مواضيع

يبدو الأمر كما لو أنّه يسير في شوارع جيرفت

خلال عمليّة كربلاء 5، ذهبت إلى قناة السّمك بسبب تمرّد القّوات، يشهد الله أنّنا لم نستطع أن نتحرّك في القناة. كانت النّيران غزيرةً لدرجة لم نکن لنتوقّعها، بحيث لو ظهر اللّاسلكيّ قليلاً من حافّة القناة، فسيتمّ إطلاق النّار من 30 دبّابةٍ على الأقلّ في وقتٍ واحد.

أُصيب كلّ الّذين كانوا إلى جانبي في ذلك الوقت. وفي هذه الحالة، لفت انتباهي فجأةً شخصٌ في الحصن. عندما فتحت عينيّ جيّداً، تعرّفت عليه؛ كان مهدي طيّاري يقف هناك وقد ضُمّدَ رأسه. فكّرت في نفسي أنّه لو لم تكن موجة، لما تجرّأ الرّجل الحكيم على فعل ذلك. تحدّثت معه لاختبار عقله وذكائه لأرى هل هو في مكانه أم لا؟!

كانت لديه شجاعةٌ كبيرةٌ، فلم يكن يعير نيران العدوّ، الّتي كانت تهطل كالمطر من النّاحية العراقيّة، أيّ اهتمام. كنت أخشى أن يصيبه مكروه، أمسكت بيده وسحبته إلى داخل القناة. تحدثت معه لفترةٍ وشرحت له أنّه يجب عليه التّوقّف عن فعل الأشياء الخطرة. أعطيته فرقةً هناك للتّحرّك نحو الفرق العراقيّة ومواصلة العمليّة. كانت القوّات تتحرّك من جانب الحصن، لكن هو كان يغادر من أعلى الحصن. لقد فعل طيّاري ذلك لإزالة الخوف من القوّات وإعدادهم لمعركةٍ بطوليّةٍ. حصلت هناك حربٌ غريبة، لم أشاهد مثل شراستها من قبل. لم أرَ خلال الحرب قطّ قائداً شجاعاً ومقداماً كطيّاري. لم أشاهد هذا الشّخص مُنحنياً أمام العدوّ أو مهتمّاً برصاصاته، كان يركض نحو الرّصاصة وليس خلفها… خلال العمليّة نفسها (كربلاء 5)، كان الحاج مهدي طيّاري[1] المنقذ للعمليّة في نطاق فرقة ثار الله. كان أداؤه، بعد الغوّاصين، حاسماً في الاستيلاء على (سربل)، الأمر الذي كان له تأثيرٌ عميقٌ على مصير العمليّة بأكملها. يُمكن أن يُطلق عليه والحاج يونس لقب الرّجلان رقم واحد في عمليّات كربلاء 5.

كان العبور خلال عمليّة كربلاء 5 صعباً جدًّ ومحبطاً. فشلت عمليّة كربلاء 4 وخلّفت أجواءً معنويّةً سيّئةً. كان جزءٌ من المنطقة مليئاً بحقول الألغام، والجزء الآخر مغطّىً بمستنقعٍ كبيرٍ من الطّين لا يُمكن عبوره.

تمّ أخذ الخطّ الأوّل من قبَل ثلاث كتائب من الغوّاصين. أوّل كتيبة بدأت عملها بعد الغواصين كانت كتيبة الحاج مهدي، وكان عليهم عبور غابة من الأسلاك الشّائكة بمسافة خمسمائة متر. كان عملاً رائعاً، فمنذ بداية العمليّة كان يتحدّث الحاج مهدي عبر اللّاسلكيّ وكأنّه موجودٌ على خطّ المواجهة بين النّار والدّم. يبدو الأمر كما لو أنّه كان يتحدّث ويمزح في شوارع جيرفت. لم يكن لديه أيّ شعورٍ بالخوف أو القلق. كانت يتقدّم بسرعةٍ كبيرةٍ بحيث كان من الصّعب على الإنسان تخيّلها. لم يلتفت الحاج مهدي إلى يمين ويسار الكتيبة أثناء العمليّة. لقد كان يفكّر فقط في وظيفته ويحاول تنفيذ مهمّته بكفاءةٍ وبأسرع وقتٍ ممكن. كنّا مشغولين في المعركة وكانت عقولنا هناك عندما أعلن الحاج مهدي طيّاري فجأةً عبر اللّاسلكيّ أنّه عبر قناة الصّيد، وكان على الجانب الآخر من القناة! عندما نقلت الخبر إلى محسن، لم يمرّ وقتٌ طويلٌ حتّى انضمّ إلى موجتنا على اللّاسلكيّ وبدء بتشجيع الحاج مهدي.

لم يصدّق أحدٌ أنّ الحاج مهدي قد عبر قناة الصّيد، فكنّا جميعاً في شكّ. كرّرت رمز الجسر عدّة مرّات للحاج مهدي، للتّأكّد. أخيرًاً، قلتُ إنّه ربّما نسي كلمة المرور أو أساء فهمها. سألتُ الحاج مهدي كالعادة: «هل عبرت جسر الصّيد؟»، أجاب طيّاري عبر اللّاسلكيّ، «نعم، عبرت جسر الصّيد، لقد وصلت إلى الجهة الأخرى». اغرورقت عيون الجميع بالدّموع. كان من الصّعب جدّاً تصديق ذلك، وقلت لطيّاري: «حسنًا، لا تذهب أبعد من ذلك…».

كانت العمليّة الأخيرة الّتي شارك فيها الشّهيد طيّاري هي نفسها آخر عمليّات الحرب أي عمليّة «بيت المقدس». كان الحاج مهدي قائد كتيبة، لكنّه كان يساعدنا أيضاً في قيادة المحور. لم يكن ينقصه شيءٌ عن ليؤدي دور قائد المحور.

لقد ساعدنا في أمورٍ مختلفة، كالإعداد لخطّ تنفيذ العمليّات وما إلى ذلك، كان أمل الجيش. في تلك العمليّة، عندما نظرت إلى وجه الحاج مهدي في الصّباح شعرت بحالةٍ غريبةٍ فيه. كان قلقاً، ولم يتكلّم إلّا قليلاً، وكان منشغلاً بنفسه. لم يؤدّ عبادته سرّاً في ذلك اليوم، على عكس عادته المعهودة. في تلك اللّحظات، قلّةٌ من النّاس كان لديهم مزاجه المعنويّ. كان لوجه طيّاري لونٌ خاصٌّ، وشفتاه تتحرّكان باستمرار، كما لو كان يقول ذِكراً. هناك شعرت بشكلٍ لا إراديٍّ أن طيّاري كان أيضاً مسافراً؛ مسافرٌ إلى السّماء، وإلى أرض الشّهداء.

منذ بداية الحرب، فقد لواء ثار الله العديد من أحبّائه. وفي ذلك الوقت، كان طيّاري يُعتبر أحد آمالنا في لواء ثار الله. عندما وصلني خبر استشهاد الشّهيد طيّاري خلال العمليّة، انهارت كلّ حساباتي، ولم يعد يهمّني إن كنّا سننتصر أو نهزم في تلك العمليّة. لا فرق عندنا، سواء نَجَونا أم لا، فقد أعددنا أنفسنا لحدوث أيّ احتمال. كان قائداً غريباً حقّاً. بعد عمليّتي كربلاء 1 و 5، كان لديه أيضاً القوّة والقدرة على إدارة عدّة كتائب. لم يلعب دور قائد كتيبةٍ في كربلاء 5، فبدلاً من ذلك، كان يقف في قلب المعركة وسط وابلٍ من الرّصاص ويرشد الكتيبة. أتذكّر في صباح يوم عمليّة كربلاء 5، عندما عَبَر طيّاري بكتيبته عبر قناة الصّيد، قام بمبادرةٍ مثيرةٍ للغاية حتّى تتمكّن الكتيبة الأخرى من المرور عبرها بشكلٍ جيّد، فقام بتركيب جسرٍ من الألياف هناك جنباً إلى جنبٍ مع شباب التّخريب، وكانت هذه المبادرة فعّالةً للغاية في تسريع العمليّة.

أرى أن طيّاري كان شخصيّةً مميّزةً عن باقي أبناء جيرفت؛ وكثيرٌ منهم كانوا أيضاً قادةً أعزّاء وقيّمين وعملوا بجدّ. لقد كان حقّاً شخصاً مختلفاً في التّوجيه والإدارة؛ كان أداؤه جيّداً، خاصّةً في توجيه القوّات في أصعب الظّروف. قاد الحاج مهدي طيّاري ما لا يقلّ عن أربع أو خمس عمليّات بشكلٍ جيّدٍ واستطاع النجاح وأداء دورٍ رئيسيٍّ فيها.[2]

منذ اليوم الّذي حمل فيه الحاج مهدي جهاز اللّاسلكيّ، أظهر حقّاً مكانته البارزة في جميع جوانب الحرب وأثبت ذلك. كان الشّهيد طيّاري أمل الجيش.[3]


قمنا بأكبر عمليّةٍ في تاريخ الحرب

الجبهة الّتي كانت قد صُبغت بالموت من قبل، تغيّرت فجأة. في الوقت نفسه، غطّى الضّباب الكثيف المنطقة بأكملها؛ حتّى فقدت الرّادارات والأقمار الصّناعية كفاءتها ودام هذا الضّباب الكثيف في المنطقة لمدة 12 يومًا، وكنّا نجهّز أنفسنا خلال هذه الفترة؛ بينما لم يعتقد العدوّ أنّه يمكننا تنفيذ أكبر عمليّةٍ في تاريخ الحرب، بعد أسبوعين من العمليّة السّابقة. عندما أشير إلى تلك الفترة، أشعر أنّه لا تلك الشجاعة ولا هذا الفكر ولا هؤلاء الأشخاص ينتمون إلى هذا العالم الأرضيّ؛ بل كانت تلك المشاهد الّتي سادت وخلقت تلك الأجواء هي من صنع الله وإرادته.

عصر تلك العمليّة، ابتكرنا تدابير مختلفة. على سبيل المثال، حفرنا مجرى ماءٍ سُكب فيه الماء من الحصن، وأخفينا في هذا التّيّار، حوالي 100 قارب. علت ضجّةٌ بشريّةٌ ليلة العمليّة في هذا الحصن لا يمكن مقارنتها بأيّ مكانٍ آخر. كانت الوجوه الّتي توزّعت في الخنادق، إمّا تتلو القرآن أو تصلّي أو تكتب الوصيّة. وأولئك الّذين كانوا بالتّأكيد ذاهبون للموت كانوا قد اختفوا في الحصن. أرعبنا شيءٌ حَدَث قبل غروب الشّمس، بحيث شعرنا أنّ العملية تمّ تسريبها. أطلق العدوّ صليات كاتيوشا ممّا أدّى إلى تدمير عددٍ من الزّوارق إضافةً إلى ناقلة جنود. كان هذا بمثابة تحذير. صعد الشّباب إلى القوارب ليلاً واتّجهوا نحو خطّ العدوّ. كان أبعد محور لدينا بعمق أكثر من 5-6 كيلومترات داخل المياه.

أصعب محور كان محور الفرقة 41 ثار الله

كما تعلمون، برد خوزستان مريرٌ جدّاً. من حيث الجدولة، كان على كلّ القوى أن تتحرّك من جميع الخطوط وتصل إلى المحور عند الساعة 12. كان المحور الأكثر صعوبة هو محور فرقة ثار الله 41، والّتي لعبت دوراً حيويّاً في «كربلاء 5» وكان عليها أن تقطع أبعد طريق داخل الماء. كانت مشكلتنا الأكثر أهمّية هي اختيار الكتيبة الّتي تفصل الخطوط. كانت عمليّتنا استشهاديّةً بالكامل وكان لدينا عدد كبير من الاستشهاديّين.

كنّا نسعى لتنفيذ العمليّة بعناية. تمّ وضع علاماتٍ على طول الطّريق الّذي كان على الأخوة سلوكه إلى قلعة العدوّ، وكان لدينا اتّصال لاسلكيّ حّتى الجزء الخلفيّ من حقل ألغام العدوّ. دخل الشّباب إلى الماء، تحرّك ثلاثة غوّاصين نحو العدوّ. كنّا قد توقّعنا أن نعبر هذا الطّريق في غضون ساعتين.

لم يصدّق السّيّد محسن رضائي

عندما دخلنا الماء، انطلقنا قبل نصف ساعةٍ من الموعد واتّجهنا نحو العدوّ. أمّا محورنا الآخر، وهو من أبناء فرقة سيّد الشّهداء العاشرة (كرج)، حيث اشتبكت مع العدوّ قبلنا. كنّا على مسافة 200 متر من الأسلاك الشّائكة عندما بدأ الاشتباك. أضيئت الأنوار في الجوّ وهكذا بدأ اشتباكنا مع العدوّ قبل أن نصل إلى الأسلاك الشّائكة. كان العدوّ قد وضع الكثير من العقبات، لكنّنا كسرنا الخطوط. كان من أبرز ما لدينا في الحرب أنّه لا يوجد خطٌّ دفاعيٌّ يمكن أن يمنع قوّاتنا من التّسلّل إلى منطقة العدوّ. عندما تمّ كسر الصّفوف الأولى من قبل الشّهيد عابديني والشّهيد الحاج علي محمّدي بور، كان العدوّ لا يزال مرتبكاً عندما دخلت قوّات السّريّة الثّانية على الخطّ. عندما كان الشّهيد طيّاري يتحدّث خلف جهاز اللّاسلكي لم يخطر ببال أحد أنّ هذه الكلمات من قلب خطوط العدوّ. كانت مبادرة الشّهيد طيّاري في هذه العمليّة مهمّةً وفعّالةً جدّاً. عندما أعلن الشّهيد طيّاري أنّه عبر من قناة الصّيد، وأوصلت هذه الرّسالة للسّيّد محسن رضائي، لم يصدّق ذلك!

كانت أهمّ نقطةٍ في عمليّة والفجر 8 قد وصلت الى الكتيبة 419 والّتي كان الحاج مهدي مسؤولاً فيها عن العمليّة. تحرّك الحاج مهدي، بعد قراءة كلمة سرّ العمليّة، أمام القوّات ثمّ تبعته الكتيبة. في تلك الليلة، قاد الكتيبة إلى المضادّات بسرعةٍ كبيرةٍ حتّى أنّ القوّات العراقيّة لم تتح لها فرصة ارتداء زيّها العسكريّ. ترك العراقيّون في حيرة من أمرهم لما حدث. لم يفهموا كيف وصلت القوّات الإيرانيّة إلى فوق رؤوسهم قبل أن يحصلوا على أدنى المعلومات. في تلك الليلة، عندما وصلنا إلى المعسكر، كانت خيمة المضادّات لا تزال موجودة، ولم تُتح للعراقيّين الفرصة لإزالتها. عندما أذاع خبر السّيطرة على معسكر قشلة عن طريق اللّاسلكيّ، لم يستطع المخيّم تصديق ذلك. وبعد تلك العمليّة، فتح الحاج قاسم حساباً منفصلاً للكتيبة 419، خاصّةً على نائبه؛ أي الحاج مهدي طيّاري!

  • [1] سنراجع جزءاً من رواية الحاج قاسم سليماني عن شجاعة الفرقة 41 ثار الله والشّهيد مهدي طيّاري في عملية كربلاء 5:
  • [2] كانت المضادّات الجويّة المتمركزة في معسكر «قشلة» من أهمّ أجزاء عمليّة والفجر 8. في ليلة العمليّة، أعطى الحاج قاسم سليماني الأوامر الأخيرة للحاج مهدي بشأن المضادّات. لو تمّ استخدام هذه المضادّات، كانت ستشكّل حاجزاً كبيراً في مقابل القوّات العاملة ضمن جيش ثار الله. وضعت المضادّات على تلٍّ صغيرٍ، وكان مُشرفاً بالكامل على طول الشّاطئ، لذا إذا تمّ استخدامها، فستكون قويّةً لدرجة أنّها لن تسمح حتّى لطائرٍ أن يعبر إلى الجانب الآخر. كانت المضادّات على الجانب الآخر من اروند بالقرب من مدينة فاو. تمّ تجهيزها بمجموعةٍ متنوّعةٍ من الأسلحة المتطوّرة وكانت محميّةً بالعديد من التّحصينات.
  • [3] جزءٌ من رواية الحاج قاسم سليماني عن عمليّة كربلاء 5.
المصدر
كتاب سيد شهداء محور المقاومة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟