياة الإنسان معنوياً، وتنغلق أبواب الرحمة الإلهيّة بوجه الإنسان؛ والأثر الثاني يظهر في ميدان الجهاد والصراع الاجتماعي وحركة الحياة عندما يكون المرء بحاجة إلى العمل الجادّ والمقاومة وإظهار اقتدار الإرادة الإنسانيّة، هنا يظهر أثر الذنوب، وإذا ما انتفى العامل الآخر الذي يعوّض ذلك فإنّ مصير الإنسان سيكون السقوط؛ فربما توجد صفة جيّدة في الإنسان تعوّض عليه ما تسبّبه الذنوب من الخسائر وتنقذه من خطر السقوط؛ إنّنا نتحدّث عن الذنوب بنفسها وآثارها.
الاستغفار نعمة إلهية لمحو الذنوب
إنّ الله سبحانه وتعالى وهب الإنسان نعمة كبرى، ألا وهي نعمة الغفران؛ يعني أنّ الإنسان عندما يرتكب الذنب فإن أثره يبقى في نفسه، فالمكروب عندما يتسلّل إلى جسم الإنسان فانّه يمرض، الذنب مثل المكروب، وعندما يتعرّض جسم الإنسان لجرح فانّه يترك أثره، وهذا أمر حتمي لا مناص منه؛ وهكذا عندما يتعرّض الإنسان لضربة، وفي هذه الحالة فإنّ الله (عز وجل) فتح باباً لعباده؛ وهذا الباب هو التوبة وباب الاستغفار وباب الإنابة والعودة إلى الله (عز وجل)، فإذا عاد الإنسان إلى رشده فانّ الله سبحانه يغفر ذنبه ويعفو عنه ويصفح؛ وهذه نعمة كبرى أنعم الله سبحانه وتعالى بها على عباده.
جاء في دعاء شهر رمضان المبارك وهو الدعاء الخامس والأربعون في الصحيفة السجّاديّة قول الإمام زين العابدين (ع) يخاطب الذات الربوبيّة المقدّسة: «أَنَتَ الَّذي فَتَحتَ لِعِبادِكَ باباً إِلى عَفوِكَ وَسَمَّيتَهُ التَّوبَةَ»، وجعلت على ذلك الباب دليلاً من وحيك لئلّا يضلّوا عنه. وهذا الدليل من القرآن الكريم حتّى لا يضيع. «فَما عُذرُ مَن أَغفَلَ دُخولَ ذلِكَ المَنزَلَ بَعدَ فَتحِ البَابَ وَإِقامَةِ الدَّليلِ».
ترى ماذا سيكون عذر الإنسان الذي يغفل عن دخول الباب وقد قام الدليل؟! ما هو عذر الإنسان الذي يذنب ثمّ لا يستغفر من ذنبه ويتوب ويثوب إلى رشده؟!
هنالك حديث ورد عن النبّي الأكرم (ص) وقد سجّلته وهذا الحديث يقول: «إِنَّ اللهَ تَعالى يَغفِرُ لِلمُذنِبينَ إِلّا مَن لا يُريدُ أن يُغفَرَ لَهُ. ووفقاً للرواية أن بعض الصحابة قالوا: يا رَسولَ اللهِ مَنِ الَّذي لا يُريدُ أن يُغفَرَ لَهُ؟ قالَ (ص): مَن لا يَستَغفِر»[6]، إذن فإنّ الاستغفار مفتاح التوبة.
وهنا أذكر بعض النقاط في هذا المجال قد تكون إن شاء الله تعالى وسيلة في هذا الشهر المبارك، شهر التوبة والرحمة والمغفرة للعودة إلى الله (عز وجل)، والاستفادة من فتح أبواب الرحمة الإلهيّة، وفي هذا لنا مكسب في الدنيا والآخرة وفيه تقدّم بلادنا في جميع الميادين المختلفة.
المانع الأول للاستغفار: الغفلة
أوّلاً أنّنا إذا أردنا أن نستغفر، وأن نتمتّع بهذه النعمة الإلهيّة علينا أن نبعد عن أنفسنا خصلتين؛ الأولى: الغفلة والثانية: الغرور؛ والغفلة غياب اليقظة غياباً تامًّا؛ يعني أنّ الإنسان يرتكب الذنوب ولا يعي أنّه يرتكبها، مثل بعض الناس، سواء كانت تلك الحالة لديهم شديدة أو قليلة، وتتفاوت نسبة هؤلاء الأشخاص في المجتمعات، في بعضها نسبة قليلة وفي بعضها كثيرة؛ وعلى أيّة حال هؤلاء الأشخاص موجودون وغارقون في عالم الدنيا وتوجّهاتها الماديّة، فهم يكذبون ويتأمرون ويمارسون الغيبة، ويلحقون الأضرار بالآخرين، ويتسبّبون بالشرور لهم؛ يحطّمون ويقتلون، ويحيكون الدسائس للإيقاع بالأبرياء، وعلى نطاق أوسع وأخطر هناك من يسعى إلى التآمر والإضرار باستقلال الدول وأمن الشعوب، ويشعلون نيران الحروب، ويوقدون نار الفتن؛ يمارسون كلّ ذلك من دون أن يرفّ لهم جفن، بل أنّهم يمارسون ذلك على نحو عادي وطبيعي، وعندما يواجههم أحد بذلك فإنّهم يضحكون ويقهقهون قائلين بكلّ سخريّة واستهزاء: ذنوب ماهي الذنوب ؟! ماذا يعني ذلك؟!
بعض هؤلاء الغافلين لا يعتقدون أساساً بمسألة الثواب والعقاب الاُخروي؛ وبعضهم يعتقدون ذلك، ولكنّهم مستغرقون في مستنقع الغفلة، ولا يعون تماماً ماذا يفعلون.
إنّنا لو دقّقنا النظر في حياتنا اليوميّة لوجدنا أنفسنا أحياناً نعيش في حالة الغفلة ونتصرّف كالغافلين؛ إنّ الغفلة لأمر عجيب حقًّا!! وإنها لخطر كبير جدّاً، ولعلّه لا يوجد خطر أكثر من الغفلة، ولا عدو أخطر من الغفلة يتهدّد حياة الإنسان ومصيره.
إنّ الإنسان الغافل لا يفكّر في مسألة الاستغفار أبداً، إنّه لا يتذكّر هذه المسألة على الإطلاق، ولا يعي أبداً أنّه يرتكب الذنوب في مسار حياته، إنّه غارق تماماً في المعاصي، كأنّه سكران، وغارق في نوم عميق تماماً كما لو أنّ المرء يقوم في نومه بحركة ما، ولذا فإنّ أهل السير والسلوك الأخلاقي؛ ولدى بيانهم منازل السالكين في مسلك الأخلاق وتهذيب النفس؛ يطلقون على الإنسان الذي يريد أن يغادر الغفلة اسم «منزل اليقظة» أو الصحوة.
وفي الاصطلاحات القرآنية فإنّ الشيء الذي يقع في النقطة المعاكسة للغفلة هي التقوى؛ فالتقوى تعني اليقظة والوعي ومراقبة السلوك باستمرار؛ فالإنسان الغافل يرتكب عشرات الذنوب ولا يعي أنّه يفعل ذلك؛ أمّا الإنسان المتّقي فإنّه يقف في الجانب المقابل تماماً، فعندما يرتكب ذنباً صغيراً فإنه ينتبه فوراً ويتذكّر فوراً ويعي أنّه قد اقترف سيّئة، لذا فإنّه يستغفر الله حالاً، ويشعر بالندم العميق، ويتّخذ قراره بسرعة في العودة إلى الله: <إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا>[7]، فما إن يخطف الشيطان، ويلقي بظلاله القاتمة على الإنسان المتّقي انتبه فوراً إلى ذلك، وعاد إلى حالة اليقظة والوعي، فإذا هم مبصرون: سرعان ما يبصر الحقيقة لقد مسّه طائف من الشيطان، وعليه أن يستغفر الله ويعود إليه. إنّ الغفلة من أكبر الموانع التي تحول المرء والاستغفار والتوبة.
انتبهوا يا أعزائي يا أخوتي وأخواتي جميعاً إنّ هذا الخطاب لا يختصّ بفئة دون فئة ولا بشريحة دون أخرى، لا يختصّ بالمتعلّمين ولا بالأميين، لا بالشباب وحدهم ولا بالصغار، كلا إنّه يخصّ الجميع بما في ذلك العلماء الكبار والأساتذة والمفكّرين والشخصيّات البارزة الأثرياء والفقراء، نعم الجميع علينا أن ننتبه جميعاً إلى مسألة الغفلة، بحيث نرتكب الذنوب ولا نعي أنّنا نفعل ذلك، وفي هذا خطر كبير.
إنّ ما نقوم به من أعمال سيّئة وما نقترفه من الذنوب، ثم لا ننتبه إلى ذلك ولا نعي أنّنا نرتكب الذنوب ولا نستغفر منها، ثمّ يوم القيامة تنفتح أبصارنا على الحقيقة، فنرى في صحائف أعمالنا العجب العجاب، فيتساءل المرء بحيرة: كم هي ذنوبي؟ متى ارتكبتها؟! هذا ما تفعله الغفلة في حياتنا ومصائرنا، إنها حجاب كثيف يحول بين المرء والاستغفار والتوبة.
المانع الثاني للاستغفار: الغرور
المسألة الثانية: الغرور أو الاغترار، يقوم المرء بعمل (إيجابي) ما فيصيبه الغرور، وجاء في نصوص الأدعية «الاغترار بالله» في الصحيفة السجّاديّة، في الدعاء السادس والأربعين الذي يقرأ في أيّام الجمعة عبارة مزلزلة للغاية: «وَالشَّقاءُ الأَشقى لِمَنِ اغتَرَّ بِكَ، ما أَكثَرَ تَصَرُّفَهُ في عَذابِكَ، وَما أَطوَلَ تَرَدُّدَهُ في عِقابِكَ، وَما أَبعَدَ غَايتَهُ مِنَ الفَرَجِ، وَما أَقنطَهُ مِن سُهولَةِ المَخرَجِ»، لماذا يكون مصيره هكذا؟ لأنّه عندما صلّى ركعتين مثلاً أو قام بعمل إيجابي أصابه الغرور، ولم تعد تساوره المخاوف! لأنّه اغترّ بعمله، اغترّ بما قام به من خدمة للناس أو تقديمه المساعدة المالية إلى المحتاجين، لهذا فهو يستصغر بعض الذنوب؛ لذا يجب الانتباه دائماً إلى أنّ الذنوب تفعل فعلها المدمّر في حياة الإنسان، إنّها تلقي به في التهلكة، إنّها تجعله ينسلخ من آدميّته وإنسانيّته فيتحوّل إلى حيوان مفترس! هكذا تفعل الذنوب في وجود الإنسان.
إنّ الكذب والغيبة وانتهاك الكرامة الإنسانيّة والظلم ولو على مستوى ضئيل، إنّ كلّ ذلك ذنب عظيم.
ليس من اللازم أن يشعر الإنسان بالذنب، إن يتمادى سنيناً طويلة في ارتكاب الذنوب، حتّى لو ارتكب الإنسان ذنباً واحداً، فانّه يتوجّب عليه ألّا يستصغر ذلك الذنب، فقد جاء في الروايات في باب «استحقار الذنوب» ذمّ لهذه الحالة، وهي أن يستصغر الإنسان ذنبه؛ فالذنب ذنب حتّى لو كان صغيراً، ولأنّ التوبة تعني العودة إلى الله (عز وجل)، لهذا فإنّ الذنب يُبعد الإنسان عن الله؛ ومع ذلك فإنّ ذكر الله يحظى بالأهميّة الكبرى؛ لأنّه يخلّص الإنسان من تبعات الذنب، التي هي حالة مرضية؛ يقوم الاستغفار بعلاج هذه الحالة؛ إنّ بعض الذنوب تأتي من حالة الاغترار التي تصيب الإنسان وتثنيه عن الاستغفار.
وفي دعاء آخر من الصحيفة يقول الإمام (ع): «فَأَمّا أَنتَ يا إِلَهي فَأَهلٌ أَن لا يَغتَرَّ بِكَ الصِّدّيقونَ»[8]، فياله من بيان رائع، ويا لها من معرفة بالله العظيم! فحتى الصدّيقون الذين بلغوا الذروة بما وصلوا إليه من الدرجات السامية، ويتصوّروا أنّهم لم يعودوا بحاجة إلى السعي والمثابرة؛ كلاّ؛ لأنَّ هذه التصوّرات تحول بينهم وبين الاستغفار؛ إنّ كلّ أشكال الاغترار بالله تنطوي تحت عنوان الغفلة، وهو خداع للنفس وإعجاب بالذات.
شرائط الاستغفار الحقيقي
النقطة الأخرى هي أنّ الاستغفار الذي يحلّ المعضلات هو عبارة عن الاستغفار الحقيقي الجادّ؛ لنفترض أنّ أحدهم عرضت له مشكلة وقد سلك الطرق العادية لحلّها، فراح يتضرّع إلى الله سبحانه لحلّها؛ مثلاً يصاب أحد أعزائكم بمرض وتشرّف هو بحجّ بيت الله الحرام؛ ترى كيف سيكون دعاؤه وهو يقف في رحاب الله أمام الكعبة الشريفة؟ كيف سيكون دعاؤه لشفاء عزيزه من المرض؟ هكذا يجب أن يكون دعاء الإنسان في الاستغفار من الذنوب.
طبعاً من الممكن ان يقرّر الإنسان ألّا يرتكب ذنباً؛ ثمّ ينزلق في الطريق ويقترف الخطيئة، ثمّ يتوب بعد ذلك، يفعل ذلك مئة مرّة ثم يتوب فإنّه يجد باب التوبة مفتوحاً، ولكنّ المرء الذي يتوب، ويستغفر ينبغي عليه أن يقرّر ذلك من البداية، لا ينبغي على المرء أن يكرّر الخطأ باستمرار، فهذا أمر غير صحيح.
ثمّة رواية أتصوّر أنّها واردة عن الإمام علي بن موسى الرضا (ع) أو جدّه الإمام جعفر الصادق (ع)، جاء فيها: «مَنِ استَغفَرَ بِلِسانِهِ وَلَم يَندَم بِقَلبِهِ فَقَدِ استَهزَأَ بِنَفسِهِ»[9].
إنّ الاستغفار في الحقيقة يجب أن ينطوي على حالة من الندم، هذا هو جوهر الاستغفار، والحقيقة أنّ الاستغفار اللساني بعيداً عن حالة الندم ومشاعر الندم، إنّ هكذا استغفار مجرّد سخرية من النفس؛ إنّ على الإنسان أن يطلب المغفرة بشكل جادّ، وأن يقرّر عدم تكرار الذنب؛ وإّلا فإنَّ الاستغفار بالسبحة مجرّد لقلقة لسان، إذا كان القلب يموج بالرغبة لارتكاب الذنب.
ما هذا الاستغفار الذي لا يتجاوز اللسان وينفذ في القلب؟!
الاستغفار الجماعي
إنَّ الاستغفار في حقيقته يشمل الجميع، حتّى الأنبياء يجب عليهم الاستغفار: <لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ>[10]
الاستغفار إمّا أن يكون من ذنوب ارتكبناها أو من الذنوب الأخلاقية، نفترض أنّنا لم نرتكب ذنوباً على الاطلاق؛ طبعاً هذا النوع من الناس ضئيل جدّاً، لا يكذبون ولا يغتابون ولا يظلمون، ولا يتجاوزون على حقوق الآخرين، ولا يعتدون على ممتلكات الآخرين، لا توجد في صحيفة أعمالهم ذنوب من هذا النوع؛ ذنوب من «الجوارح» ولكن لديهم ذنوب من «الجوانح» ذنوب أخلاقيّة، إنّ الإنسان الذي يتصوّر نفسه بأنّه لم يذنب ولم يرتكب معصية، عندما يمشي بين الناس وينظر إليهم ويقول في نفسه: مساكين هؤلاء الناس إنّهم يرتكبون الذنوب، أمّا أنا والحمد لله لست مثلهم؛ وهكذا يتصوّر نفسه بأنّه أفضل من الآخرين فيتعالى عليهم، أو يكون مبتلى ببعض الصفات مثل الحسد والطمع والعجب بالنفس وأمثال ذلك؛ إنّ هذه الأمور يجب الاستغفار منها.
ولو افترضنا خلوّ الإنسان من هذا؛ فإنّ في باب علم التوحيد والمعرفة بالله (عز وجل)، وهو باب لا تحدّه حدود وطريق ليست له نهاية، حيث الأنبياء والأولياء مستغرقون في السير قدماً نحو ذري التكامل الإنساني من خلال تنمية المعرفة بالله (عز وجل) وصفاته الكماليّة المطلقة؛ إن عدم التقدّم في هذا المضمار هو قصور وتخلّف، هو عجز معنوي يتطلّب الاستغفار.
الاستغفار لازم للجميع؛ ولذا نلاحظ الأئمّة الأطهار كيف يدعون الله سبحانه بحرقة وتضرّع؛ يتصّور البعض أنَّ الإمام السجّاد وهو يدعو الله بهذه الحرقة وبهذه الدموع إنّما يفعل ذلك ليعلّم الآخرين. نعم في هذا جانب تعليمي في الأسلوب والمضمون، ولكنّ أصل المسألة أنّ الدعاء نابع من أعماقه، نابع من نفس ذلك الإنسان الكريم والعبد الصالح، إنّه نابع من أعماق الإمام التي تضطرم بشعلة الحقيقة بوهج الحقيقة؛ إنّ هذا التضرّع نابع من أعماقه من الصميم، إنّه مستغرق في خشية الله، مستغرق في التقرّب من الله (عز وجل) والرغبة العارمة في تحقيق الرضوان الإلهي؛ لقد تسامى في معرفة الله سبحانه وتعالى، فجاءت أدعيته على هذا النحو الذي يذيب الصخر.
من الممكن أن يكون هناك اهتمام بالمباحات؛ هناك الكثير من المباحات في الحياة؛ لذائذ مباحة، أعماله مباحة، إنّه هذه الأمور لدى الإنسان الذي بلغ الدرجات الرفيعة تعدّ حالة من السقوط والانحطاط؛ ذلك إنّ جلّ اهتمامه أن لا يكون محصوراً في ضرورات الحياة المادّية والجسمية، لذلك فهو لا يأبه حتّى للمباحات، فهمّه الدائم السير في ذلك الوادي اللانهائي نحو غايته في تحقيق الرضا الإلهي وفردوس المعرفة الإلهيّة، لهذا فهو دائم الاستغفار، إذن فإنَّ الاستغفار يشمل الجميع.
هذه مقتطفات حول الاستغفار بمناسبة شهر رمضان المبارك؛ إيّها الأعزّاء اغتنموا هذا الشهر المبارك من أجل الاستغفار، اطلبوا من الله (عز وجل) المغفرة.
إنَّ أُمّتنا وهي تعيش من خلال روح التضحية والفداء، بشبّانها وسموّ أخلاقهم، الذين ينعدم وجود من يضاهيهم لدى الاُمم الأخرى بهذه الأعداد الكبيرة بنسائها ورجالها؛ فانّ كلّ ذلك بسبب سيرهم في طريق التكامل الروحي فغمرتهم رحمة الله؛ ولذا على الجميع أن يستغفروا الله سبحانه وتعالى.
على أهل العبادة والمستغرقين في عبادة الله (عز وجل) وعلى الذين يقتصرون في عبادتهم على الفرائض وعلى الذين يتركون أحياناً أداء الفرائض، على الجميع أن يعزّزوا علاقتهم بالله (عز وجل) من خلال الاستغفار؛ من خلال طلب العفو والمغفرة، من أجل أن يشرق اللطف الإلهي من القلوب والنفوس. أختم كلامي بهذا الدعاء:
نسألك اللّهمّ وندعوك باسمك العظيم الأعظم الأعزّ الأجلّ الأكرم، وبحرمة أسمائك، وبحرمة أوليائك، يا الله يا الله يا الله!
اللّهمّ اجعلنا من صالحي عبادك.
اللّهمّ وفّقنا للتوبة والعودة إليك، وأن ندرك المعنى الحقيقي للاستغفار.
اللّهمّ لتسطع أنوار لطفك أُمّتنا.
اللّهمّ اغفر لنا قصورنا وتقصيرنا وإسرافنا.
اللّهمّ بحرمة أوليائك وبحرمة قلوب عبادك الصالحين اغفر لنا جهلنا وخطايانا.
اللّهمّ ارزقنا المعرفة بك والسير في الطريق إليك.
اللّهمّ انصرنا على أعدائك أعداء الإسلام، اللّهمّ ردّ كيدهم إلى نحورهم.
اللّهم وفّق هذه الأمة في كلّ الميادين.
اللّهم وفّقنا للأنس بالقرآن الكريم وإدراك معارفه السامية في هذا الشهر الكريم.
اللّهمّ ارحم شهداءنا الكرام، وتفضّل عليهم بالمغفرة والرضوان.
- [1]. سورة النساء: 110
- [2]. سورة هود: 52
- [3]. سورة آل عمران: 155
- [4]. سورة آل عمران: 146
- [5]. سورة آل عمران: 147
- [6]. مستدرك الوسائل، باب جهاد النفس، باب وجوب الاستغفار من الذنب
- [7]. سورة الأعراف: 201
- [8]. الصحيفة السجادية، الدعاء التاسع والثلاثون، طلب العفو والرحمة
- [9]. بحار الأنوار، كتاب الروضة، أبواب المواعظ، باب مواعظ الإمام الرضا (ع)، حديث 11
- [10]. سورة الفتح: 2
تعليق واحد