مواضيع

بحث حول الروح

تعريف الروح

أولاً – الروح في اللغة

روح الشيء: نفسه وحقيقته وماهيته وجوهره، فيقال: روح القانون، وروح الفكرة، وروح الموقف، ونحو ذلك. والروح اسماً لما به تحصل الحياة (مبدأ الحياة) العضوية والانفعالية، وبه تحصل الحركة الإرادية والنمو والتكاثر، واستجلاب المنافع واستدفاع المضار لدى الكائنات الحية: النبات والحيوان والإنسان والجن.

وقد أضاف الله تبارك وتعالى روح الإنسان إلى نفسه، فقال: <فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ>[1]. أي: فإذا أتممت خلق آدم(ع)، وكملت أجزاؤه كلها، وسويت الطين الذي خلق منه على هيئة إنسان، ثم أدخلت فيه الروح الكريم الذي هو روحي لأني أملكه وحدي، ولا يملكه أحد غيري، وهو مبدأ الحياة والحركة الإرادية والنمو والتكاثر والشعور والعزم والإرادة والتصميم والتعقل والأخلاق، فقعوا على الأرض ساجدين له سجود خضوع واحترام وتكريم وتحية، وقيل: إن إضافة الله سبحانه وتعالى روح الإنسان إلى نفسه، هي إضافة ملك وتشريف وتعظيم واصطفاء لها على سائر الأرواح، وقيل: الروح والنفس بمعنى واحد. وتطلق الروح في اللغة أيضاً على الجزء الطيار للمادة بعد تقطيرها، فيقال: روح الخمر، وروح الورد، ونحو ذلك.

ثانياً – الروح في الفلسفة

جوهر قدسي بسيط مجرد، ينتمي إلى عالم الملكوت (الغيب) اللامحدود، الباقي الذي لا يفنى، ولا يزول. فليس للروح مساحة: طول وعرض وعمق، ولا شكل لها ولا صورة ولا كتابة ولا وزن ولا حيز ولا مكان، ولا تشيخ ولا تفنى بعد الموت، بل تبقى إما في نعيم مقيم وسعادة كاملة، أو في عذاب مقيم وشقاء كامل. وهي مبدأ الحياة: العضوية والانفعالية لدى الإنسان والحيوان، وبها تحصل الحركة الإرادية والنمو والتكاثر والشعور والإدراك والإرادة والتعقل والأخلاق واستجلاب المنافع واستدفاع المضار وسائر الأفعال الإنسانية والحيوانية بواسطة الجسد. وتمثل الروح نفس الإنسان وحقيقته التي تحقق له إنسانيته، والأساس الذي تقوم عليه وحدة شخصيته وكيانه، وإليها يشير بقوله (أنا) ورأسي وصدري وقلبي وعقلي وفكري وشعوري وإرادتي وقصدي ورجلي ويدي ونحو ذلك، وسمعت وقلت وفهمت وصنعت وخططت ودبرت وذهبت وأكلت وشربت وكتبت ونحو ذلك.

والأرواح تطهر وتتلوث وتتكامل وتنقص من خلال التفاعل مع الجسد: تؤثر فيه، وتتأثر به، وتوظفه للقيام بأعمالها المادية؛ مثل: الأكل والشراب والنكاح والحركة والاستماع والنطق والشم والقتال والتعليم ونحو ذلك، فترتقي حتى تصل إلى ذروة الكمال والسعادة المقدرة لها، وتسكن في ساحة القدس والطهارة والنور في عالم الملكوت الأعلى، وتفنى في الله ذي الجلال والإكرام، وتكسب صفات كماله – صفات الجمال والجلال – وتتخلق بأخلاقه سبحانه وتعالى. أو تهوى وتسقط إلى الدرك الأسفل للحيوانية والشيطنة ويستولي عليها الجهل والاستغراق في عالم الدنيا والمادة والاشتغال بالأهواء والشهوات والملذات الحسية والأغراض الباطلة والمقاصد الفاسدة ونحو ذلك.

وللروح صحة واستقامة ورغائب وأشواق؛ مثل: العلم والفهم واليقين والطمأنينة والحب والقدرة والأخلاق الفاضلة والاستقامة على الطريقة الوسطى والنهج القويم والأعمال الصالحة ونحو ذلك.

ولها أمراض وأدواء ومهلكات؛ مثل: الجهل والكفر والنفاق والشك والأوهام والرياء والسمعة والتكبر والحسد والأخلاق الذميمة والأعمال السيئة؛ مثل: الكذب والزنا وشرب الخمر والربا ونحو ذلك من العقائد الباطلة والأخلاق القبيحة والأعمال السيئة التي توجب اضطراب الباطن، وتكدير صفو السر والسريرة، وتحمل النفس على الميل إلى الباطل واتباع الأهواء والأغراض الباطلة والمقاصد الفاسدة والانحراف عن الدين الإلهي الحق (الإسلام الحنيف) والصراط المستقيم والنهج القويم والطريقة الوسطى ومخالفة أئمة الحق والهدى(ع)، فإذا تمتعت الروح بالصحة والاستقامة، واتصفت بالفضائل، واكتسبت الخصال الحسنة وأشرف الصفات، كانت البهجة والسعادة والسرور أبداً، وإذا أصبحت عليلة سقيمة منحرفة عن الصراط المستقيم والنهج القويم والطريقة الوسطى، واتصفت بالرذيلة، واكتسبت الخصال السيئة والصفات الذميمة، ومالت إلى الباطل والفجور واتباع الأهواء الشيطانية والشهوات الحيوانية، كانت في العذاب والشقاء والحزن الأبدي الكامل في نار جهنم في الآخرة، وقد تخلد في العذاب والشقاء والحزن الأبدي الكامل في نار جهنم في الآخرة، إذا استولى عليها الكفر والنفاق والأخلاق القبيحة المذمومة والأعمال السيئة، وعليه: فالروح هي التي تحمل أمانة التكليف الإلهي للإنسان؛ قال الله تعالى: <إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا>[2].

وعليها يقع العقاب بالمعصية والثواب بالطاعة، وعنها قال علماء اللاهوت: إنها صورة إلهية بها يشابه الإنسان الملائكة، ویتهیأ للاتصال بالله ذي الجلال والإكرام وملكوته الأعلى وحبه وعشقه والأنس به والتلقي منه والابتهاج بلطائف الحكمة وفيوضات النور الإلهي الأقدس، ومجاورة الله العلي الأعلى سبحانه وتعالى والزلفى لديه واكتساب صفات كماله – صفات الجمال وصفات الجلال – والتخلق بأخلاقه والفناء فيه والبقاء به.

والروح حقيقة واحدة؛ لكنها ذات مراتب ودرجات مختلفة تختلف باختلاف أثرها في الحياة، ولها مراتب ودرجات للتكامل والرقي، ينال منها الإنسان حظوظاً بحسب سعيه وجِدّه ومجاهدته، فمنها ما هو في النبات، ومنها ما هو في الحيوان، ومنها ما هو في عموم الناس؛ المؤمنين وغير المؤمنين، ومنها ما يؤيد الله تبارك وتعالى بها عباده المؤمنين خاصة دون غيرهم، قال الله تعالى: <أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ>[3]وهي روح أشرف وجوداً وأعلى مرتبة وأقوى أثراً من الروح الإنسانية العامة عند كل الناس؛ المؤمنين وغير المؤمنين، قال الله تعالى: <أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ>[4] إذ عدّ الكافر ميتاً، وعدّ المؤمن حياً له نور خاص يمشي به في الناس، ويميز به بين الحق والباطل، وبين الصواب والخطأ، وبين الخير والشر، وبين الفضيلة والرذيلة، ونحو ذلك، وهو أثر الروح الخاصة التي أيده الله تبارك وتعالى بها، وهو أثر في الحياة ليس موجوداً عند الكافر. ومن الأرواح ما يؤيد الله تبارك وتعالى بها الأنبياء والرسل الكرام والأوصياء المطهرين(عليهم السلام)، قال الله تعالى: <وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ>[5]وهذه الروح أشرف وأعلى مرتبة من غيرها مما في الإنسان من أرواح.

وللروح في الفلسفة تعريفات أخرى، منها:

  • الجوهر العاقل المدرك لذاته من حيث هي مبدأ التصورات، والمدرك للأشياء الخارجية من جهة ما هي مقابلة للذات. فلدينا تقابل في الإدراك بين الذات المدرِكة (الأنا) وبين الأشياء الخارجية المدرَكة (اللا أنا).
  • القوة العاقلة التي تقابل الغرائز والشهوات الحيوانية والأهواء الشيطانية، ويطلق اسم الأرواح الضعيفة على العقول العاجزة عن التفكير الموضوعي المنظم، وعلى العقول السريعة التأثر بالإيحاء وبالضغوط: الترهيب والترغيب ونحوها. ويطلق اسم الأرواح المتمردة على العقول الغريبة في التفكير، المعادية للعقائد الدينية والمعارف الحقة والأخلاق الفاضلة والتشريعات الإلهية السمحة والسلوك المستقيم ونحو ذلك، يقول الفيلسوف الفرنسي باسكال (1623م – 1666م): «الاتحاد علامة الأرواح المتمردة» وتسمى الأرواح المتمردة تهكماً بالأرواح القوية، وقلت تهكماً لأن الأرواح المتمردة في الحقيقة والواقع من الأرواح الضعيفة والخبيثة التي تخضع للأهواء الشيطانية، وتتبع الأغراض الباطلة والمقاصد الفاسدة، والروح القوية هي روح المؤمن التي تتحلى بالطمأنينة، وتبحث عن الحقيقة، وتتصف بالموضوعية والنزاهة، ولا تخضع للضغوط مهما عظمت؛ قال الله تعالى: <وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا>[6].
  • الجوهر العاقل المقابل للمادة.

وتمثل الروح الواجهة الخلفية لعالم الإنسان، وهي سر وحدة شخصيته وكيانه، وجوهر وحقيقة وجوده، ولها ثلاثة أسماء، يطلق كل اسم على حالة من حالاتها والأسماء هي:

  • الروح: ويطلق عليها بما هي جوهر بسيط مجرد ومبدأ للحياة.
  • النفس: ويطلق عليها بما هي متعلقة بالجسد تعلق تدبير وتصرف، تؤثر فيه، وتتأثر به، وتوظفه في القيام بأعمالها المادية؛ مثل: الحركة والشعور.
  • النفس الناطقة: ويطلق عليها بما هي مدركة لذاتها، ومدركة للأشياء الخارجية المحيطة بها، ولكونها مستعدة لبيان وفهم الخطاب.

ثالثاً – الروح في القرآن الكريم

للروح في القرآن الكريم معانٍ عديدة، منها:

  •  ما به الحياة، قول الله تعالى: <وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ (التي هي مبدأ الحياة) قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا>[7].
  • كلمة الإيجاد (كن) التي يوجِد الله (عز وجلّ) بها الأشياء من جهة انتسابها إلى الله سبحانه وتعالى بلا مادة ولا زمان ولا مكان؛ لا من جهة انتسابها إلى الأسباب والعلل الطبيعية الظاهرية؛ قال الله تعالى: <وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ>[8]، وقوله تعالى:<وقُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي>[9]إشارة إلى كلمة الإيجاد.
  • أشراف الملائكة المطهرين(عليهم السلام) قال الله تعالى: <تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ>[10]، وقال أيضا: <يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا ۖ لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا>[11]، وذلك لأن الملائكة المطهرين أرواح محصنة على اختلاف مراتبهم ودرجات قربهم وبعدهم من الله ذي الجلال والإكرام، ويعرفهم الفلاسفة بأنهم: «جواهر مجردة مخالفة للنفوس الناطقة من حيث الماهية، وأكمل منها قوة وأكثر علماً، وإنما النفوس البشرية جارية منها مجرى الأضواء من الشمس»[12].
  • جبرائيل(ع)؛ قال الله تعالى: <قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ>[13]، وقال أيضا: <وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ 192 نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ>[14] والمراد جبرائيل(ع) الذي نزل بالوحي على رسول الله (ص).
  • عيسى بن مريم(ع)؛ قال الله تعالى: <إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ>[15]، وقيل: سمي عيسى بن مريم روحاً لما كان منه من إحياء الأموات، وقيل: لأنه وُجد بكلمة الإيجاد (كن) التي هي الوجود من حيث انتسابه إلى الله سبحانه وتعالى وقيامه به؛ لا من حيث انتسابه إلى الأسباب والعلل الطبيعية الظاهرية.
  • الوحي والقرآن الكريم؛ قال الله تعالى: <يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ>[16] أي: ينزل الملائكة بالوحي، وقال الله تعالى: <وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الإيمان وَلَٰكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ>[17] أي: أوحينا إليك القرآن، وقيل: سمى الوحي والقرآن روحاً لأنهما سببان للإيمان والهدى والحياة الروحية (المعنوية) والحياة الأخروية.

الروحي والروحاني: يطلقان على المنسوب إلى الروح وإلى الأمور الدينية والصوفية، وهما مقابل المادي والجسمي والدنيوي (الزمني). وعليه: فالحياة الفكرية حياة روحية، ويقال: السلطة الروحية للدينية، والسلطة الزمنية للمدنية.

والمذهب الروحي: نقيض المذهب المادي، وهو المذهب القائل بروحانية النفس، وأنها جوهر بسيط مجرد مستقل عن الجسد (البدن)، ويطلق في علم الأخلاق على المذهب القائل بأن للفرد والمجتمع غايتين: غاية متعلقة بالحياة المادية والحيوانية، وغاية متعلقة بالحياة الروحية والفكرية المحضة.

ويطلق في علم الوجود العام (الأنطولوجيا) على المذهب القائل: إن في الوجود جوهرين:

  1. روحي من صفاته الذاتية الفكرُ والحرية.
  2. مادي من صفاته الذاتية الامتدادُ والحركةُ غير الإرادية.

وهو مذهبٌ يؤمن بوجود الله سبحانه وتعالى، وببقاء الروح (النفس) وخلودها بعد الموت، ويؤمن بتقديم القيم الروحية والفكرية والمعنوية واللذات الروحية على القيم المادية والغرائز والشهوات الحيوانية واللذات الحسية.

وعلم الروح: علم يبحث في شأن أرواح الأموات.

وعلم الكائنات الروحية: علم يبحث في طبيعة الكائنات الروحية؛ مثل: الأنفس والملائكة والجن، ويسمى: علم ما بعد الطبيعة الخاص، في مقابل الميتافيزيقا وهو علم ما بعد الطبيعة العام.

علاقة الروح بالجسد وآثارها

الإنسان عالَم واحد متجانس مؤلف من عالَمين: عالم الروح، وعالم المادة (الجسد/البدن)، وهما متلازمان ومتضايفان ما دامت الحياة الدنيوية قائمة، ثم يموت الجسد (البدن) بمفارقة الروح له، وتبقى الروح حية لا تموت إلى الأبد. ولكل من الروح والجسد رغائب وأشواق يتوق إليها، وله منفّرات يهرب منها. ولكل منهما صحة وسقم ومنجيات ومهالك. ويعتبر التركيب والمزج العجيب بين الروح وبين الجسد في عالم الإنسان وتكوينه، والتجاذب والتنافر بين رغائب وأشواق الروح والجسد، والسير في طريقي؛ الصعود إلى الملأ الأعلى (عالم الملكوت) عالم النور والطهارة، والهبوط إلى الدرك الأسفل عالم الظلام والرجس، عالم الأهواء الشيطانية والشهوات الحيوانية، والركون إلى عالم الدنيا والمادة واللذات الحسية، هو الأساس لحقيقة الإنسان وجوهر وجوده وسر تميزه ومكانته النوعية الوجودية بين جميع الكائنات في الكون بأسره، لما يتمتع به من العقل وحرية الإرادة والاختيار، وهو الأساس لحركته التكاملية: المعرفية والتربوية والحضارية على وجه الأرض، ولابتلاءاته واختلافاته ومنافساته وصراعاته وتضامناته وتعاوناته في الحياة. فذلك التركيب والمزج العجيب بين الروح وبين الجسد في عالم الإنسان وتكوينه هو السر وراء الهدى والضلال والاختلافات الفكرية والعقائدية والأخلاقية، وفي الخصال المكتسبة والأمزجة والتوجهات والسلوك والمواقف وبناء العلاقات، وما يحدث من صراعات وحروب وتنافس أو تضامن وتعاون بين الناس؛ الأفراد والجماعات والشعوب والأمم والدول والحضارات، ولولا ذلك التركيب والمزج العجيب لما كان لشيء من ذلك وجود ولا أثر.

فبفضل وتأثير ذلك التركيب والمزج العجيب، نجد بعض الناس ينجرون – بتفاوت في الدرجات – وراء رغائب وأشواق الجسد، ويصبحون سجناء في عالم الدنيا والمادة، وعبيداً وأسرى لأهوائهم الشيطانية وشهواتهم الحيوانية ولذاتهم الحسية وحاجاتهم المادية والدنيوية وأغراضهم الباطلة ومقاصدهم الفاسدة، فلا يكون لهم همّ إلا في الطعام والشراب والنكاح والمسكن والمركب والمال والجاه والنفوذ والسلطة، انطلاقاً من شهوات أنفسهم ورغباتهم وأهوائهم ونزواتهم، ويتصفون بأقبح الصفات وأرذل الخصال وأخسها؛ مثل: الكفر والنفاق والرياء والسمعة والأنانية والإثرة والانتهازية والاستئثار والاستعلاء والاستكبار والعناد والخداع والتضليل ونحو ذلك، ويفعلون المنكرات والأعمال السيئة والجرائم الشنيعة النكراء؛ مثل: القتل بغير حق، والبطش والظلم والاعتداء على حقوق الآخرين وانتهاك الحرمات والمقدسات، والسعي لفرض الذات والإرادة والأمر الواقع على الآخرين بغير حق ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، والتسلط على العباد بغير إرادتهم ورضاهم وعلى خلاف مصالحهم، وسلب حرياتهم، ونحو ذلك من الجرائم والجنايات والذنوب والمعاصي والآثام، من أجل إرضاء أهواء أنفسهم ونزواتها ورغباتها، إلى درجة الانسلاخ الكامل من ربقة الإنسانية والسقوط التام إلى الدرك الأسفل للشيطنة وحظيرة البهيمة.

وفي المقابل نجد أناساً صالحين تسمو نفوسهم فوق المادة والشهوات واللذات الحسية وعالم الدنيا والمصالح والأغراض الباطلة والمقاصد والنيات الفاسدة، ويتعلقون بالرغائب والأشواق الروحية؛ مثل: العلم والحكمة واليقين والإيمان والحب والإخلاص والصدق والوفاء والحلم والصبر والعفة والشجاعة والعدل والإنصاف والتضحية والإيثار والفداء ونحو ذلك، وينقون أنفسهم ويصفّونها من كدارة المادة والطبيعة والشهوات ورجس المعاصي والذنوب والآثام والجرائم والجنايات، ويفعلون الخيرات والأعمال الصالحة؛ مثل: العبادات والطاعات، والبذل والعطاء؛ المادي والعلمي والروحي، ويقدمون الدعم والمساندة والخدمات المتنوعة للآخرين، والتعاون والتضامن معهم على كل خير ومعروف وفضيلة وبر وعمل صالح وفعل جميل، ويقطعون مراحل السير والسفر في طريق التكامل؛ المعرفي والتربوي الحضاري، ويسمون بأنفسهم عن عالم المادة والطبيعة والغرائز والشهوات والأغراض الباطلة والمقاصد الفاسدة والأوهام والتخيلات الفارغة إلى عالم العقل والروح والحقائق والملكوت والنور والطهارة والبهجة الحقيقية والسرور حتى يصبحوا بحق وحقيقة أفضل من الملائكة المقربين المطهرين، ويصبحوا حجة لله سبحانه وتعالى على الناس أجمعين، وفوراً يهتدي به الناس في الظلمات المعنوية في الحياة، وقدوة حسنة لهم في الفكر والعقيدة، والأخلاق والسلوك والمواقف والعلاقات، قال الله تعالى: <قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ>[18] فلسيت القدوة الحسنة محصورة في الأنبياء والرسل الكرام والأوصياء المطهرين(عليهم السلام) بل تشمل جميع المؤمنين والعباد الصالحين الصادقين في إيمانهم وطاعتهم، الذين يعملون ويتصرفون بمقتضى علمهم وإيمانهم، وعليه: فالإنسان بسبب التركيب والمزج العجيب بين الروح وبين الجسد، يتميز بأنه المخلوق الوحيد بين جميع المخلوقات الذي يصنع ماهيته بنفسه، فهو ليس جامداً في كماله، وليس له ماهية أو حقيقة أو جوهرٌ واحدٌ لا يتغير، مع التنبيه إلى ضرورة التمييز في المراد بين ما ورد هنا بشأن الماهية وما ورد هناك بشأن الفطرة واللبيب يفهم، وليس له مسلكٌ واتجاهٌ واحدٌ في الحياة لا يتخطاه ولا يتعداه مثل سائر الكائنات إلى غيره، وإنما هو كان حي متغير يختار ماهيته، ويصفها لنفسه بما يكتسب من أفكار وخصال، وما يؤديه من أعمال، ويتخذه من مواقف في الحياة، فله في كدحه وسيره خطان:

  • خط الصعود: يسمو فيه ويرتقي ويتكامل بالعلم والمعرفة الحقة والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة حتى يصبح أفضل من الملائكة المقربين، ويسكن ساحة القدس والفردوس في عالم الملكوت عالم النور والقدس والطهارة والبهجة والنعم والسرور.
  • خط الهبوط: يهوي فيه ويسقط بالوهم والشكوك والوساوس والعقائد الباطلة والأفكار المنحرفة الضالة والأخلاق القبيحة والخصال الذميمة والأعمال السيئة حتى ينسلخ تماماً من إنسانيته، ويصبح أضل من البهائم وأسوأ من الشياطين وأكثر منهم شراً، ويسكن في ساحة الرجس والعذاب في الملكوت الأسفل، عالم الشياطين والظلام والقذارة والحزن والهلاك والشقاء.

فالإنسان بوسعه أن يكون ملكاً مقدساً، وشيطاناً رجيماً، وسبعاً ضارياً، وبهيمة جهلاء، ونحو ذلك، وليس بوسع غيره أن يكون كذلك. ويدل على خطى الصعود والهبوط قول الله تعالى: <وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا 7 فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا 8 قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا 9 وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا 10>[19]، وقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع): «إن الله (عز وجل) ركّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركّب في البهائم شهوة بلا عقل، وركّب في بني آدم كليهما (العقل والشهوة) فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شر من البهائم»[20] وهذا ما تسميه الفلسفة الوجودية بأصالة الوجود، يقول أتباعها: إن الإنسان وجود بلا ماهية، وهو الذي يهب لنفسه الماهية باختيار طريقة وأعماله في الحياة.


[1] ص:72

[2] الأحزاب: 72

[3] المجادلة: 22

[4] الأنعام: 122

[5] البقرة: 87

[6] الإسراء: 74

[7] الإسراء: 85

[8] البقرة: 117

[9] الإسراء: 85

[10] المعارج: 4

[11] النبأ: 38

[12] الإنسان، عبدالوهاب حسين، جزء:1، صفحة: 27

[13] النحل: 102

[14] الشعراء: 192-193

[15] النساء: 171

[16] النحل: 2

[17] الشورى: 52

[18] الممتحنة: 4

[19] الشمس: 7-10

[20] بحار الأنوار، ج:60، ص:299

المصدر
كتاب إضاءات فكرية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟