مواضيع

عزم الأمور

قول الله تعالى: <وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ>[1] 

المعنى الإجمالي والمضامين العامة للآية

إن الصبر على الأذى، وتسامح الإنسان وعفوه عمن ظلمه وأخطأ عليه، بعد القدرة عليه والتمكن من أخذ حقه منه، حيث يحسن الصبر والمغفرة ويعدان من الفضائل والأفعال الحميدة، من عزائم الأمور التي ينبغي التحلي بها والثبات عليها وتدل على كمال صاحبها وسمو نفسه ورقيها وصلاحها، وعلى كمال الإيمان وتحكم العقل وأحكام الشريعة وآدابها في قوى النفس وقيادتها وحسن تدبيرها، والتغلب على الأهواء والرغبات والشهوات والنزوات النفسية، الأمر الذي يحتاج إلى البصيرة ووضوح الرؤية والتحلي بالحلم والسماحة وسعة الصدر، وإلى التصميم والحزم وقوة الإرادة ونفوذها؛ لأن ترك الانتصار للنفس بالقول أو الفعل، ومقابلة الأذى والإساءة بالإحسان إلى المسيء، ورأى آثارها العظيمة النورانية في نفسه، ابتهج بها وتلقاها بالسرور وسعة الصدر والترحاب.

وفي المقابل: ينبغي الحذر الشديد من الانطلاق من الأهواء والثروات، والجري وراء غريزة حب الانتقام، والسعي لإرضاء النفس الأمارة بالسوء، وترك التسامح وعدم قبول الأعذار، والعمل بالظن السيئ ونحوه، فإنه دليل على النقص وضعف الروح وظلمانية النفس وكدارتها وانفلات زمامها وعدم القدرة على ضبطها وإصلاحها وتهذيبها.

والآية الشريفة المباركة: دليل على فضيلة الصبر على الأذى والعفو والتسامح، وأنها من الأمور المهمة جداً وأحسنها التي يحسن العزم والتصميم عليها، وأنها من الأمور الشريفة النفيسة التي أمر الله تبارك وتعالى بها عباده وحثهم على فعلها لشرفها ونفاستها وآثارها الطيبة على الشخص وعلى المجتمع. وفعلها والثبات عليها يحتاج إلى بصيرة ووضوح في الرؤية، وإلى الروية وإعمال النظر، ولا يوفق إليها إلا أولوا الألباب وأصحاب الهمم العالية والحظوظ العظيمة الذين هداهم الله تبارك وتعالى لفضله وأفاض عليهم من نوره وواسع رحمته.

وقد ذكر في الآية الشريفة المباركة الصبر قبل الغفران، وتلك إشارة إلى أنه مع عدم الصبر لا يمكن أن يحصل الغفران، حيث تسيطر الأهواء والنزوات على النفس وتتجاذبها وتضعف سيطرة العقل عليها، فيميل الإنسان إلى الانتقام، ويحرم من فضيلة العفو والتسامح.

حق الأفراد والمجتمع في العفو

هنا تنبغي الإشارة إلى ضرورة التمييز بين حق الأفراد وحق المجتمع في العفو وبين الظلم الذي يقع على الأفراد والظلم الذي يقع على المجتمع. فصبر الأفراد وعفوهم عمن ظلمهم فضيلة ومن عزائم الأمور، ولكن العفو عن الظلم الاجتماعي العام فقد لا يعد فضيلة، لما يترتب عليه من الإخلال بالتوازن ونشر الفساد في الأرض وتعطيل حركة التكامل والتطور الحضاري في المجتمع، ولا يملك الحق فيه إلا المجتمع نفسه وولي الأمر الشرعي (الحاكم الشرعي)، وقد نهى القرآن الكريم عن السكوت عن الظلم الاجتماعي العام؛ قال الله تعالى: <وَلَا تَرْكَنُوا إلى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ>[3]؛ أي: لا تميلوا وتطمئنوا وتسكنوا اليهم بمودة أو طاعة، ولا تصاحبوهم وتسكتوا عن ظلمهم وتعتمدوا عليهم في تدبير أموركم وشؤونكم وتظهروا الرضا لفعلهم وتداهنوهم وتحبوا بقاءهم، فضلاً عن مساعدتهم وتحسين طريقهم وسياستهم وتزيينها وإضفاء الشرعية؛ الدينية والسياسية على أفعالهم وطريقتهم وسياستهم الظالمة والجائرة عن الحق والصواب. لا تفعلوا ذلك مهما كانت قوتهم وشدة بأسهم وبطشهم، فتكون عاقبتكم الشقاء والهلاك في الدنيا، وتمسكهم النار في الآخرة، وليس لكم من دون الله سبحانه وتعالى من أولياء لهم عليكم حق الطاعة والاتباع بشكل مستقل عنه، أو أولياء تدعونهم فيستجيبوا لكم، أو تستغيثون بهم فيغيثوكم، أو تستصرخونهم فينصروكم وينقذوكم، أوليس لكم شفيع يشفع لكم أو نصير ينصركم وينقذكم من عذاب يوم القيامة حين تمسك نار جهنم الحامية، ولا تجدون مجيباً يجيب دعواتكم إلا الله(عز وجل)، والله سبحانه وتعالى لا يجيبكم ولا ينصركم بسبب أعمالكم السيئة، فيؤول أمركم إلى الخذلان والخسران المبين ولا دافع له يدفعه عنكم، وما سبق يدل على أن العقوبة على الظلم لا تقتصر على الظالمين وحدهم بل تشمل أيضاً الراضين بظلمهم والمساعدين لهم بالأقوال والأفعال والساكتين عن ظلمهم، ولم يسعوا ليغيروا عليهم، وفي الحديث الشريف عن الإمام الصادق(ع): «العامل بالظلم والمعين عليه والراضي به شركاء ثلاثتهم»[4] وذلك لأن السكوت على ظلم الظالمين، وترك السعي في التغيير عليهم، يؤدي إلى اضمحلال مفهوم قبح الظلم ويظهر الرغبة فيه، والإقرار بظلم الظالمين وترسيخه وتقوية الظالمين وملكهم وسلطانهم، والمساهمة غير المباشرة في ظلمهم وتنفيذ مخططاتهم، وانتشار المنكر والفساد والعدوان والتفكك والتحلل والانحطاط الحضاري والتخلف والشلل في حركة التكامل الحضاري في المجتمع، لينتهي الأمر إلى شقاء الإنسان وهلاك المجتمع في عالم الدنيا، والعذاب الأليم في نار جهنم في الآخرة، وهذا مخالف لغاية خلق الإنسان ولوظائف الحياة الاجتماعية للبشرية. وعليه: تجب مقاومة الظلم، والتناصر من أجل منعه ورفعه والقضاء عليه واجتثاثه من جذوره؛ قال الله تعالى في وصف المؤمنين: <وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ>[5]؛ أي: الذين إذا أصابهم الظلم والعدوان من الأعداء والظلمة فإنهم لا يرضون به ولا يسكتون عليه بل يقاومونه بكل قوة وصلابة، ويستخدمون كل وسيلة مشروعة، ويطلب كل واحد منهم النصرة من الآخرين ويحثهم عليها، فيتناصرون بينهم وكأن الظلم أصابهم ووقع عليهم أجمعين، حتى يرفعوا الظلم عن أنفسهم، ويقضوا عليه، ويجتثوه من جذوره، وهذه فضيلة حميدة يتحلى بها الصالحون، وليس العجز والضعف من صفات المؤمنين، والمهانة والذلة ليست من خصالهم، وهم ليسوا طعمة لكل راغب، ولا مطية لكل راكب، بل يستميتون ويصبرون ويضحون من أجل إنسانيتهم وحريتهم وكرامتهم وحياضهم وديارهم وكافة حقوقهم المشروعة في الحياة، ولا يسمحون لأحد بأن ينتهكها ويسلبهم إياها، وهذا ما يدعوهم إليه العقل والمنطق والدين والإنسانية.

الحالات التي يصح فيها التسامح عن الظلم الاجتماعي

للمجتمع أن يتسامح مع الجناة الظالمين الذين مارسوا الظلم الاجتماعي العام على الناس، بعد القضاء على الظلم وليس قبله، لأن التسامح لا يكون إلا بعد التمكن والمقدرة، وقبل التمكن قد يُظن أن عجز وذلة، ويؤدي إلى رسوخ الظلم وتقوية الظالمين، وأن يكون العفو فيما يعرف اليوم بالعدالة الانتقالية بعد الثورات وحركات التغيير الشعبية، حين تقتضي المصلحة العامة ذلك؛ مثل: الحاجة إلى الاستقرار وإلى تجاوز الأزمة والقضاء على الفتنة ونحو ذلك. ولولي الأمر الشرعي (الحاكم الشرعي) أن يعفو كذلك حين يرى ويشخص أن المصلحة العامة في ذلك.

نتائج مهمة

ونتوصل مما سبق إلى النتائج المهمة التالية:

  • إن الدعوة إلى الصبر على الأذى والتسامح مع الجناة والمخطئين، ليس الهدف منهما الإبطال لحق الانتصار، فهو حق ثابت: عقلاً وشرعاً في جميع الأحوال، ولكن الهدف هو الإشارة إلى فضيلة روحية عظيمة تسهم في رقي الإنسان وسموه ووصوله إلى كماله الإنساني المقدر له واللائق به، وقول الله تعالى: <وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ 40 وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ 41 إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ 42 وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ>[6]؛ أي: أن كل فعل سيئ له جزاء سيئ يوافقه من غير ظلم أو تعد، وهذا هو العدل، وهو حق ثابت؛ عقلاً وشرعاً ولا سبيل إلى ذم من يمارس هذا الحق المشروع ولا معاتبته أو معاقبته، إنما الذم والعتاب والعقاب على الجائرين الذين يظلمون الناس، ويتعدون على النفوس والأموال، وينتهكون الحقوق والحرمات والمقدسات، ويفسدون في الأرض بطغيانهم وتجبرهم، فهؤلاء الجناة العصاة يستحقون العقاب الأليم الموجع للقلوب والأبدان بحسب ظلمهم وبغيهم في الدنيا والآخرة، وهو ينتظرهم بدون شك ولا ريب، ولا يملكون منه مهرباً ولا نجاة. إلا أن هذا الحق الثابت؛ عقلاً وشرعاً والموافق للفطرة والطبع السليم، ويقتضيه الأمن والاستقرار ومتطلبات الحياة في المجتمعات البشرية لا يلغي فضيلة العفو والتسامح، التي هي أقرب إلى حقيقة الإيمان وكماله وإلى حقيقة التقوى والمحبة لله ذي الجلال والإكرام، بشرط أن يصب في الإصلاح ولا يؤدي إلى مفسدة؛ مثل: تشجيع الجناة على الاستعلاء والاستمرار في جرائمهم، بدلاً من أن يحرك وجدانهم ويستثير مشاعرهم الخيرة ويحيي ضمائرهم ويردهم عن جرائمهم ويشجعهم على الندم والتوبة والكف عن الظلم والبغي والسير في طريق الخير والصلاح، ويعد ذلك العفو والتسامح أو تلك الفضيلة العظيمة خير للمتسامح في نفسه ودينه ودنياه وآخرته من الانتقام والانتصار؛ لأنه يسمو بنفسه ويزكيها ويطهرها من الأدناس التي تلوثها ويصفيها من الكدارة وينورها من الظلمة، ويوصله إلى كماله الإنساني المقدر له واللائق به، وفي الآخرة يفوز بالرضوان الإلهي والأجر العظيم والنعيم المقيم الذي لا زوال له ولا اضمحلال في الجنة. وفضيلة العفو والتسامح هي بحق وحقيقة من عزائم الأمور التي تحتاج إلى بصيرة ورؤية واضحة في الأمور والحياة وإلى قوة إرادة، وقد أمر الله تبارك وتعالى بها وحثنا عليها ورغبنا فيها، فيجدر بنا الصبر والثبات عليها، وقيل: إن جعل أجر العافي والمتسامح وثوابه على الله تبارك وتعالى، قوله تعالى: <فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ>[7] مما يهيج المشاعر على العفو ويدفع إليه بشوق وحرقة. فالتعبير يدل على عظيم الأجر والثواب، ويشير إلى موافقة الجزاء للعمل، ويحث العبد على أن يعامل الناس كما يحب أن يعامله الله تبارك وتعالى، فيعفو عنهم كما يحب أن يعفو الله تعالى عنه، ويسامحهم كما يحب أن يسامحه الله تعالى، ولن يكون أفضل ولا أكثر إحساناً من الله سبحانه وتعالى.
  • إن الغاية من الدعوة إلى الصبر على الأذى والعفو والتسامح هو الرقي والسمو بالنفس والمجتمع وصلاحهما، فلا يجوز جعلها وسيلة للإذلال والفساد والتخلف والتحلل والانحطاط ونحو ذلك. وعليه: تجب مقاومة الظلم الاجتماعي حتى يتم القضاء عليه واجتثاثه، ولا يكون العفو والتسامح إلا بعد التمكن والقدرة، ولو كان العفو عن الجاني يحمله على البغي والطغيان ويشجعه على الاستعلاء والتمرد والفساد ويبقى على الظلم ونحو ذلك، فلا يحسن العفو بل يحسن الرد ومعاقبته والانتصار منه وعدم السكوت عليه.

[1] الشورى: 43

[2] هود: 97

[3] هود: 113

[4] الكافي، جزء:2، صفحة: 333

[5] الشورى: 39

[6] الشورى: 40-43

[7] الشورى: 40

المصدر
كتاب إضاءات فكرية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟