نحن نفخر بأنّ شهسواري كان من كرمان
تفخر جامعة ثار الله بامتلاكها أساتذة من العرفاء وقادة سربداريّون مثل شهسواري[1] الذي تحوّلت صرخته إلى رمز خالد للتحرّر في تاريخ إيران والذي تأسى بأبناء أهل بيت سيّد الشهداء (ع) عندما كانوا محاصرين من العدوّ، وصرخ بأعلى صوته وبأيدٍ مغلولة ورغم أنّ السلاح كان موجّهاً إليه، فقال «الموت لصدّام المعادي للإسلام» وألقت تلك الكلمات القصيرة الرّعب في أبدان الأعداء؛ وستبقى صرخته خالدة بنفس ذلك الصّدى.[2]
نحن نفخر بأنّ شهسواري كان منّا (نحن الكرمانيّين)، شهسواري الذي منح بتحرّره قيمة عالية وأبدى بأيديه المغلولة صلابة وصرخ رغم وحدته وغربته في ظلّ حصار العدوّ: «الموت لصدّام المعادي للإسلام». هذا ما ينطوي على قيمة كبرى. لا يمكن تحديد قيمة هذا التصرّف في كلامنا، وبين هذا الجمع وفي هذا العالم المادّي، سوف تنكشف قيمة هذا التصرّف غداً في يوم القيامة، عندما يحضر جميع الأنبياء الإلهيّين في يوم الحشر، وأمام العالم كلّه.[3]
إنّني أفخر بكوني كرمانيّاً؛ وبوجود جواهر مثل «شهسواري» الذي صرخ «الموت لصدّام المعادي للإسلام» وهو بقبضة العدوّ وأثبت أنّه استلهم درسه بشكل جيّد من مدرسة الإمام السجّاد (ع).[4]
فرحة البعثيّين انتهت بعد هذا التصرّف
استشهد في هذه العمليّة شهداء عظام من أمثال مهدي باكري قائد فيلق 31 عاشوراء؛ عبّاس كريمي قائد فيلق 27 محمّد رسول الله (ص) وإبراهيم جعفر زادة قائد كتيبة 18 الغدير، وأضيفت بذلك صفحات ذهبيّة إلى مفاخر الحرب؛ لكن كانت هناك ملحمة أخرى تُسطّر في الخطوط الأماميّة لهذه العمليّة؛ فعندما وقع عددٌ من المجاهدين الإيرانيّين أسرى بيد القوات البعثيّة في شرق نهر دجلة وحضرت وسائل الإعلام الأجنبيّة لتغطية فرحة البعثيّين وهزيمة المجاهدين الإيرانيّين؛ حينها وقع حدثٌ استثنائيّ، لفت أنظار وسائل الإعلام الغربيّة لشجاعة وشهامة المجاهدين الإيرانيّين.
كان الإيرانيّون يتابعون التلفاز حين رأوا شابّاً يهتف ويصرخ. لم يكن أحدٌ يعرف اسمه ولم يكن اسمه متداولاً؛ لكنّ وجود الشعب الإيراني انغمس في تعظيم وإجلال هذا الشّاب الحرّ؛ فبينما كان يتمّ نقله بواسطة جنديّ بعثيّ إلى مكانٍ آخر، صرخ بصوت عالٍ أمام عدسات الكاميرا «الموت لصدّام المعادي للإسلام»، وإثر هذا التصرّف عمّت إيران مشاعر الفخر وروحيّة الشجاعة.
ولد «الشهيد القائد محمّد شهسواري» في 23 شباط عام 1956 في قرية شيخ آباد في كهنوج؛ أكمل دراسته حتّى العام السادس من النظام التعليميّ القديم ولم يُكمله بسبب عدم وجود مدرسة في كهنوج. فقد والده عندما كان عمره ثلاث سنوات، توجّه إلى جزيرة كيش من أجل توفير مصاريف العائلة وعاد إلى كهنوج بعد ثلاثة أعوام؛ وعمل في تعبيد الطرقات بين كهنوج وجيرفت. مع انطلاق الحرب المفروضة، اتّجه محمّد إلى الجبهة وصادفت مشاركته في الحرب انطلاق «عمليّة بيت المقدس». وقع محمّد شهسواري في 13 آذار من العام 1985 خلال عمليّة بدر، بأسر القوات البعثيّة في شرق نهر دجلة. وفي خضمّ هذه المرحلة الحساسة والمؤلمة من حياة محمّد الدنيويّة، برزت حميّته العلويّة وحماسته الاستثنائيّة ودوّنت في تاريخ الشعب الإيراني.
أرغب في أن أضيّف والدة محمّد بيدي
بعد ساعات من الوقوع في الأسر على يد المعتدين البعثيّين، وعندما كانوا يسوقون محمّد شهسواري من أجل إرساله إلى الخطوط الخلفيّة وباتجاه السيارات العراقيّة، عندما لاحظ الشهيد شهسواري اجتماع عشرات المراسلين وعدسات الكاميرا حوله، شعر أنّ النظام البعثي يسعى بشكل واسع للاستفادة من عدم انتصار إيران في عمليّة بدر.
وفي هذه اللحظة صرخ فجأة عدّة مرّات «الموت لصدّام المعادي للإسلام»، وفي تلك الليلة بثّت شاشات التلفزة في أنحاء العالم مشاهده وضخّت هذه المشاهد روحيّة جديدة بين المسلمين الأحرار الذين كانوا متألّمين من دعايات صدّام وحلفائه القاسية إثر عدم بلوغ إيران للفتح في عمليّة بدر.
عندما علم الإمام الخميني(قدس سره)بتصرّف محمّد عند وقوعه في الأسر ورأى تلك المشاهد على شاشة التلفاز، طلب اللقاء بعائلة محمّد.
تقول والدة محمّد حول هذا اللقاء: لم يكن قد مرّ أكثر من شهرين على أسر محمّد، ولم نكن قد اعتدنا على الصعوبات بعد، وفي اللحظة التي كنا بحاجة فيها لما يبلسم آلامنا، منّ الله علينا بأن تشرّفنا بلقاء الإمام. حمل الإمام بعظمته كوب العصير وأخذه من يد الخادم ثمّ قال: أرغب في أن أضيّف والدة محمّد بيدي. كان الإمام الخميني يقول: أمّهات الشهداء الشيعة هنّ الذين يربّين أبطالاً مثل هؤلاء.
أنا لا أكذب على العدوّ أيضاً
نقل المسؤول عن مكان أسر محمّد شهسواري خاطرة حول عظمة روح ذلك الإنسان الصالح:
كنّا قلقين على محمّد في بدايات فترة أسره بسبب إطلاقه صرخة «الموت لصدّام». كنّا نسعى لتحريره في أسرع وقت ممكن. عندما جاء أعضاء الصليب الأحمر، تذرّعت بتشنّج محمّد وأوضحت لهم حالته المزاجيّة. قلت لهم: «نظراً لأوضاع محمّد، أخشى أن يتسبّب لهم بمشكلة معيّنة، وأن يتسبّب بمشكلة لسائر الأسرى أيضاً.» اقتنعوا بأن يتمّ تحريره خلال تبادل الأسرى. واقتنع المسؤولون في القسم العلاجي في الصليب الأحمر أيضاً؛ لكنّ محمّد قال في الردّ النهائي على أطبّاء الصليب الأحمر: «سبب تشنّجي، كان الضربة التي تلقّيتها على رأسي قبل الوقوع في الأسر وقد اشتدّ إثر تعذيب البعثيّين.» بعد هذا التصريح أعرضوا عن الإفراج عنه وكانوا ينتظرون أقلّ حجّة لاتخاذ مثل هذا القرار.
انزعجنا من تحدّثه بهذه الطريقة. قال محمّد شهسواري وسط ذهول واستغراب جميع الأسرى: «أنا لا أكذب على العدوّ أيضاً؛ حتّى وإن كان ثمن ذلك نيل الحريّة. لقد وقعت في الأسر وهتفت الموت لصدّام لأجل من؟ لو أراد تحريري سيكون قادراً على ذلك. ذلك الإله الذي يوجد هذا الألم بداخلي بسبب نقص في إحدى الشرايين، قادرٌ على سلب الوجع من جسدي.»
أجريت الشهادتين على لساني
حول ذلك التصرّف الشجاع، صرّح محمّد شهسواري قائلاً: «كانت دماء الشهامة تسري في شراييني وكان الشوق للوصول إلى كربلاء قد أعياني. نحن الشيعة الذين نهتف لنينوى، نحن تلامذة دماء وشرف كربلاء. لقد كانت أرواح أجساد الشهداء المقطّعة إرباً إرباً تدعوني إلى ثورة أخرى وأداء تكليفٍ آخر. كان قد حان الوقت لكي أثور في حضرة الشهداء وأمام الأعداء، المصوّرين والأسرى، ضدّ الظالمين وأفهمهم بأنّني أردّد مع مولاي الإمام الحسين نداء «هيهات منّا الذلّة»، وكنت على علمٍ بأنّني أسير على خطى الحقّ. دعني أفرغ آخر صرخاتي على رأس العقول الفارغة لهؤلاء الحقراء وأجعل المراقبين على مرّ التاريخ يُذهلون من دور الإيمان في الحرب. الشهادة طريقنا ولطالما كانت طريق عظمائنا وأعلام ديننا، وإنّ القتل في سبيل النهوض بالتكليف الإلهيّ في ظلّ قيادة إلهيّة أحلى بالنسبة إلينا من العسل. كنت أظنّ أن المصوّرين الواقفين فوق المتراس بعثيّين. جهّزت في رأسي عدداً من الشعارات وقرّرت أن أطلق في إحدى اللحظات الحساسة صرخة مدوّية تزلزل أركان العدوّ الجبان. «الموت لصدّام المعادي للإسلام، الخميني قائدنا ما دامت الدماء تجري في عروقنا، الموت لأمريكا، الموت للمنافقين» كانت شعارات ردّدتها مع نفسي وكرّرتها. كانت اللحظات تمرّ بسرعة، كنت أشعر بأنّ لحظة الوصال العذبة قد اقتربت وأنّ جثماني سيحظى أخيراً بالسكينة إلى جانب جثامين الشهداء خلال الدقائق المقبلة. كنت غارقاً في أفكاري هذه، عندما اتّخذت القرار النهائي. قرّرت أن أتحلّى بالشجاعة، أجريت الشهادتين على لساني وصرخت من أعماق قلبي: «الموت لصدّام المعادي للإسلام».
كان يقف شخصان خلفي من ذوي الرّتب العسكريّة، أحدهما لقّم سلاحه والآخر ضربني بؤخّرة سلاحه على رقبتي ضربة قويّة وانهال عليّ بالضرب المُبرح. كنت قد أخرجتُ من رأسي فكرة العودة إلى الوطن. لم يعتريني في تلك اللحظة أيّ خوفٍ من العدوّ. لم أكن أقيم لهم أيّ اعتبار ولو بمقدار ذبابة. أوصل الصحافيّون أنفسهم إلى المكان، وعندما اقتربوا أدركت أنّهم ليسوا عراقيّين. جعلني الجنود البعثيّون بضرباتهم المتتالية أهوي إلى الأرض وأستلقي بجانب جثامين الشهداء. مرّة أخرى أجريت على لساني الشهادة بوحدانيّة الله والإيمان برسالة رسول الله (ص) وولاية الأئمّة الأطهار. كنت أعدّ اللحظات وأنتظر إطلاق النار عليّ. لعلّهم صرفوا النّظر عن قتلي بسبب وجود عدسات الكاميرا.
عاد شهسواري عام 1990 إلى ربوع الوطن برفقة سائر الأسرى المحرّرين وبعد عودته قلّده رئيس الجمهوريّة وسام الشجاعة. قضى بقيّة عمره يعمل حارساً لإحدى المدارس ونال فيض الشهادة أخيراً على طريق زاهدان في 10 آب عام 1996 عندما كان متّجها لإنجاز مهمّة وكّله بها فيلق 41 ثار الله (ع).
لقد غمرت وجودنا مشاعر التعظيم والإجلال لهذا الشّاب الحرّ
تحدّث الإمام الخامنئي أثناء زيارة له إلى جيرفت عام 2005 حول الشهيد شهسواري قائلاً:
«تحوّل شخصٌ مثل الشهيد محمّد شهسواري -الأسير المحرّر الجيرفتي- إلى شخصيّة خالدة في البلد؛ ليس لأنّه كان من الطبقات العليا؛ لا! لقد كان شخصاً عاديّاً ومن الفئات الدّنيا في المجتمع؛ لكنّ وعيه وشجاعته، رفعا من شأنه لدى الشّعب الإيراني. في ذلك اليوم، عندما كنّا جالسين أمام التّلفاز ورأينا كيف أنّ هذا الشّاب الواقع في قبضة وحوش نظام صدّام البعثي يصرخ تحت ضربات سياطهم «الموت لصدّام المعادي للإسلام»، لم نكن نعلم أنّه من جيرفت؛ فلم نكن قد سمعنا باسمه ولم نكن نعلم عنه أيّ خصائص أخرى؛ لكن غمرت وجودنا مشاعر التعظيم والإجلال لهذا الشابّ الحرّ. ثمّ عاد بفضل الله إلى شعبنا وبلدنا».
- [1] انطلقت عمليّة بدر في منطقة الجبهة الجنوبيّة من هور الهويزة برمز «يا فاطمة الزّهراء (ع)» في 11 آذار 1985، واستطاع مجاهدو الإسلام بعد 6 أيام من المقاومة والثبات السيطرة على شارع العمارة-البصرة اكتفوا بتثبيت مواضعهم الجديدة في هور العظيم.
- [2] مقطع من مقدّمة الحاج قاسم سليماني على كتاب «أطلس فليق 41 ثار الله».
- [3] كلام الحاج قاسم سليماني في حفل كرمان الفنّي في برج ميلاد.
- [4] مقطع من رسالة الحاج قاسم سليماني لأحمد يوسف زادة، مؤلّف كتاب «أولئك الثلاثة والعشرون فتى».
تعليق واحد