مواضيع

أصبح الحاج حسين أبا وهبٍ وليس الجنرال أبو وهب

كان الشّهيد همداني في ظاهر الأمر عميداً، أميراً، محطّ احترامٍ وجنرالاً. كلّ هذه الألقاب والرُّتب العسكرية جاءت بعد الحرب، أمّا خلال الحرب فقد كان لقب الأخ هو اللقب الموجود وحسب. ثمّ جاءت الأسرة فيما بعد، فالأبناء والأحفاد والمنزل. هذه هي الأقفال والمسامير الّتي تدفع الإنسان للتّمسّك بالأرض وتربط قدمَيه بها.

لا يوجد أحدٌ ينتقد التّمتّعَ والاستفادة من الدّنيا، فالحبّ والعاطفة موجودة لدى كلّ البشر، وهل يمكن لأيّ شخصٍ ألّا يحبّ أولاده وزوجته وأحفاده ووالديه؟ هذه كلّها من الأشياء الّتي جعلها الله في فطرة الإنسان عند خلقه؛ لكنّ المهمّ وهو ما فعله أمير المؤمنين  (ع) -ولم يستطع الجميع فعله، لكنّ الشّهداء استطاعوا- وهو أن يسلخ الإنسان نفسه عن هذه الأرض، أي ألّا يغزو الحبّ والعاطفة قلب الإنسان وألّا يصبحا هدفاً له، وإلّا فلا مشكلة بوجود الحبّ ما دام ليس هو الهدف النهائي للإنسان.

لم يسمح الشهيد همداني بأن تصبح هذه العلاقات هدفاً له، فهو كان قد رُشّح لتولّي مسؤوليّة مناصب عدّة. لقد نزع عنه كلّ هذه الرُّتب والدّرجات، وبدلاً من تسميته بالجنرال حسين همداني، فقد أعاد نفسه إلى الفترة التي قضاها سالفاً في الدّفاع المقدّس، والأخ حسين أو الأخ الحاج حسين أصبح أبا وهبٍ وليس الجنرال أبا وهب، وأطلق مصطلحًا جميلاً ومقدساً وهو «مدافعو الحرم» بدل المصطلح المقترح في بادئ الأمر وهو جيش أنصار الحسين  (ع)[1]. كانت حياةً مباركةً وجميلة، فالبعض يعيش 100 عامٍ لكنّه لا يترك أثراً خلفه. شخصٌ كالشّهيد مطهّري أو العلّامة الطّباطبائيّ يترك آثارًا قيّمة للتّربية، ومن مثل الإمام الرّاحل (ق) فقد خلّف نظاماً كاملاً، وشخصٌ كالإمام الخامنئي يستطيع أن يخلق عالماً تربويّاً. هذا عمرٌ مليءٌ بالبركة، فخلال ما يقرب 60 عاماً من حياته، ترك الشّهيد همداني أجمل وأفضل ثمرٍ في حياته.[2]


قال الحاج قاسم: «أنت الشّخص المناسب لهذا العمل»

يشرح الشّهيد همداني كيفيّة تواجده في الجبهة السّوريّة بقوله: «تمّ إرسالي إلى سوريا بتاريخ 3 كانون الثّاني 2012 وكنتُ أعمل حينها كقائدٍ لفيلق طهران في حرس الثّورة الإسلامية، وكانت آثار فتنة عام 2009 والمشاكل الّتي نتجت عنها لا تزال قائمة. كنّا في ذلك الوقت في مرحلة تطوير جيش محمّد رسول الله  (ص)، وقمنا بتوسيع المناطق من ستّة لتصبح اثنين وعشرين. كنّا ننظّم الكتائب الأمنيّة عندما استدعاني الجنرال جعفري. وصلت لخدمته، وبعد تقديم تقريرٍ عن أوضاع فيلق طهران قال لي: «يا فلان، هل تذهب إلى سوريا؟». كان الكثيرون يحبّون الذّهاب إلى سوريا، سكتّ قليلاً ثمّ قلت: «لماذا أذهب؟ وبأيّ عنوان؟»، قال: «لقد طلب النّظام والجيش السّوريّ المساعدة، اذهب كقائدٍ وقدّم المساعدة. الجنرال قاسم سليماني قال أيضاً أنّك الشّخص المناسب لهذا العمل».

نظراً للدّافع الكبير الّذي كان لديّ من أجل الذّهاب إلى سوريا والدّفاع عن مقام السيّدة زينب  (ع) والسيّدة رقيّة  (ع)، أجبتُ على الفور موافقاً على العرض. لم أقل أبداً سأفكّر ثمّ أبلغكم جوابي، بل قدّمت جوابي مباشرةً هناك. اتصل هو أيضاً بالجنرال سليماني وأبلغه موافقتي على العرض.

نجح الجنرال همداني خلال تواجده في سوريا من إعادة إنتاج النّموذج نفسه الّذي تم ابتكاره في إيران والذي كان يقدم المساعدة للبلاد في الأوقات الحرجة، والمقصود بهذا النموذج هي قوات التعبئة الشّعبية، فأطلق تشكيلات الدّفاع الوطنيّ في سوريا الّتي كان لها الفضل في العديد من الانتصارات التي تحققت في سوريا في القتال ضد الإرهابيّين التّكفيريّين.

في آذار 2013، وصلت الحرب في سوريا إلى مرحلةٍ خطيرةٍ لدرجة أنّ القصر الرّئاسيّ لهذا البلد بدأ يتعرض للخطر، لكنّ اقتراح الجنرال همداني في هذا الوقت أنقذ سوريا من سقوطٍ مُحتمل.

ليلةٌ مليئةٌ بالتّرقّب في دمشق

يروي الشّهيد همداني كيفيّة عرض هذا الاقتراح على بشّار الأسد على النحو التالي: «في آذار 2013، كان الإرهابيّون يقتربون من نقطة النّصر، وتمكّنوا من إحكام الحصار بدعمٍ كاملٍ من السّعودية وقطر والإمارات والدّول الغربيّة واقتربوا من القصر الرّئاسيّ السّوري في دمشق بحيث باتوا على أعتابه. كان الوضع معقّداً للغاية في تلك اللّيلة. بالطّبع أرسلنا العائلات إلى أماكن آمنة، وكان بشّار الأسد يعتقد أنّ الموضوع انتهى وكان يتطلّع إلى الذّهاب إلى بلدٍ آخر.

قُدِّم الإقتراح الأخير لبشّار الأسد في تلك اللّيلة، قلت له: الآن بعد أن انتهى كلّ شيء وأصبح القصر الرّئاسيّ مُهدّداً، يجب أن تنفّذ إقتراحنا الأخير.

قال: ماذا نفعل؟

قلت: نفتح أبواب مخازن الأسلحة ونسلّح النّاس بالأسلحة الموجودة فيها حتّى يتمكّنوا من إيقاف هؤلاء الإرهابيّين بأنفسهم.

الشّكر لله أنّ الأسد وافق عندها على هذا الاقتراح، وفي تلك اللّيلة، تمّ إنقاذ سوريا من السقوطٍ الحتميّ، وصَدّ النّاسُ الإرهابيّين التّكفيريّين عند أطراف القصر الرّئاسي ومن ثمّ المدن السّوريّة. شكّلت هذه القوّات نفسها النّواة الأولى لما يسمّى الدّفاع الوطني، وهي الّتي تقاتل داعش والنصرة وغيرها الآن في سوريا.

لقد حشدنا الشّباب السّنّة والشّيعة والعلويّين في سوريا، لأنّها كانت خطّة الإمام القائد بأن نستفيد من شبابهم للدّفاع والمواجهة، وفيما عدا ذلك فقد قال الحاج قاسم سليماني حينها: سأنتقل بجيشٍ من إيران إلى سوريا، وسننهي الحرب.»

قال الإمام القائد: «إنّ الوضع في سوريا يشبه المريض»

يقول الجنرال همداني عن أيّامه الأولى في سوريا: «كنّا في الشّهر الأول مع ثلاثة أصدقاء، اثنان منهم أتوا من لبنان، ولم يكن يُسمَح لنا بالعمل أينما ذهبنا. كانوا يقولون: «ما هي المساعدة الّتي ستقدّمونها؟»، فنردّ عليهم: «جئنا لنتشارك خبراتنا»، وكان الجيش السّوريّ مغروراً أيضاً. عندما يكون الإنسان عاجزاً، فإنّه يلجأ إلى الله وهناك يتمّ الوصال. لم نكن ننام أكثر من بضع ساعاتٍ في اللّيل وكنّا مشغولين بالصّلاة والدّعاء. يقول آية الله بهاء الديني: «من يقرأ زيارة عاشوراء كلّ يوم، ستُحلّ كلّ عُقَدِه»، ونحن أيضاً كنّا نقرأ زيارة عاشوراء بعد صلاة الفجر، وهكذا بدأت تُحلّ العُقَد شيئًا فشيئًا.

أردنا العودة في إحدى المرّات، لكنّ الإمام القائد قال: «إنّ سوريا مثل المريض الّذي لا يعرف أنّه مريض، ويجب أن تخبره أنت بمرضه. لا يذهب إلى الطّبيب، عليك أن تأخذه إليه بنفسك. عندما يذهب إلى الطّبيب يقول إنّه لا يريد دواءً، يجب أن تصف له الدّواء. لا يشتري الدّواء، عليك أن تشتريه له. لا يتناول الدّواء، عليك أن تعطيه إيّاه بنفسك وتراقبه». هذه كانت الوصفة لبقائنا.»

أخيرًا، وبعد سنواتٍ من الجهاد والإيثار، استشهد الجنرال حسين همداني بتاريخ 8 تشرين الأوّل 2015 على أطراف مدينة حلب السّورية خلال قيامه بمهمّته الاستشاريّة.

كنتُ مستاءً جدّاً في الآونة الأخيرة

جاء في وصيّة الجنرال الشّهيد همداني: «هل يمكن أن نشكر النّعمة العظيمة الّتي أعطانا إيّاها الله الرّحيم؟ وهي نعمة ولاية الفقيه، إمامنا العظيم، الجمرانيّ الكبير في السّنّ، وخليفته عليّ زماننا، الّذي يسير على الدّرب نفسه ويعبر بقافلة الثّورة في كلّ العواصف والكمائن. لكن لا، يجب أن نكون شاكرين أكثر، ليس قولاً بل فعلاً، وأن نلبّي كما لبّى الشّهداء.

أنا العبد الفقير، حسين همداني، التّلميذ المتواضع في الدّفاع المقدّس، أعترف أنّني لم أقم بعملي بشكلٍ جيد، وأحيانًا، كانت تأتيني هذه النّفس المتمرّدة وتخدعني، فتغريني وتوسوس لي، وأومئ لها برأسي، وكان يولد اعتراضٌ في داخلي، لكنّ الله أعانني، وبعدها أدركت، فندمت وتبت، وطلبت من الله المغفرة والرّحمة، وفي الآونة الأخيرة شعرتُ بضيقٍ شديدٍ. أرجو أن يكون الله راضياً عنّي عند تسليم الرّوح، وكلّي أملٌ برحمته، وليس بأفعالي.»

  • [1] مع بداية الأزمة السّوريّة وتلبيةً لطلب الحكومة السورية حيث طلبت المساعدة من إيران، فقد تمّ اختيار الجنرال همداني للذّهاب إلى الجبهة السّورية نظراً لمميّزاته وخبراته.
  • [2] خطاب الحاج قاسم في مراسم الذّكرى السنويّة للشّهيد همداني.
المصدر
كتاب سيد شهداء محور المقاومة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟