مواضيع

الاستقلال والحرية

كانت براعة إمامنا العظيم في أنه وضع إطاراً متماسكاً لهذه الثورة، ولم يسمح بذوبانها في بوتقة القوى والخطوط السياسية السلطوية، فكان مغزى شعار «لا شرقية لا غربية جمهورية إسلامية»[1] أو شعار «استقلال حرية جمهورية إسلامية»[2]-الذين رسمتهما تعاليم الإمام وإرشاداته على شفاه الجماهير- أنّ هذه الثورة ترتكز إلى أصول ثابتة وصلبة لا صلة لها بالمبادئ الاشتراكية في المعسكر الشرقي يومذاك، ولا بأصول الرأسمالية الليبرالية للمعسكر الغربي. وهذا هو السبب فيما أبداه الشرق والغرب من عداء وتزمّت إزاء هذه الثورة.[3]

هذا الشعار المعروف «استقلال، حرية، جمهورية إسلامية» يمثل نوعاً من السير من الخاص إلى العام، أي فيه ذكر للعام ومن ثم الخاص. نقول أولاً «استقلال» ثم نقول «حرية». الاستقلال جزء من الحرية، بمعنى أننا إذا لاحظنا الحرية الفردية لكان ذلك وجه واحد من العملة، أما الحرية من هيمنة القوى والقوى الكبرى فهو الوجه الآخر للعملة، وهو أيضاً نوع من الحرية، إذن الاستقلال جزء من الحرية، والذين يريدون الحرية إذا رفضوا الاستقلال -وللأسف يشاهد المرء أحياناً بعض أشباه المثقفين يرفضون مفهوم الاستقلال ومصاديق الاستقلال بسفسطة منطقية في ظاهرها لكنها في الواقع غير منطقية- فهم في الواقع يرفضون الحرية. الاستقلال جزء لا يتجزأ من الحرية. استقلال بلد من البلدان جزء من مفهوم الحرية، إنه الحرية بمقاييس شعب، هذا هو معنى الاستقلال. وهذه كلها موجودة في الجمهورية الإسلامية، بمعنى أن هناك أيضاً جمهورية إسلامية، فليس الأمر حرية فقط، ولا استقلال فقط، بل يشمل هذه أيضاً ويشمل الكثير من المعارف الأخرى. عندما نشرح هذه الأمور لمتلقينا نجد أنها جذابة وتجتذب القلوب إليها.[4]

الاستقلال بمعنى الحرية بمقياس شعب بأكمله

من النقاط والخطوط الأصلية لفكر الإمام الخميني قضية استقلال البلاد ورفض الخضوع للهيمنة؛ هذا بدوره من العناوين البارزة المهمة. لقد قلتُ للمستمعين في العام الماضي وفي نفس هذا التجمع[5] بأن الاستقلال يعني الحرية بمقياس شعب بأكمله، هذا هو معنى الاستقلال. أن ينادي البعض في شعاراتهم بالحريات الفردية لكنهم يتحاملون على استقلال البلاد فهذا تناقض. كيف يمكن أن تكون الحرية الفردية للأشخاص محترمة لكن حرية شعب بأكمله والحرية بمقياس بلد كامل مقابل حظر المعارضين والأجانب، غير متحرمة؟! هذا شيء غير مفهوم وغير مقبول. للأسف هناك أفراد ينظّرون لدحض استقلال البلاد، ويفسرون الاستقلال أحياناً بأنه عزلة وأحياناً بأن استقلال البلدان اليوم لا يعتبر قيمة ويكتبون ويتحدثون وينتشر هذا الكلام في أوساط المجتمع. البعض يتحركون بهذا الاتجاه. هذا خطأ كبير وخطأ مهم وخطير جداً. كان الإمام الخميني يؤمن باستقلال البلاد ويرفض هيمنة الآخرين على البلاد. الكثير من أعمال العدو ضد بلد إيران وشعب إيران خلال هذه السنين كانت من أجل المساس باستقلال البلاد، سواء عن طريق الحظر أو عن طريق التهديد؛ هم يستهدفون استقلال البلاد. على الجميع التحلي بالوعي ومعرفة أهداف العدو. كان هذا بدوره أحد الخطوط الرئيسية.[6]

إنّ شعار الاستقلال لَمِن أهم الشعارات؛ فلولا الاستقلال، لما استطاع شعب أن يحقق حرّيته ولا أن ينظر بعين الأمل لشعار حرّيته.

إنّ هناك من يريد إنزال الستار على موضوع الاستقلال؛ فبعضهم يفعل ذلك عمداً، وبعضهم سهواً، وبعضهم غفلة، والبعض الآخر خبثاً؛ وإنني أريد اليوم أيها الإخوة والأخوات الأعزاء أن أتحدث معكم حول الاستقلال مادامت الفرصة سانحة لذلك.

فما معنى الاستقلال؟ وماذا يحمل الاستقلال من مضمون وقيمة بالنسبة لشعب ما؟ إنّ معنى الاستقلال هو أن يصبح بوسع شعب تقرير مصيره بنفسه بمنأى عن أيدي الأجانب وبعيداً عن تدخّلاتهم الخيانية والمغرضة، هذا هو معنى الاستقلال؛ فلو سلبوا شعباً استقلاله؛ أي إذا تحكّم الأجانب في مصيره -وهم الذين لا يهمهم أمره بالتأكيد- فإنّ هذا الشعب أول ما سيفقده شيئين: الأول: عزّة نفسه، ومفاخره، والشعور بهويّته، والثاني: مصالحه.

إنّ العدو عندما يسيطر على مصير شعب فإنه لا يأبه بأمره ولا يهتم بمصالحه. فالذي يأتي ليُحكم قبضته على رقبة شعب فإنه لا يفكر إلاّ في مصالحه الذاتية أولاً وآخراً، وإن الذي لا يأخذه بحسبانه أبداً هو مصالح ذلك الشعب الذي فقد استقلاله. وهناك الكثير من النماذج في هذا السياق في القرن التاسع عشر ومن ثم في القرن العشرين.[7]

إنّ من أهم الأمور التي شكّلت هوية الثورة، هي استقلال الشعب الإيراني وهويته، وهو الأمر الذي لم يؤخذ بنظر الاعتبار بل وتمّ تجاهله لمدة نصف قرن من حكومة البهلوي ونصف قرن قبلها في ظلم الحكم القاجاري، حيث رزحت البلاد بما لها من رقعة حدودية واسعة، وما تشمل عليه من أمة حية وثروات طائلة، تحت وطأة القرارات الأجنبية، فطوراً تقع فريسة المنافسة بين الروس والإنجليز، وتارة ينفرد الإنجليز بها، ثم وقعت أخيراً في قبضة ماردٍ أشرس منها وهو أميركا، ولم يكن للشعب الإيراني -سواء طبقة العلماء الذين أدركوا حجم الخطر، أم سائر أفراد الشعب الذين وقعوا ضحية لآثار ذلك الخطر- من هدف سوى استعادة هويته الأسيرة، وإعادة استقلاله، والخلاص من التبعية، وحالياً فإن أهم ما تتعرّض له هذه الثورة من العداوات يعود سببه إلى هذه الحقيقة، فانظروا إلى ما يحدث من المتغيّرات السياسية في الدنيا وما يقوله الناطقون باسم السياسات الاستكبارية، وأهم النقاط التي يؤكّدون عليها -طبعاً إنهم يتذرّعون بحقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب- أضافوا للشأن الإيراني قلقهم من إنتاج القنبلة النووية والطاقة النووية لاستخدامهما عسكريا، إلاّ أنَّ الحقيقة تكمن في غير ذلك، فإنهم لا يعترضون على الاستبداد، فهاهم يساعدون بعض الدول التي لم تترك لشعوبها ولو منفذاً بسيطاً ليدخل منه نسيم الحرية والانتخابات، وما أكثر الحكومات التآمرية التي وقفت أميركا إلى جانبها مساندة وحامية، إذاً فَهُم لا يعيرون اهتماماً لهذه المسألة، كما أنهم هم الذين أشاعوا الإرهاب، وإنّ الذين يعرفون حالياً بالإرهابيين قد صنعتهم الاستخبارات الأميركية بشكل مباشر أو غير مباشر، وليس هذا بخافٍ على أحد، إذ تصوّروا ذات يوم أنّ زرع هؤلاء الأشخاص في الجانب الشرقي من حدودنا سيؤدي إلى إضعاف الجمهورية الإسلامية، فبذلوا لهم الأموال وعملوا على تدريبهم وتسليحهم، وقبل عامين صرّح شارون الجلاّد وهو الذئب الذي يرتدي جلداً بشرياً إنه سيقوم بقتل الفلسطينيين واغتيالهم دون حياء أو خجل، وبرغم ذلك وقفت أميركا إلى جانبه ولم تستقبح الإرهاب هنا، خصوصاً وأنّ هذا الإرهاب صادر عن دولة، ومن هنا فإنهم لا يعارضون الإرهاب، وإنما غايتهم تكمن وراء شيء آخر.

وقد صرّحت أميركا اليوم بما تخفيه حيث قالت: إنّ إيران لا توافق على سياستنا؛ ولذلك لا يسعنا أن نتحمّل وجودها، وهذا هو السّر وراء كل تلك الادّعاءات، فالمسألة هي أنّ البلد الذي كان خاضعاً للسياسات الأميركية مئة بالمئة ولسنوات متمادية، قد رفع الشعب فيه رأسه، وأخذ يقول كلمة الرفض بشجاعة لجميع المطامع التي تحلم بها أميركا وغيرها من الدول الاستكبارية في العالم، كما أنّ هذا الشعب جعل بقية الشعوب تؤمن بهذا الرفض، في حين أنهم يريدون من إيران الإسلامية أن تستسلم وتتماشى مع السياسة الأميركية وغيرها من القوى الاستكبارية، وهو ما يعني استبداداً عالمياً شاملاً.[8]

الحرية الفردية

في الثقافة الغربيّة حيث يحدّد القانون حدود الحريّة، ينظر هذا القانون إلى الشؤون الاجتماعيّة. بمعنى أنّ القانون يصرّح بوجوب ألا يهدّد أيّ إنسانٍ حريّة الآخرين ويعرّض مصالحهم للخطر. لكن في الإسلام لا يقف الأمر عند هذا الحدّ، أي أنّ القانون الذي يحدّ من حرية الإنسان، يقول للإنسان أنّ استخدام الحريّة إضافة إلى ضرورة ألا يعرّض حريّة الآخرين للخطر ولا يهدّد مصالح المجتمع والآخرين، يجب أن لا يعرّض مصالح الإنسان الشخصيّة ومصالح الشخص نفسه للخطر. القوانين البشريّة لا تحدّد للإنسان مسؤوليّة عندما لا يكون للأمر علاقة بالمجتمع؛ قد تقدّم توصية، لكن لا وجود لأيّ تكليف وإلزام. الإسلام والأديان الإلهيّة إضافة إلى كونها تفكّر بصوت حقوق وحريات الآخرين وتقول بأن لا ينبغي للإنسان أن يهدّد حقوق الآخرين ويعرّضها للخطر بحجّة التحرّر، فإنها تقول أيضاً بأن لا يحقّ للإنسان بحجّة التحرّر وامتلاك الإرادة تهديد مصالحه الشخصيّة أيضاً، هو أيضاً لا ينبغي أن يتعرّض للخطر بواسطة حريّته. لذلك فإنّ إلحاق الضرر بالذات ممنوع في الإسلام، والانتحار ممنوع. وفق الفكر الإسلامي، لا يستطيع أحدٌ الادّعاء بأنني حرّ، وعليه سوف أفني أموالي، وأزهق روحي أو ألحق الضرر بصحّتي. فكما أنّه مكلّفٌ بأن لا يحدّ حقوق وحريّة الآخرين بحركاته وتصرّفاته وأعماله وأقواله ولا يلحق بها الضرر، فإنّه مكلّف أيضاً بعدم تعريض حريّته الشخصيّة وحدوده الشخصيّة وحقوقه الشخصيّة للخطر. هذا حدٌّ فاصلٌ أساسيّ بين الحريّة من وجهة نظر الإسلام والحريّة لدى سائر الآراء الأخرى والثقافات البشريّة. لذلك فإنّ الانظلام غير جائز في الإسلام أيضاً، أي أنّ الرضوخ للظلم والغطرسة حرامٌ حتى لو كان الأمر مرتبطاً بالشخص نفسه. كما أنّ عدم التقيد بالواجبات وعدم قطع مسار التكامل حرامٌ في الإسلام. وعدم تفعيل القدرات الذاتيّة حتى عندما يكون الأمر مرتبطاً بالشخص نفسه فقط ولا يرتبط بالمجتمع ممنوعٌ وحرامٌ أيضاً في الإسلام. الانتحار، إلحاق الضرر والأذى بالذات من الممنوعات والمحرّمات أيضاً. لذلك لا يستطيع الإنسان أن يقول بأنني أملك زمام أمور نفسي وأرغب بملئ إرادتي بسلب نفسي حريتي أو منحها للآخرين أو تحمّل الفرض والغطرسة الفلانية أو عدم تنمية روحي وقلبي وعدم السعي لتكاملهما. طبعاً، هناك نقطة لافتة وفائقة الأهميّة وهي أنّ منع تحرّر الإنسان فيما يتصل بحقوقه والحرص على عدم إلحاقه الضرر بنفسه، نفس صون الحريّة هذا تكليفٌ شخصيٌّ أيضا. أي لا يحقّ لأيّ دولة وحكومة وقانون إجبار أحد على أن يحافظ على حقوقه، إن لم يكن الأمر مرتبطاً بالمجتمع، أو أن تجبره وتلاحقه وتحاكمه لأجل ذلك. لذلك فإنّ الإسلام يمنع التجسس والتفحّص والمتابعة والفضح فيما يتّصل بالأمور التي يكون فيها إلحاق الضرر مقتصراً على الذات. هناك أيضاً بعض الأعمال المحرّمة والممنوعة في شرع الإسلام المقدّس يقتصر ضررها للمجتمع على الوقت الذي يتمّ فيه فضحها وإفشاؤها، وهي غير مضرّة إن لم يتمّ إفشاؤها؛ وسوف تلحق الضرر بمرتكب الذنب ومرتكب هذا العمل فقط، لا بالآخرين. لا يأمر الإسلام في مثل هذه الحالات أن تفحّصوا، تجسّسوا، أنظروا إن كان هذا الإنسان يرتكب في بيته وفي خلواته عملاً ممنوعاً ومحرّما أو لا؟ ليست مسؤولية الناس أن يبحثوا ويفحصوا ارتكاب الآخرين للأعمال المحرّمة، ما دام ذلك العمل الممنوع والمحرّم مرتبطاً بنفس ذلك الشخص. لكن هذا التكليف الإلهيّ ملقى على عاتقه هو شخصيّاً، أي أنّ الله عزّ وجل سيعاقبه. صون الذات وحقوق النفس واجب. يخاطب القرآن الناس أو المؤمنين بالقول: <قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً>[9]؛ أي احفظوا أرواحكم وأنفسكم وأيضاً أهل بيتكم، أي الذين يتأثّرون بكم؛ لا تسمحوا بأن يحترقوا في نيران الغضب الإلهيّ؛ لا تسمحوا بأن يتعرّضوا للعقاب الإلهيّ. <يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ>[10]؛ وأينما كان الأمر مرتبطاً بالمجتمع، يتوجّب على القانون، الحكومة، الجهاز التنفيذي، الجهاز القضائي أن يكون حريصاً ويمنع المرتكب وفق القانون أو يعاقبه. لكن أينما كان الضرر جراء الإستفادة من الإمكانات مقتصراً على الإنسان نفسه، فلا دور للقانون هنا، لكنّ الإنسان المسلم لا يملك من وجهة نظر الإسلام حريّة توجيه هذه الضربة لذاته أيضاً؛ وليس مسموحاً له التغاضي عن حقوقه. هذه نقطة فارقة أساسيّة بين الحريّة من وجهة نظر الإسلام والحريّة بمفهومها وثقافتها الغربيّة.[11]


  • [1] صحيفة الإمام: ج‏11، ص170.
  • [2] صحيفة الإمام: ج‏10، ص 341.
  • [3] خطاب سماحته في ذكرى الإمام الخميني بتاريخ 4-6-2002م
  • [4] كلمة سماحته في لقاءه مع أعضاء مجلس الخبراء بتاريخ 3-9-2015م
  • [5] خطاب سماحته في ذكرى رحيل الإمام الخميني بتاريخ 4-6-2014م
  • [6] خطاب سماحته في ذكرى رحيل الإمام الخميني بتاريخ 4-6-2015م
  • [7] خطاب سماحته مع أهالي قم بتاريخ 5-10-2000م
  • [8] خطاب سماحته أمام القوات الجوية 7-2-2005م
  • [9] التحریم: 6
  • [10] المائدة: 105
  • [11] خطبة الجمعة لسماحته بتاريخ 23-1-1987م
المصدر
كتاب الثورة الإسلامية في فكر الإمام الخامنئي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟