مواضيع

أمريكا والإيرانيون

شئنا أم أبينا، فإنّ ليفة الولايات المتحدة لامست جسد الإيرانيين أيضاً. هل يمكن برأيكم أن يجتاح إعصار الحضارة الأمريكيّة كلّ العالم دون أن يأتي إلى إيران؟ الإيرانيين نعيش في واحدة من أهمّ وأكثر مناطق العالم محبوبيّة، وخلال الأعوام المئتين الأخيرة، حدّق بنا كثيرون منذ الصباح حتى المساء ونسجوا في أذهانهم الأحلام! من جهة أخرى، كان الأمريكيّون قد قلبوا العالم رأساً على عقب، وكانت خسارة بالنسبة إليهم أن نبقى نحن الإيرانيّين محرومين من كلّ تلك الحضارة المتكدّسة في أمريكا، ونرحل عن هذا العالم وحسرة الحصول على تلك الحضارة قابعة في قلوبنا! في نهاية المطاف، شحذوا الهمم وانطلقوا وضخّوا الحضارة، الديمقراطيّة، حقوق الإنسان والحريّة بسرعة ودفعة واحدة في أفواه الشعب الإيرانيّ، بحيث أنّ الشعب الإيراني ما زال بعد 70 عام غير قادر على هضمها! وفيما يتّصل بالسبب الذي دفع الأمريكيّين إلى عرض أكثر إنجازاتهم قيمة علينا بهذا الأسلوب، فإنّ ذلك يرتبط بماهيّة هذه الإنجازات، وإن أردتم الصّراحة، لم يكن متاحاً للأمريكيّين نقل هذه الإنجازات بواسطة الأساليب والطرق العاديّة والطبيعيّة، وكان لا بدّ لهم أن ينقلوها إلينا عبر أساليب مثل الضخّ بالقوّة والحشر داخل الفم.

الحضارة من أمريكا، والنفط من إيران

كما جرت العادة، كانت هناك حكمة من الخطوات الخيّرة التي كان يبادر الأمريكيّون إليها في إيران: أن يفوز العالم الصناعي بكنزٍ لفترة 25 سنة. يكتب الباحث الأمريكيّ جيمز بيل[1] حول هذا الشأن ما يلي: «تدخّل أمريكا في قضيّة 28 مرداد، أهدى الملك والتاج للعائلة البهلويّة 25 سنة أخرى، ومكّن أصحاب الصناعات النفطيّة الدوليّين من استخراج 24 مليار برميل نفط بسعر منخفض من المخازن الإيرانيّة. كان هذا المقدار من النفط يُباع طوال عشرين سنة بسعر دولار واحد وسبعين سنت كحدّ أقصى، وكانت الحكومة الإيرانيّة تحظى بما نسبته 50 بالمئة من سعر البرميل الواحد.»[2]

كانت الحكمة من مبادرة أمريكا لعمل الخير هذا أنّها أصابت بطلقة واحدة ثلاثة أهداف: فهي كسبت مودّة العائلة البهلويّة، أمّنت النفط الصناعي بسعر زهيد للدول الصناعيّة وجعلت الشركات النفطيّة متعدّدة الجنسيات تجني أرباحاً طائلة؛ ومن أجل جعل إيران تصل إلى مرتبة الحضارة العظيمة، سلّمت شاه إيران كلّ أموال النّفط! في واقع الأمر، سُرّ الجميع (من المحتاجين في إيران وصولاً إلى الشركات النفطيّة متعدّدة الجنسيّات) بهذه الخطوة الخيّرة التي أقدمت عليها أمريكا، ودعوا لها من أعماق القلب! ولو أنّكم كنتم تمتلكون القدرة على قراءة ما يجول في أفكار المسؤولين الأمريكيّين، لكنتم اكتشفتم أنّهم لم يكونوا يسعون سوى للحصول على الدعاء بالخير هذا، ولم يكن هدفهم أبداً حصول الشركات النفطيّة والتسليحيّة على المليارات من الدولارات التي كانت نتيجة للخطوة الإنسانيّة الأمريكيّة (أي تقديم مساعدة بقيمة 60 ألف دولار إلى الفقراء الإيرانيّين).

الأمر المهمّ في النوايا الخيّرة للأمريكيّين تجاه إيران كان يكمن في أنّ المسؤولين الأمريكيّين لم يكونوا يسعون لتحقيق مصلحة الأناس العاديّين فقط، بل كانوا يتعاطون مع الشاه والبلاط الملكي أيضاً كما يتعاطى الأب المشفق مع ابنه. على سبيل المثال، عندما قرّر محمّد رضا بهلوي في يناير من العام 1973 الانسحاب من اتفاق إيران مع عدد من الشركات النفطيّة الأمريكيّة، بعث الرّئيس الأمريكي حينها نيكسون[3] برسالة إلى الشاه طالباً منه التراجع عن قراره واعتبر أن هذه الخطوة لا تصبّ في مصلحته. والشاه الذي كان رحب الصدر، غضب في بداية الأمر ووجّه خطابه لوزير بلاطه (أسد الله علم) قائلاً: «التافه يكتب لي طالباً مني التريّث في الحفاظ على مصالح بلدي وانتظار ما سيطلبه مني، وإن لم أفعل، يهددني بأنّ العلاقات ستسوء فيما بيننا. أرغب في أن أخرّب هذه العلاقات كلّها.» لكنّه بالطبع عاد إلى رشده بعد فترة قصيرة ونفّذ الأوامر.[4]

تأسيس السافاك[5] وتوفير حقوق الإنسان

من أهمّ الخطوات التي بادر إليها الأمريكيّون في إيران وعادت بالنّفع على عامّة الناس، كانت تأسيس منظّمة تعمل على نشر حقوق الإنسان والديمقراطيّة في إيران وتستفيد في ذلك من أساليب وتجارب منظّمة السي. آي. أي. كان رئيس المنظّمة الأمريكيّة لنشر وتطوير الديمقراطيّة وحقوق الإنسان (أو منظّمة السي. آي. أي) في حينها قلقاً إزاء الأوضاع المضطربة لحقوق الإنسان والحريّات السياسيّة في إيران، وللدفاع عن هذه القيم الأمريكيّة، قرّر تأسيس منظّمة إيرانيّة تُعنى بترويج الحريّة وحقوق الإنسان في إيران.

بعد أن حصل المسؤولون في منظّمة السي. آي. أي على موافقة الشاه، بادروا في العام 1957 لتأسيس جهاز «السافاك». هذا الاسم الذي كان اختصاراً لعبارة «المنظّمة الإيرانيّة للدفاع عن حقوق الإنسان والترويج للحريات السياسيّة في البلد» كانت تمثّل لجميع الإيرانيين ذكرى لكلّ الجهود التي بذلها المستشارون والخبراء في منظمة السي. آي. أي من أجل تدريب العناصر في السافاك وتصميم إطار تنظيمي في الليل والنهار والتي لا تشوبها أيّ شائبة. [6]

من هنا سيكون بمقدوركم معرفة السبب الذي يجعلنا نقول بأنّ أمريكا ومنظّمة السي. آي. أي بشكل خاصّ لديها حقّ عظيم برقبة الشعب الإيراني. ففي تلك الحقبة التي كانت فيها إيران من بين أكثر بلدان العالم تخلّفاً، حصل الأمريكيّون على أكثر التقنيّات العلميّة حداثة من ألمانيا النازيّة كغنائم، وسلّموها بكلّ سخاء لعناصر السافاك لكي يدعّموا أسس وركائز الديمقراطيّة وحقوق الإنسان في إيران. فلو لم يتمّ تأسيس السافاك ولم تُسلّم لهم هذه التجهيزات ولم يتلقّوا هذه التدريبات، لما كان من الواضح أيّ كارثة كان سيلحقها أعداء الديمقراطية وحقوق الإنسان في إيران بقيم الحضارة الأمريكيّة السامية.

فإلى ما قبل تأسيس السافاك، كان المتهمون يلقون حتفهم في بدايات التحقيق، ولم يكونوا ليقدروا فعليّاً على الاعتراف بأيّ شيء. بينما بعد أن تمّ تأسيس السافاك، وتلقّى العناصر التدريبات اللازمة، وتعرّفوا على الأساليب والطرق الأمريكيّة، كان يتمّ اعتقال المتّهم بحرفيّة ويتمّ إجراء عشرات جلسات التحقيق معه بنجاح، ولم يكن المعتقل لا يموت فقط، بل يبقى حيّاً ويستذكر الكثير من الحقائق وتترسّخ في داخله صفة قول الصدق، ثمّ كان يشعر في نهاية المطاف بالراحة بعد الاعتراف بكلّ ذنوبه والتخلّص منها.

كان هذا الشعور بالارتياح يرتفع لدى المتهمين في بعض الأحيان لدرجة أنّه كان يجعلهم يحلّقون نحو السماوات! فكما أنّ المسيحي المذنب يتطهّر بعد الاعتراف عند القسيس، ويبدأ حياة جديدة، فإنّ المتّهمين كانوا يتطهّرون بعد الدخول إلى السافاك وإجراء الاستجوابات ويبدأون حياة جديدة، وهذا كان السبب في أنّ عامّة المتهمين كانوا يصرخون فرحاً أثناء استجواب عناصر السافاك لهم!

دقّة الوسائل التي منحتها منظّمة السي. آي. أي للسافاك من أجل تشجيع المتهمين كانت كبيرة لدرجة أنّه كانت قدم المتهم على سبيل المثال تحمرّ في الزيت المغلي، لكنّ فمه كان يبقى سليماً من أجل الاعتراف وقول الصدق، أو كانت هناك آلة أخرى تُدعى الأبولو؛ وقد كانت توضع فوق رأس المتّهم مع إبقاء يده سليمة وخالية من أيّ عيب ونقص حتّى يتمكّن من كتابة الحقيقة! كان الأمريكيّون قد اكتشفوا بعد إجراء البحوث والقراءات العلميّة بشأن الشعب الإيرانيّ أنّ أحد الأمور الرئيسيّة التي كانت تعيق حصول الإيرانيّين على حقوق الإنسان والديمقراطيّة، كان الخجل والاستحياء، وهذا ما دفعهم خلال تدريبهم لعناصر السافاك لاستخدام تكتيكات مؤثّرة تساعد على التغلّب على الخجل والحياء. من أبرز هذه التكتيكات وأهمّها كانت تعرية المتّهم. كان العناصر يقومون فوراً بعد نقل المتّهم إلى مقرّ السافاك بتعريته، وفي العديد من الأحيان كان عدد من الأشخاص يجلسون أمام المتّهم ويراقبونه حتّى يتخلّص من خجله وحيائه. كان هذا الأسلوب ينفع بشكل خاصّ النساء الإيرانيّات، وكانت هؤلاء السيّدات يدركن في تلك اللحظة وبسرعة كلّ حقوقهنّ المشروعة. وبهذا النّحو، نهض الأمريكيّون بواجبهم بأكمل وجه فيما يخصّ تعليم حقوق الإنسان للرجال والنساء الإيرانيّين.


  • [1] James A. Bill
  • [2] الأسد والصّقر (علاقات إيران وأمريكا ذات العاقبة السيئة)، جيمز أ. بيل، ترجمة فروزنده برليان (جهانشاهي)، طهران، دار نشر فاخته، الطبعة الأولى: 1993، ص 132.
  • [3] Richard Milhous Nixon (1913 – 1994)؛ رئيس الولايات المتحدة الأمريكيّة السابع والثلاثين والذي حكم أمريكا منذ العام 1969 حتى العام 1974.
  • [4] مذكّرات أمير أسد الله علم، أسد الله علم، طهران، دار نشر مازيار ومعين، الطبعة الحادية عشرة: 2014، ص 430.
  • [5] منظمة المخابرات والأمن القومي
  • [6] مذكرات السفيرين، ويليام سوليوان – سر آنتوني بارسونز، ترجمة محمود طلوعي، طهران، دار نشر العلم، الطبعة الثانية: 1993، ص 95.
المصدر
كتاب تاريخ أمريكا المستطاب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟