مواضيع

أبعاد الاستغفار والتوبة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آلة الأطيبين الأطهرين المُنتجبين سيما بقية الله في الأرضين.

قال الله الحكيم: <وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ>[1]

مجلس مهم وأيام مهمة أيضاً، وها هو شهر رمضان المبارك بمأدبته العامرة بالبركات يقترب من النهاية ونحن المسؤولون في هذه الدولة الكبيرة، كنا وما زلنا دائماً نرجو العون والتسديد الإلهي في القيام بواجباتنا في هذا الشهر العزيز الذي يوشك أن ينصرم؛ في حين أننا لا نعلم كم يبلغ نصيبنا في هذا الشهر وفي ليالي القدر المباركة من الرحمة الإلهية والتفضل الإلهي؛ أننا لا نستطيع أن نغضّ النظر عن خيره وفضله الكبير.

إن عملنا ثقيل وطريقنا طويل ومسؤوليتنا كبيرة ولا يمكن النهوض بواجباتنا هذه الّا بعون الله وتسديده؛ ولذا يجب اغتنام هذه الفرص، وحديثي اليوم في الغالب حول هذه القضية.

على الجميع الاستغفار

إن الله تعالى يكرر في كتابه الكريم ـــ  ومنه هذه الآية الكريمة ـــ  أمره لنا بالاستغفار والتوبة التي تعني العودة إليه تعالى، وهذه العودة تكون تارة في مرحلة الإيمان وأيضاً في مرحلة العمل والسلوك.

إنّ لدينا تقصيرات ويتوجب علينا إصلاح أنفسنا، نعم يجب علينا أن نصلح أنفسنا؛ وهذا الأمر يحظى بالأهمية القصوى، وفي نفس هذه السورة المباركة، سورة هود، نقرأ: <الر ۚ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ 1 أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ۚ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ 2 وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ>[2].

يعني أن رسالة القرآن الكريم في الدرجة الأولى هي مسألة التوحيد ومن ثم تأتي مسألة العودة إليه سبحانه؛ وأنّ طلب المغفرة من الله تعالى مطلوبة من كل البشر وعلى جميع المستويات بدءاً من الأنبياء (عليهم السلام) ثم الأدنى فالأدنى؛ غير أنّ الذنوب التي استغفر منها الأنبياء والأولياء تختلف عن الذنوب التي نستغفر منها.

«ولا تقس نفسك بعمل الأتقياء»[3]، ومن الممكن أن تجد إنساناً مسوّد الوجه في الدنيا وكذلك في الآخرة؛ «والله وحده هو العالم بحقائق البشر»[4]؛ واؤلئك أيضاً بحاجة إلى طلب المغفرة.

إنّ هذا النقص وعدم بلوغ الكمال وهذا التعثر النسبي يمكن جبره بطلب الغفران من الله.

وهذا مختصّ بأولئك؛ أما ما يخصّنا فإنّ أخطاءنا وخطايانا كثيرة؛ لدينا أنواع شتى من هذه الأخطاء وهذا هو حديثنا الأساسي؛ وقد سجلت هذه الرواية: «ادفَعوا أَبوابَ البَلايا بِالاستِغفار»[5] ونحن نقرأ قوله تعالى: <يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا>[6] يعني عيش حياة طيبة تتحقق بالاستغفار والتوبة وطلب المغفرة من الله تعالى.

جاء في الروايات: «خَيرُ الدُّعاءِ الاِستِغفار»[7]، وقد ورد في المناجاة الشعبانيّة: «إِلَهِي مَا أَظُنُّكَ تَرُدُّنِي فِي حَاجَةٍ قَدْ أَفْنَيْتُ عُمُرِي فِي طَلَبِهَا مِنْكَ»، ترى ما هي هذه الحاجة التي أمضي العمر في طلبها من الله (عز وجل): إنها المغفرة الإلهية وهذا ما يشير على أهميّة هذه المسألة الكبرى.

جميع الأعمال مقدمة للإصلاح

إنّ المغفرة الإلهيّة تعني تصحيح الأخطاء، يعني التعويض عمّا ألحقناه من ضربات بأنفسنا والآخرين، هذا ما يعنيه طلب المغفرة. وإذا ما وجدت هذه الحالة في المرء والعزم على إصلاح الأخطاء والمفاسد؛ فإنّ الطريق إلى الله سيكون ممهّداً، وفي النهاية سينتهي به المسار إلى الخير. إنّ مشكلتنا نحن البشر تكمن في الغفلة عمّا نرتكبه من أخطاء، والغفلة عن ضرورة تصحيح الأخطاء، والغفلة عن إصلاح الذات؛ فإذا تمّ القضاء على الغفلة ووجد لدينا هذا العزم فإن كلّ شيء سوف يتمّ تصحيحه أولاًّ في ذاتنا، فهو الأساس في جميع مقدّمات الإصلاح وكسب الرضا الإلهي: <عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ>[8]

إن كلّ جهودنا تنصبّ على تحقيق الرضا الإلهي عن النفس والوصول إلى الدرجة التي نتطلّع إليها من الكمال المنشود .

الإصلاح والاستغفار الجماعي

هذه هي المرحلة الأولى؛ والمرحلة الأخرى، وهي مرحلة المقدّمات ومن أكبر واجباتنا، وهي الاستغفار الاجتماعي والإصلاح الاجتماعي في مسارنا وهدفنا الاجتماعي العام وفي عمق مجال قدراتنا؛ وهذا أوضح مثال في تأثير الاستغفار وفي المضمون والمحتوى الحقيقي للاستغفار. إنّ علينا ألّا نستصعب هذا العمل، خاصّة إذا حصلت لدينا الإرادة والعزم، فإنّ ذلك يصبح أمراً ميسوراً يمكننا القيام به.

جاء في الدعاء الشريف المعروف بدعاء أبي حمزة الثمالي: «وإنَّ الرّاحِلَ إلَيكَ قَريبُ المَسافَةِ». أنّ الأمر يمكن في الإرادة وفي الحركة والرحيل إلى الله: «وأنَّكَ لا تَحتَجِبُ عَن خَلقِكَ إلّا أن تَحجِبَهُمُ الأَعمالُ دونَكَ». إنّنا نضع بأنفسنا الفواصل والمسافات بيننا وبين الله سبحانه وذلك من خلال ارتكاب الأخطاء والذنوب؛ وإذا ما وفّقنا للاستغفار فإن هذا التوفيق دلالة على رحمة الله.

فإن استطعتم أن توجدوا في قلوبكم استغفاراً يتولّد عنه عزم وإرادة قويّة في الحركة والسير نحو الله، فاعلموا أنّ ذلك يحصل بتوفيق من الله سبحانه وتعالى، وأنّ رحمة الله (عز وجل) قد شملتكم، وأنّكم في حالة انجذاب نحو صراط الله المستقيم.

<ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا>[9]، ماذا يعني أنّ الله تاب عليهم ليتوبوا؟ ماذا تعني التوبة؟ إنها تعني العودة إلى الله، يعني حصول الميل والرغبة في قلب الإنسان للعودة إلى ربّه، وباب الله مفتوح للعائدين والمنيبين والتائبين. وما لم يحصل من جانب المعشوق جذب تذهب جهود العاشق أدراج الرياح.

ونقرأ في دعاء أبي حمزة الثمالي قوله  (ع): «مَعرِفَتي يا مَولايَ دَليلي عَلَيكَ، وَحُبِّي لَكَ شَفيعي إِلَيكَ، وَأَنَا واثِقٌ مِن دَليلي بِدَلالَتِكَ، وَساكِنٌ مِن شَفيعي إِلى شَفاعَتِكَ».

فأنت ياربّ الذي دللتني عليك، وأنت الذي تجذبني إليك، وأنت الذي تهديني إلى طريقك.

وعندما تلاحظون وتشاهدون شبابنا في المساجد وهم يرفعون أيديهم إلى السماء بالدعاء، ويسألون الله العفو والمغفرة والرضوان، فاعلموا إنّما هو لطف من الله ورحمة شملت أُمّتنا، وهذا هو الجذب الإلهي يوجده في قلوب عباده؛ ومن أجل ذلك ورد في الدعاء المأثور: «اللّهُمَّ إِنّي أَسأَلُكَ موجِباتِ رَحمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغفِرَتِك»[10]، أي أنّنا نسأله سبحانه أن يوجد في أنفسنا موجبات نزول الرحمة الإلهيّة والغفران.

الاستغفار من الذنوب الثلاث: الفردي والتعدي على الغير والجماعي

هناك ثلاثة أنواع يجب الاستغفار منها؛ وهذا ما يهمّنا جميعاً أنا وأنتم، وأنّ الغفلة عنها تسبب خسائر كبرى؛ ثلاثة أقسام من الذنوب: ذنب ينحصر بظلم الإنسان لنفسه وذلك عندما يرتكب الإنسان ذنباً يعود بالضرر على نفسه فقط، وهناك ذنب يعود بالضرر على نفسه وعلى الغير والآخرين، وهذا النوع من الذنوب أكبر، فهو ظلم للنفس وتجاوز على الآخرين؛ ومشكلات هكذا ذنوب أكثر تعقيداً وعلاجها أصعب وأشقّ، من قبيل اغتصاب حقوق الآخرين ومصادرة حقوق الغير والحقوق العامّة، والتجاوز على الحقّ العام، وهو ذنب يتعلّق بالحكومات عادة؛ حيث يرتكب بعض المسؤولين الحكوميين أعمالاً تجاوزية، ويدوسون على الحقوق العامّة، وهذا النوع من الذنوب يبتلي به المسؤولون السياسيّون والشخصيّات التي تعمل في الشأن الدولي، فمن خلال كلامهم ومن خلال توقيعاتهم وقراراتهم يمارسون الظلم بحقّ أفراد المجتمع وبحق الأُمم والشعوب. وهكذا ذنوب لا ترتكب من قبل الناس العاديين، وإذا حصل ذلك ففي نطاق ضيّق ومحدود جدّاً.

وكلّما اتّسعت دائرة المسؤوليّة، واتّسع حجم الذنب الذي يمكن أن يرتكبه المسؤول من خلال قراراته في تعيين الموظّفين غير الكفوئين وغير النزيهين اتسعت دائرة الخراب وذلك من خلال فشلهم الإداري ومن خلال فسادهم يلحقون الضرر بأفراد المجتمع.

وهذا النوع من الذنوب يتطلب استغفاراً مناسباً لحجم الأضرار التي تحدث جرّاء هكذا ذنوب.

إنّ الذنوب من النوع الأوّل يمكن تداركها من خلال الإرادة والعزم على عدم تكرارها، ومن خلال الندم على ارتكابها، ومن خلال الدعاء إلى الله سبحانه وتعالى التوّاب الرحيم.

أمّا النوع الثاني من الذنوب فأمره مختلف؛ لأنّه لا ينحصر بالطلب من الله سبحانه بالمغفرة، وإنّما يتطلّب إلى جانب ذلك إصلاح الخطأ وإزالة الظلم الذي حّل بالآخرين.

أمّا النوع الثالث فهو الذنوب التي تمارس من قبل الجماعات والمجتمعات. أحياناً تمارس جماعات كبيرة في الأمّة ذنوباً تعود بالضرر العام على المجتمع بأسره، وقد تقترف الاُمّة ذنباً كبيراً من خلال سكوتها على الظلم؛ فيعود عليها بالضرر العام ويتغيّر حالها نحو الأسوأ، يقول الله تعالى في محكم كتابة الكريم: <إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ>[11]. وهذا النوع من الذنوب هو الذي يغيّر النعم، وينزل البلاء والنقم على المجتمعات والأُمم.

إنّ الأُمّة التي يشهد أفرادها في قلب العاصمة طهران إعدام عالم دين رباني ومجتهد فاضل كبير في مستوى الشيخ فضل الله نوري[12]، ثم لا ينبس أحده ببنت شفة، وكان ذنبه الوحيد أنّه وقف بوجه الاستعمار الإنجلينزي وعملاء الإنجلينز، وطالب بـ «المشروطة المشروعة» وبتحكيم قوانين الشريعة الإسلاميّة في واقع الحياة.

ومع الأسف ما يزال البعض يطبّل لحركة المشروطة التي كانت توجّه من قبل السفارة البريطانية في طهران؛ فإلى أين انتهى بها الأمر؟ كانت خاتمة المطاف تنصيب رضا خان حاكماً على البلاد، وتفويضه وتفويض أبنائه الذكور شؤون الحكم الذي أفضى إلى قيام النظام البهلوي؛ إنّ ما ارتكب من ذنب لم يكن منحصراً في عّدة أفراد، إنما هو ذنب عام ارتكبته الأُمّة، ولهذا عاد بالضرر على جميع أفراد المجتمع: <وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً>[13]، ذلك أن حركة المشروطة كانت حركة عامّة وإن قام بها جماعات على نحو مباشر، ولكن عموم أفراد الأمّة كان لهم اتّصال غير مباشر فيما كان يجري من حراك.

وبعد نصف قرن تقريباً تحرّكت الأُمّة من جديد ضدّ النظام البهلوي، وواجه أفراد الشعب بنادق ودبابات النظام بصدور عارية، وضربوا بذلك المثل الأعلى في التضحية وحبّ الاستشهاد في سبيل الله.

يعني حصل التغيير في نفوس الأُمّة، ولم تعد تطيق حياة الذلّ والخنوع، يعني التخلّص من درن الذنوب جرّاء السكوت على الظلم، فأثابهم الله سبحانه بإسقاط نظام الظلم والجور؛ وتشكّل نظام شعبي، وتحقّق الاستقلال الحقيقي في واقع الحياة، وانتهى وإلى الأبد عار التبعيّة للأجنبي؛ بعد أن بدأت حركة الاستقلال التي ستستمرّ إلى أن يحقق الشعب أهدافه العليا بتوفيق من الله (عز وجل).

وقد وردت مفردة التوبة في القرآن مقرونة بالإصلاح: <إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا>[14]، <مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا>[15]، وفي مواضع أورد القرآن الكريم مصداق الصلاح من قبيل قوله تعالى: <إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا>[16].

في مقابل الأشخاص الذين يكتمون الحقيقة ويتستّرون عليها: <إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ>[17]، أو من قبيل قوله تعالى: <إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ>[18]، بشأن المنافقين الذين كانوا يمارسون النفاق، المتذبذبين في عقيدتهم، فإنّ توبتهم تتحقّق عندما يحدّدون موقفاً ثابتاً إزاء مسألة الإيمان أن يكونوا خالصين في إيمانهم؛ إنّ عليهم أن يتوبوا إلى الله، وأن يثوبوا إلى حالة الوعي والرشاد والإيمان الحقيقي.

خمس نماذج للذنوب المؤثرة على المجتمع

إنّنا جميعاً مذنبون، بل غارقون في الذنوب، فكلّ هذا التقصير وكلّ هذه الانتهاكات، والتقصير في أداء المهامّ؛ كلّ هذا يتطلّب منّا أن نستغفر. إنّ الاستغفار كالنور يبدّد ظلام القلوب، ويشرق في الأذهان، ويجعل من الأرواح شفافة؛ هناك استغفار بيننا وبين الله (عز وجل)؛ استغفار فردي؛ ولكن لدينا استغفار عام وجماعي؛ ذلك أنّنا مسؤولون في الدولة، إنّ من بين الحضور مسؤولين في النظام، قادة ورؤساء سلطة في الدولة ومدراء كباراً؛ أذكر عناوين خمسة فصول؛ لأنّه لا وقت للتفصيل والشرح؛ إنّما نمرّ عليها مراراً ونشير إليها مجرّد إشارة موجزة:

المسألة الأولى: الاختلاف والنزاع؛ إنّ علينا أن نتوب من ذلك؛ لأنّ النزاع الداخلي معول هدّام؛ مرّة يكون للاختلاف والنزاع منشأ قومي من خلال إثارة الحسّ القومي، أو الحسّ المذهبي الطائفي، أو من خلال تحريك العواطف ذات الصبغة الأهلية، وأحياناً تكون للنزاعات صبغة سياسية أو صراعات فكريّة، الاختلافات في الفكر أمر لا غبار عليه، ولكن يجب أن يبقى في إطاره وألّا يتطور إلى أبعد من حدوده المنطقية.

إنّ ما نعترض عليه ونعارضه هو أن ينبري بعض الأشخاص للكتابة ضدّ عقائد المجتمع، ويقوم بتشويه الحقائق الموجودة في المجتمع، ويقوم بتشويه التاريخ وتزوير التاريخ الحقيقي، يكتب تاريخاً مزوراً ويحاول طمس الحقيقة.

إنّني لا أعارض أبداً حرّية الرأي، لا مشكلة أبداً في أن يعبّر المرء عن رأيه، إنّني أقف إلى جانب حرّية التعبير بكلّ ما للكمة من معنى؛ ما أقوله هو: إنّ بعض الكلام، إنّ بعض النقاشات ينبغي ألّا تطرح في وسائل الإعلام وعلى عامّة الناس؛ هناك مناقشات تخصصيّة وبحوث يجب أن تجري في نطاق محدود يضمّ المختصّين، فالقضايا الفقهيّة ينبغي تداولها بين عدد من الفقهاء، وقضايا الحقوق بين الحقوقيين، وقضايا الفلسفة بين الفلاسفة؛ وقضايا علم الاجتماع بين المختصّين بهذا العلم وهكذا .أمّا أن يتمّ النقاش أمام الملأ العام حول قضيّة التوحيد، وهي قضية كبرى وأساسيّة ويتمّ الجدل بشأنها بين مؤيّد ومعارض، بين من يثبت ذلك وبين من ينفي؛ فهذا أمر غير مقبول ومرفوض؛ نعم يمكن النقاش حول ذلك في الأوساط العلميّة؛ لأنّه يتضمن بحوثاً تخصصيّة، وهكذا في قضايا الثورة والقضايا الأساسيّة لنظام الجمهوريّة الإسلاميّة.

إنّنا نحن الذين من طرح شعار الحرّية الفكريّة؛ في البداية انطلق نقاش بين الحوزة والجامعة ودار جدل علمي بين الجانبين، لكن لم تكن له نتائج عمليّة، إنّما يجري بعد ذلك أن يقوم البعض بطرح الأمور على نحو إغوائي، على نحو يكّون له انطباعاً سلبياً معرضاً في أذهان الرأي العام، اعتقد أنّ في هذا خروجاً سافراً على حرّية التعبير عن الرأي خاصّة في بيان المسائل الأساسيّة والقضايا الكبرى.

هناك من يحاول إثارة النزاع الفكري والصراع الفكري من أجل أن يتحوّل إلى نزاع وصراع سياسي يحدث صدعاً بين أركان النظام، لقد حاولوا ذلك على مدى سنوات، وهو العمل على بثّ التفرقة وإثارة النزاع بين أركان نظام الحكم. ومن الواضح أنّه عندما يتمّ التصادم بين المسؤولين الأساسيّين في البلاد، فانّ أحدهما يسعى إلى ضرب الآخر وإزاحته، وتنصبّ جهوده من أجل القضاء عليه، ولهذا السبب تتوقّف عجلة تقدّم البلاد؛ ومن حسن الحظّ أنّ هذه الخطط لم تنطل على بعض المسؤولين، لذلك فوّتوا الفرصة على العدوّ بالرغم من إعداداته وجهوده في هذا المضمار.

المسألة الثانية: الأنانيّة بمعناها الواسع؛ إنّ علينا أن نستغفر الله من هذه الأنانيّة؛ ذلك أنّ الأنانيّة هي النقطة المقابلة والمعاكسة للتوجّه نحو الله. إنّ القلب المصاب بـ «الأنانيّة» يكون عبداً للذات مستغرقاً فيها، وفي نفس الوقت يكون بعيداً عن الله، إن الأنانيّة بهذا المعنى الواسع تعني التعصّب للذّات والتعصّب للحزب والتعصّب للجناح والتعصّب للأقارب والأصدقاء، وامتلاء النفس بالحميّة وبالجاهليّة والروح العصبيّة، ونصب العداء للآخر دون استدلال منطقي وإشعال نار العداء والصراع والخلافات داخل البلد الواحد والمجتمع الواحد، وهذه مغالطة كبيرة وخطيرة.

وإنّه لمن الخطأ الكبير أن ينشأ كلّ هذا النزاع داخل بلادنا وفي أوساطنا السياسيّة بسبب التعصّبات والروح الأنانيّة.

لقد قلت قبل حوالي سبعة أو ثمانية عشر وربّما عشرين عاماً بأنّ هذه الاختلافات والنزاعات بين ما يدعى آنذاك باليسار واليمين، إنّها نزاعات وصراعات لها صبغة عشائرية قبلية، إنها نفس النزاعات التي كانت تحصل قديماً بين القبائل، إنّ علينا ألّا نسمح بوقوعها واستمرارها، أن لا نسمح لهذه الأنانيّة أن تتجذّر في نفوسنا وتفعل فعلها في سلوكنا ومواقفنا.

المسألة الثالثة: الغفلة عن الشعب والغفلة عن خدمة الشعب، وإذا ما كانت لدينا في هذا الجانب غفلة فإن علينا أن نلجأ إلى الله ونتوب إليه من هذه الغفلة، إنّ علينا أن نعي ذلك بقلوبنا، وأن نعايش هاجس خدمة الناس في نفوسنا، إنّ علينا ألّا نغفل عن خدمة الناس لحظة واحدة.

المسألة الرابعة: الغفلة عن مرتكزات ومباني الاقتدار الوطني والدعائم الأساسيّة للاقتدار الوطني، ومن أجل تحقيق الحريّة، ومن أجل بلوغ قمم المعرفة، فإنّه من الضروري أن نكون أقوياء، وأن نكون مقتدرين، وبالرغم من أنّ هذه الأمور في حدّ ذاتها من موجبات الاقتدار؛ إلّا أنّ الأُمّة الضعيفة والأُمّة التي تعيش في حالة التبعية، وتنظر إلى أيدي الآخرين وإلى أفواه الآخرين لا يمكنها أن تبلغ إلى ما تتطلّع إليه من قمم المجد.

إنّ علينا أن نؤمّن اقتدارنا الوطني؛ ولكن كيف يتأتّى لنا ذلك؟ بالعلم وبالأخلاق، وقد تحدّثنا عن موضوع العلم كثيراً؛ بالأخلاق علينا أن نحقًّق درجات عالية في الأخلاق؛ إنّ نبيّنا الأكرم (ص) هو معلّم الأخلاق، وهو الذي رفع راية التهذيب والكمال الأخلاقي، وكانت رسالته أن يتمّم مكارم الأخلاق؛ علينا أن لا نتخلّف عن الركب الأخلاقي، أن لا نكون متخلّفين أخلاقياً؛ في سلوكنا الاجتماعي، في انضباطنا وفي أداء أعمالنا ووظائفنا، أن نكون مرتاحي الضمير في أدائها على أحسن وجه، في تعميق وترسيخ روح التديّن في نفوسنا؛ ومن المؤسف أن يقوم البعض بالإساءة إلى روح التديّن في نفوس شبابنا، ويحاولون إضعاف هذه الروح المتوهّجة من خلال ما يطلقونه من كلام فارغ لا يستند إلى أيّ منطق، ويمارسون ذلك باسم الحريّة؛ إنّ المحافظة على روح التديّن من دعائم الاقتدار الأساسيّة؛ وكذلك الالتزام بالقانون وعدم الغفلة عن القدرات الحقيقيّة الموجودة لدينا، وألّا نتخيّل القوة، ونصوّر ذلك في خيالنا، وبكلمة واحدة يجب أن نكون في كلّ ذلك واقعيين تماماً.

المسألة الخامسة: هي الغفلة عن العدوّ؛ أنّ الغفلة عن المؤامرات التي يحيكها العدوّ ذنب يجب أن نستغفر الله سبحانه منه وأن نتوب عنه. والتوبة من هذا الذنب تكمن في الوعي واليقظة، أن نعيش في حالة الانتباه، وأن نفتح عيوننا جيّداً. لقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة في هذه المسألة، وهي أنّنا نتوهّم وجود من يتآمر علينا، فنتوهّم بأنّه يتآمر وهذه مجرّد أوهام؛ حسناً فهل أنّ في الغفلة عن المؤامرة يعني زوالها؟

اليوم اتّضحت الأمور، وانكشفت الحقائق، وظهر كلّ شيء إلى العلن. بالأمس كان التآمر يجري في الخفاء من خلال الدسائس التي تحاك في السّرّ، أمّا اليوم وفي الوقت الحاضر فقد بات الهجوم على نظام الجمهوريّة الإسلاميّة سافراً، والهجوم على القانون الأساسي (الدستور) يتمّ في العلن وتتعرّض أمّتنا للعدوان ومصالحنا لخطر التآمر؛ إنّ الغفلة عن هذه المؤامرات لن توصلنا إلى برّ الأمان، ولن تجعلنا في أمن من خطر العدوان؛ إنّ علينا أن نكون يقظين أمام العدوّ، وأن نكون في أعلى درجات الوعي لما يحاك لنا من مؤامرات ودسائس، وأن نكون على أتمّ الاستعداد للدفاع عن هويّتنا ووجودنا ومصالحنا.

اللّهمّ نقسم عليك بمحمّد وآل محمّد أن توفّقنا للاستغفار والتوبة.

اللّهمّ نوّر قلوبنا بنور التوبة.

اللّهمّ ادفع عن أمّتنا الإسلاميّة شر الأعداء.

اللّهمّ نسألك العزّة لشعبنا الإيراني.

اللّهمّ احشر شهداءنا مع حبيبيك ورسولك محمّد (ص).

اللّهم أسألك أن تزيد الألفة والمحبّة بين قلوب المسؤولين في البلاد.

اللّهمّ وفّق المسؤولين في السلطات الثلاث وأيّدهم بحقّ محمّد وآل محمّد.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


  • [1]. سورة هود: 3
  • [2]. سورة هود: 1-3
  • [3]. جلال الدين الرومي
  • [4]. محمود شبستري
  • [5]. مستدرك الوسائل، كتاب الصلاة، أبواب الذكر، باب استحباب الإكثار من الاستغفار، حديث 5980
  • [6]. سورة هود: 3
  • [7]. الكافي، كتاب الدعاء، باب الاستغفار، الحديث1
  • [8]. سورة المائدة: 105
  • [9]. سورة التوبة: 118
  • [10]. مفاتيح الجنان، تعقيبات صلاة الظهر
  • [11]. سورة الرعد: 11
  • [12]. من قادة حركة المشروطة المعارضين للإنجلينز وأزلامهم
  • [13]. سورة الأنفال: 25
  • [14]. سورة البقرة: 160، سورة النساء: 146
  • [15]. سورة مریم: 60، سورة طه: 82، سورة قصص: 67
  • [16]. سورة البقرة: 160
  • [17]. سورة البقرة: 159
  • [18]. سورة النساء: 146
المصدر
كتاب الاستغفار والتوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟