مواضيع

مستشارو حقوق الإنسان ذوي الرواتب

أدّت الجهود التي بذلها الأمريكيّون في تطبيق البند الرابع إلى أن يتعرّف الإيرانيّون رويداً رويداً على النوايا الخيّرة والأهداف الإنسانيّة للأمريكيّين، ويرحّبوا بالتالي بالخدمات الأمريكيّة في إيران. طبعاً، كان التعايش مع الأمريكيّين قد رفع من مستوى ثقافة الشعب الإيراني أيضاً، وكان هذا السبب الذي جعل الناس يدركون بشكل تدريجي فلسفة الممارسات الأمريكيّة في إيران ويعربون عن رغبة أكبر في هذه الخدمات. ازداد تواجد العناصر الأمريكيّين ذوي النوايا الإنسانيّة والخيرة (والذين كانوا يُسمّون رسميّاً بالمستشارين) في إيران لدرجة أنّ عددهم بلغ في الأعوام التي تلت العام 1971 أكثر من 40 ألف شخص، وكان غالبيّتهم منشغلين في الجيش والقوات الجويّة الإيرانيّة بشكل خاص، في نشر الحضارة والديمقراطيّة والقيام بالخطوات الإنسانيّة[1] ومن البديهي أنّهم لم يكونوا ليطمعوا أبداً بأيّ مقابل وبدل ماديّ أو مالي، وكانوا يعملون في خدمة الشعب الإيراني على مدار الساعة من أجل ترويج الحضارة الأمريكيّة وتعريف الشعب الإيراني على قيم هذه الحضارة اللامعة. لكنّ الآداب والأعراف كانت تستدعي أن يعرب الشعب والحكومة الإيرانيّة المضيافين عن تقديرهم وإجلالهم وشكرهم لخدّام الديمقراطية وحقوق الإنسان المخلصين، ولهذا السبب سألوا الأمريكيّين أن كيف نستطيع تعويض جزء صغير من جهودكم الجبارة بحيث لا نخلّ بدوافعكم الحضاريّة ولا نزعجكم وننقض الآداب؟

في المقابل، اقترح الأمريكيّون أسلوباً ورد في الفقرة «ج» من قانون إذن توظيف المستشارين الأمريكيّين، وعليه، فإنّ رؤساء الهيئات الاستشاريّة الأمريكيّة كانوا يتقاضون 4200 دولار شهريّاً، وكان المعاونون في الهيئات الاستشارية يتقاضون 3900 دولار، وكان الضباط الأعضاء في الهيئات الاستشارية يتقاضون 3750 دولار وكان أصحاب الدرجات الأدنى في الهيئات الاستشارية يتقاضون 2700 دولار.

كان هذا في الوقت الذي كان الضابط الإيراني يتقاضى فيه أقلّ من 50 دولار، وبالطبع، كانت تُضاف إلى الهدايا التي قدّمها الشعب الإيرانيّ للمستشارين الأمريكيّين هديّة صغيرة تتمثّل في إعفائهم من أيّ نوع من أنواع الضرائب. بالفعل، أليست قلّة أدب أن يقدّم شعبٌ ما هديّة لمروّجي الحضارة ثمّ يتقاضى مقابلها الضرائب منهم؟[2]

كلّما كان أعضاء عائلات المستشارين يسافرون إلى إيران، كانت تكاليف هذه الرحلات تُدفع من أموال الشعب الإيراني. لأنّ المستشارين كانوا قد بقوا بعيدين عن عائلاتهم من أجل خدمة الشعب الإيرانيّ، ولم يكن من الإنصاف أن تتحمّل العائلات الأمريكيّة القادمة إلى إيران من أجل الالتقاء بأعزّائها، إضافة إلى ألم الفراق، أثمان الرحلة أيضاً. يقول الفريق خليل بخشي آذر، رئيس الفرع الخامس في الهيئة العامّة للجيش الملكي حول مقدار الهدايا الشهريّة التي كان يتمّ تقديمها تقديراً للخدمات المخلصة والخالصة التي كان يقدّمها المستشارون الأمريكيّون العاملون في الجيش الإيراني: «في العام 1978، كان مجموع أجور عناصر الجيش الإيراني يبلغ 14 مليار تومان شهريّاً، بينما كان المستشارون الأمريكيّون يتقاضون شهريّاً مبلغاً مقداره 17 مليار تومان.»[3]

كان متوسّط الأجور السنويّة للمستشارين الأمريكيّين المتواجدين في إيران يبلغ مبلغاً يفوق ال، 3.25 مليار دولار، بينما كانت ميزانيّة وزارة التربية والتعليم السنويّة في إيران تبلغ 1.8 مليار دولار، وكانت ميزانيّة وزارة الصحّة تبلغ مبلغاً أقل من نصف مليار دولار. رغم ذلك، لم تكن هذه الهدايا تليق بحجم الجهود والتضحيات التي كان المستشارون الأمريكيّون يبذلونها من أجل نقل الحضارة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان إلى إيران، وكانت مجرّد عربون وفاء صغير.[4]

التمييز الحضاري

لم تطالب الحكومة الأمريكيّة من أجل دخول المروّجين للديمقراطيّة وحماة حقوق الإنسان (أو المستشارين) بأيّ شرط وأجر ومقابل وجائزة، واكتفت فقط بطلب صون حياة هؤلاء الأعزّاء! على أيّ حال، لم يكن الشعب الإيرانيّ حينها قد تعرّف على الحضارة الأمريكيّة وقيمها، ولهذا السبب، كان من الممكن أن يواجه المستشارون بعض الأخطار والتهديدات من قبل الإيرانيّين. كان اسم المشروع الذي عرضته الحكومة الأمريكيّة من أجل صون أمن المستشارين والمواطنين الأمريكيّين «الكابيتولاسيون» أو «حقّ المقاضاة القنصليّة». وفق هذا المشروع، في حال ارتكب أشخاصٌ متحضّرون مثل الأمريكيّين خطأ معيّناً في إيران، كان لا بدّ أن تتمّ محاكمتهم على يد أشخاص متحضّرين مثلهم في السفارة الأمريكيّة داخل طهران أو في أمريكا، ولم يكن يحقّ لأيّ أناس جاهلين بالحضارة مثل الشرطة والمحاكم في إيران، إلقاء القبض عليهم ومحاكمتهم.[5]

على سبيل المثال، كان يحدث مراراً أن يقرّر المستشارون الأمريكيّون تعريف سيّدة أو فتاة إيرانيّة بشكل خاصّ على حقوق الإنسان، وأخذها مع قليل من العنف إلى مكان إقامتهم من أجل القيام بهذه المهمّة. كان الإيرانيّون الذين لم تلفحهم رياح حقوق الإنسان سيغضبون من هذه الخطوة، وسيتوقّعون من الحكومة والشرطة الإيرانيّة إعدام ذلك الرّجل جزاء على فعلته! بينما تنظر المحكمة والشرطة الأمريكيّة بعد تفهّمها لأهميّة نقل حقوق الإنسان بواسطة الأساليب الديمقراطيّة بشكل خصوصي ومستعجل إلى النساء والفتيات الإيرانيّات، إلى مثل هذه الخطوة على أنّها مبادرة حضاريّة، وتعظّم وتكرّم فاعلها. لهذا السبب، كان إعطاء حقّ المقاضاة القنصليّة أو الكابيتولاسيون للمستشارين الأمريكيّين المقيمين في إيران، حافزاً لهم على مواصلة نشاطاتهم الإنسانيّة العظيمة.

بيع الأسلحة الأمريكيّة الديمقراطيّ

من الخطوات الديمقراطيّة والإنسانية التي أقدمت عليها أمريكا في إيران، العمل على الحدّ من التسليح في إيران.

الأمريكيّون الذين كانوا يرغبون بانتشار السلام في كلّ أنحاء العالم وتوقّف الحروب، حاولوا من خلال رفع أثمان الأسلحة التي كانوا يبيعونها ثني مختلف الدول ومن بينها إيران عن شراء الأسلحة. على سبيل المثال، قرّر شاه إيران في العام 1976 شراء 160 مقاتلة «اف 16». كان السعر الرسمي لهذه الطائرة 6.5 مليون دولار، لكنّ وزارة الدفاع الأمريكيّة مارست الضغوط على شركة جنرال ديناميك (المصنّعة لمقاتلة اف 16) وحثّتها على بيع هذه المقاتلة للجيش الإيراني بقيمة 18 مليون دولار![6]

كما أنّ سعر المدمرات الستّ التي اشتراها الشاه عام 1975 من الأمريكيّين تضاعف سعر كلّ واحدة منها من 120 مليون دولار إلى 338 مليون دولار![7]

من الواضح أنّ أمريكا بذلت كلّ ما بوسعها لكي تثني الشاه عن شراء الأسلحة. لكنّ إصرار وعناد شاه إيران كان يؤدّي للأسف إلى عدم تحقّق هدف أمريكا الذي يقضي بإيقاف عمليّة التسلّح حول العالم. كانت شدّة معارضة المسؤولين الأمريكيّين لبيع الأسلحة إلى إيران لدرجة أنّ أسد الله علم، وزير البلاط الملكي في حكومة محمد رضا بهلوي، كتب حول هذا الأمر في مذكّراته ما يلي: «أمريكا اللعينة تتقاضى ثمن الأسلحة، ويتمّ الدفاع بواسطة هذه الأسلحة عن مصالحها، وتجعلنا تابعين لها أيضاً ثمّ تعارض بيعنا الأسلحة!»[8]

تنصيبات أمريكا الديمقراطيّة

كانت خدمات المستشارين الأمريكيّين والخطوات التي يقومون بها في إيران ذات أبعاد متعددة كما هو حال حضارتهم، وشملت تصنيع المراحيض العامّة واستصلاح أعراق الحمير في إيران وأيضاً تقديم المساعدة للهيكليّة الإداريّة في إيران.

فالأمريكيّون الذين كانوا بارعين جدّاً في الإدارة، أولوا اهتماماً خاصّاً بالإدارة وإصلاحها في إيران، ولهذا السبب كانوا ينشطون خلال الفترة البهلويّة في عزل وتنصيب المسؤولين بشكل تلقائي ودون أن يطلب ذلك منهم أيّ أحد، لأنّ الطرف الإيراني لم يكن على دراية كافية بقضيّة الإدارة، وهذا كان يجعل الأمريكيّين مجبرين على تطوير وتحديث قضيّة الإدارة في إيران بلسان العنف والإجبار.

على سبيل المثال، كانوا يوافقون على شراء إيران للأسلحة بشرط أن يتمّ تعيين الشخص الذي يرومونه في منصب رئاسة هيئة الأركان في الجيش، أو أنّهم كانوا يشرطون القيام بالأمور التي يرغب بها الشاه بتعيين الشخص الفلاني في رئاسة الوزراء أو الشخص الفلاني في الوزارة المعيّنة، وللصدفة، كان هؤلاء الأشخاص من المتحضّرين! على سبيل المثال، تمّ تعيين جمشيد آموزكار وزيراً ورئيساً للوزراء بطلب من الأمريكيّين، وكان إيرانيّاً يملك الجنسيّة الأمريكيّة أيضاً[9] ولأنّه كان يعرف أمريكا والحضارة الأمريكية، كان يقدّم بشكل مستمرّ التوصيات للشاه وينصحه بالتنسيق مع أمريكا في الأمور كافّة والاستفادة من إرشاداتهم وتوجيهاتهم لكي يرتقي بإيران نحو الحضارة العظمى.

طبعاً، كان محمد رضا بهلوي أيضاً رجلاً ذا تجربة، لذلك كان يستشير الأمريكيّين في أيّ أمر يفكّر بالإقدام عليه. على سبيل المثال، تذكر فرح بهلوي في مذكراتها أنّ الشاه استوضح قبل تنصيب منوتشهر اقبال[10] رئيساً للوزراء رأي السفير الأمريكيّ في طهران، ثمّ أخبرني والفرحة تغمره بأنّ أمريكا موافقة على تعيين اقبال رئيساً للوزراء![11] من أسباب النجاح المبهر للإدارة في إيران في العهد البهلوي، كان أنّ أحداً لم يكن قادراً على الوصول إلى منصب ومرتبة مهمّة دون موافقة الأمريكيّين[12] وهذا كان السبب الذي دفع وفق ما قالته أشرف بهلوي (شقيقة الشاه وتوأمه) ثمان رؤساء أمريكيّين لأن يدعموا طوال 37 عاماً مُلك محمّد رضا بهلوي وحكومته بشكل رسميّ.[13]


  • [1] سياسة إيران الخارجيّة في العهد البهلوي 1921 – 1979، عبد الرضا هوشنك مهدوي، طهران، دار نشر البرز، الطبعة الأولى، 1994، ص 406.
  • [2] قانون إذن استخدام هيئة من ضباط الجيش الأمريكي في وزارة الحرب، وكالة أنباء قوانين ومقررات الدولة (صحيفة رسمية) 24-10-1943م
  • [3] دراسة للعلاقات الاقتصاديّة – العسكريّة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكيّة، يوسف ترابي، طهران، مؤسسة عروج للطباعة والنشر، الطبعة الأولى: 2000، ص 78.
  • [4] العلاقات الخارجيّة لإيران (الدولة المخلوعة) 1941 – 1979، علي رضا ازغندي، طهران، دار نشر قومس، الطبعة الأولى/ 1997، ص 346.
  • [5] التاريخ السياسي المعاصر في إيران، السيد جلال الدين المدني، طهران، مكتب دار النشر الإسلاميّة، 1982، ج 2، ص 75 و2 79 (نصّ قرار مجلس الشيوخ الأمريكي).
  • [6] مذكّرات أمير أسد الله علم، أسد الله علم، ج6، ص 236 و ص 237.
  • [7] مذكّرات أمير أسد الله علم، أسد الله علم، ج 5، ص 339.
  • [8] مذكّرات أمير أسد الله علم، أسد الله علم، ج 6، ص 260.
  • [9] مذكّرات الملكة البهلويّة (زوجة رضا شاه الأولى ووالدة محمد رضا شاه البهلوي)، تاج الملوك آيرملو، ص 383 و ص 386.
  • [10] منوتشهر اقبال (14/10/1909، كاشمر 25/11/1977 طهران)؛ رئيس وزراء إيران منذ العام 1957 حتى العام 1960.
  • [11] الابنة اليتيمة، فرح بهلوي، أحمد بيراني، طهران، دار نشر به آفرين، الطبعة الأولى: 2003، ص 366.
  • [12] بروز وسقوط الملكيّة البهلويّة (مذكّرات العميد السابق حسين فردوست)، حسين فردوست، ج 1، ص 344.
  • [13] وجوه في المرآة، مذكّرات أشرف بهلوي (بقلمها)، طهران، دار نشر أمير مستعان، الطبعة الأولى: 2002، ص 266.
المصدر
كتاب تاريخ أمريكا المستطاب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟