قلتُ له قُم، إنّ الوضع سيّءٌ للغاية!
كان الشّهيد محمّد نصر اللّهي نائب رئيس أركان فرقة ثار الله 41. خلال إحدى العمليّات، في السّاعة الثّانية بعد منتصف اللّيل، طلب أحد خطوطنا الدّفاعية ذخيرةً فوريّةً. هرعت إلى السّقيفة ورأيتُ محمّداً جالساً بعينَين محتقنتَين بالدّماء ويفك حذائه ليستريح.
قلت له: «لا تخلعه، قُم، إنّ الوضع سيّءٌ للغاية». ربط شريط حذائه فوراً ونهض يمشي بالذّخيرة. بعد أن غادر، أدركت أنّه لم ينم على الإطلاق لمدّة ثلاثة أيام بلياليها، وبعد ذلك بقي معنا ثلاثة أيّامٍ وليالٍ. لا أعرف إذا ما كان قد استراح في النّهاية أم لا. عندما كنّا في مقرّنا، لم يكن محمّد يعرف الهدوء، فكان دائماً ينام أمام الباب حتّى إذا كان لدى شخصٍ ما شيئاً ضروريّاً ليفعله، يكون أوّل من يستيقظ ولا يدع الآخرين يستيقظون. استحوذ شغف العمل من أجل الله على كيانه بالكامل فلم أسمع منه عبارة «لا يهمّني» قَطّ. كلّ المعاناة كانت متعلّقةً به سواء في المقرّ أو في المنطقة. كان وجهه متقشّراً وأسوداً من شدّة الجهد المفرط تحت الشّمس. في تلك الأيام، كان بياض أسنانه أكثر وضوحاً عندما يضحك.
خلال عمليّة «والفجر 8»، عندما سيطر العراقيّون على الطّريق عبر النّار، كان محمّد نصر اللّهي[1] ومعه اثنين من رفاقه داخل السّيّارة بالقرب من تقاطع معمل الملح. انفجرت عندها قذيفة مدفعٍ قرب السّيارة وأصابت محمّد في رأسه وحملته إلى حلمه الّذي طالما حلم به. عندما سمعت نبأ استشهاد محمّد، ظلّت كلماته أنّ «الله عالمٌ وهو الّذي يختار، لا علاقة لي» ترنّ في أذني، وربّما كان هذا الاختيار هو سبب فرحته، فعندما كشفوا عن وجهه للمرّة الأخيرة في مقبرة الشّهداء، ظهرت على وجهه ابتسامةٌ أبديّةٌ ظاهرةٌ. نفس الابتسامة الّتي امتلكها منذ أن كان طفلاً، نفس الوجه الّذي كان يتجوّل ويبتسم خلف الدّعامة في الزّقاق.[2]
هذا الشّابّ لم يغلق عينَيه ولم ينم منذ ثلاثة أيّام
قال الإمام القائد في لقاءٍ جماعيٍّ مع عائلات شهداء محافظة كرمان عام 2005 حول مقاتلي لواء ثار الله وخاصّة عن الشّهيد محمّد نصر اللّهي:
أنتم أهل كرمان لديكم شهداءُ كُثر، لكنّ معظم شهدائكم ينتمون إلى لواء ثار الله. هل تعرفون ماذا يعني هذا اللواء؟ هو لواء قويٌّ وشجاعٌ ومخلصٌ ومصدر فخر. بعض أولادكم الّذين استشهدوا مع جيش ثار الله ليلة عمليّة «والفجر 8»، عندما اضطرّوا لعبور نهر اروند المضطرب من أجل الوصول إلى العدوّ، قاموا بالغوص على عمق 1300 متر وانطلقوا من جانبٍ واحدٍ من الماء إلى الجانب الآخر. فيما كانت تتدفّق مياه نهر أروند نحو الأسفل انطلاقا من منبعها فقد كانت مياه المد البحريّة تعلو من جانب البحر، ولهذا يُعتبرُ أروند ممرّاً عجيباً. ارتدى أبناؤكم بدلات الغوص – دون معرفة العدوّ– وغاصوا على عمق 1300 متر وهو أوسع جزءٍ من أروند؛ وليس بعمق 10 أمتار و20 متراً و100 متر، ووصلوا إلى الجانب الآخر، وتمكّنوا من أخذ الشّاطئ المقابل من العدوّ وصنعوا ذلك الفتح العظيم الّذي قلب الأحداث رأساً على عقب.
في هذه العمليّة، تمّ نقل زوارق حرس الثّورة الإسلامية الإيرانيّة إلى شواطئ أروند دون أن يعرف العدوّ. جاءت كلّ هذه القوّات والإمكانات من بعيدٍ إلى سفح مياه أروند، لكنّ العدوّ، بكلّ معدّاته وبمساعدة الأقمار الصّناعية الأمريكيّة والبريطانيّة والسّوفياتيّة، لم يستوعب الحركة العظيمة التي قام بها حرس الثّورة الاسلامية الإيرانيّة، حيث كان قد جلب كلّ هذه القوّات من فرقٍ مختلفة إلى ذلك المكان. وكان يجب أن ينقل أبناء فرقة ثار الله القواربَ إلى الشّاطئ.
ومن أشهر شهداء هذه الفرقة، ذلك الّذي لم يسترح خلال عشرين يوماً من نقل هذه القوارب سرّاً. ونُقل عن قائده العزيز (الحاج قاسم سليماني) -الحمدلله تعالى الذي حفظه لنا وهو أحد أحبابنا- قوله أنّ هذا الشابّ لم يغلق عينَيه ولم ينم منذ ثلاثة أيّام. بعد أن نام في الخندق لمدّة ثلاثة أيّام، طرأت مُهمّةٌ جديدة؛ ذهبت وناديته وأخذته معي في المهمّة! هؤلاء هكذا كانوا يجاهدون حقّا.
هؤلاء يشوهون صورة الثّورة عبر هذه الرّفاهية والتّرف
يقول أحد أصدقاء الشّهيد نصر اللّهي في التّعبير عن السّمات الشّخصيّة لهذا الشّهيد وإيلائه اهتماماً خاصّاً للمحافظة على الخزينة: «ذات يوم، تمّ إبلاغ وحدتنا أنّ عضواً في مجلس كرمان قد حضر للتّحدّث في إحدى الإحتفالات. قال شخصٌ جاء في وقتٍ سابقٍ للتّنسيق من قِبَل هذا المندوب أنّ السّيّارة يجب أن تكون دوريّة. اعترض محمّد، لكنّ هذا الشّخص نفسه ذهب وأخذ دوريّةً من المقرّ. كان محمّد منزعجاً جدّاً لسماع ذلك. جاء ليلاً وقال لي: «هؤلاء يُشوهون صورة الثّورة عبر هذه الرّفاهية والتّرف»، وقد أعطى الإمام الخمينيّ(قدس سره) لاحقاً مثالاً على مدى بساطة حياته.»
- [1] كان محمّد نصر اللّهي من أوائل الحرس الثّوريّ الإيرانيّ في كرمان وكان له حضوراً كبيراً خلال أحداث فتنة كردستان؛ بحيث كان له دوراً مميّزاً في عامي 1980 و1981 في منطقة باوة مع زملائه الآخرين من كرمان. لم يستسلم بعد نهاية فتنة كردستان، بل ذهب إلى ساحة المعركة ضدّ النّظام البعثيّ في العراق.
- [2] مأخوذٌ من كتاب «الابتسامة الأبديّة».