مواضيع

أمريكا وعصرنا الراهن

جدول المحتويات

عصرنا الحاليّ هو عصر نضوج أمريكا. أي أنّ أمريكا نضجت في عصرنا وشعرت بأنّها أصبحت رجلاً بالغاً بإمكانه القيام بما يحلو له. عندما كانت أمريكا منهمكة بخدمة الهنود الحمر وذوي البشرات السمراء والفيليبينيّين والكمبوديّين والشعب الفيتنامي و…، كانت أشبه بالطفل البريء، ولم تستطع القيام بكلّ ما يحلو لها. طبعاً، الأمريكيّون كانوا بطبيعتهم وما زالوا، وخاصّة بعد نضوجهم، مغرمين بالعلم والحضارة والديمقراطية وحقوق الإنسان، ومن الطبيعي أن يكون حبّ هذه الأمور متغلغلاً في ذواتهم.

على سبيل المثال، كانت أمريكا تجري اختبارات منذ العام 1940 على مرض الزهري، واستعانت من أجل إنجاز هذه الاختبارات بمئة وعشرين من الرجال ذوي البشرات السمراء في منطقة تاسكيغي[1] واستفادت منهم كفئران تجارب، فنقلت بكتيريا الزهري إلى دمائهم ومن حيث إنّه كان من المقرّر أن تتمّ دراسة آثار مرض الزهري على جسد الإنسان طوال 30 عاماً، كان لا بدّ لهؤلاء السود أن يبقوا مصابين بهذا المرض 30 عاماً. طوال الفترة الممتدة بين العامين 1942 و1972، كان أصحاب البشرات السمراء هؤلاء يشكون من الآلام وعوارض ذاك المرض، وكان الأطبّاء يقولون لهم بأنّهم أصيبوا بمرضٍ غير معروف، ولا بدّ أن يتحمّلوا حتى يتم العثور على علاج له.

على أيّ حال، انتهى هذا البحث وأثبتت نتائجه للمرة الألف كم أنّ أمريكا ساهمت في تطوّر وتقدّم العلوم الطبيّة، وبالطبع، اعتذر بيل كلينتون[2] -التي انكشفت قضيّة هذه الأبحاث في فترة رئاسته- وأعرب عن أسفه لكون هذه الأبحاث عنصريّة وإجرائها بواسطة الحكومة الأمريكيّة.[3] لكنّ حقيقة الأمر كانت أنّ إحدى فوائد ذوي البشرات السمراء كانت الاستفادة منهم من أجل إجراء الأبحاث الطبية وغيرها، وإشراكهم بهذا النحو بشكل غير مباشر في تطوير العلوم، حيث أنّ عناء إجراء هذه الأبحاث كان يقع على عاتق ذوي البشرات البيضاء، وكان لا بدّ لذوي البشرات السمراء أن يلعبوا دور فئران التجارب في المختبرات.

طبعاً، فإنّ الحكومة الأمريكيّة ولاحترامها المساواة بين الأعراق، لا ترغب فقط في إشراك ذوي البشرات السمراء في إجراء الأبحاث العلميّة، بل إنّها منحت شرف هذا الأمر أيضاً لسائر الشعوب والأعراق، وسمحت لهم في أن يشاركوا – ولو بنسبة ضئيلة – في تطوير العلم. خلال الفترة الفاصلة بين عامي 2009 و2010، نشرت عدّة مراكز حكوميّة مشاركة في الأبحاث الجينيّة، فيروس مرض «دنغو» في باكستان. كان لهذا المرض أعراض شبيهة بالأنفلونزا، لكنّه كان خطراً للغاية على الأطفال والكهول. حصدت هذه الأبحاث أرواح الآلاف من الباكستانيّين الذين أصيبوا بحمّى الدنغو وتوفّوا إثر ذلك. طبعاً، كان الهدف النهائي والأخير من القيام بهذا الاختبار، الاستفادة من فيروس حمى الدنغو كسلاح بيولوجي. فعندما يحقق النجاح في صناعة هذا السلاح البيولوجي، سيتمكن الشعب الباكستاني من رفع رأسه عالياً والتباهي بمشاركته في صناعة هذه الوسيلة الفعالة، أي القنبلة البيولوجية القويّة.[4]

استطاع الشعب الغواتيمالي (من الدول الصغيرة في منطقة أمريكا المركزية) أيضاً التعاون مع الباحثين الأمريكيّين في قضية العثور على أساليب معالجة مرض الزهري. بحيث إنّ الأمريكيّين بادروا إلى اتباع أساليب مثل حقن النخاع، رشّ السوائل التي تحتوي على البكتيريا على وجوه وأجساد الرجال وإرسال العاهرات المصابات بمرض الزهري إلى مراكز تحتوي على المرضى النفسيّين، وبذلك نقلوا هذا المرض إليهم، ثمّ جرّبوا عدّة أساليب علاجيّة واختبروها عليهم وعالجوا بعضهم وأبقوا على الآخرين دون علاج لكي يكونوا نماذج صالحة للمقارنة. بعد انقضاء أعوام، اعتذر وزير الخارجيّة الأمريكيّ من الشعب الغواتيمالي على إشراكهم في الاختبارات.[5] طبعاً، ليس من الواضح سبب الاعتذار هذا، لأنّ إشراك الشعب الغواتيمالي الذي لم يكن يشارك أبداً في الحالة الطبيعيّة في الأبحاث والاختبارات، لا يستدعي أي اعتذار، ولذلك لا بدّ أن نعدّ ذلك تواضعاً وأدباً لا متناهياً أبداه المسؤولون الأمريكيّون في التعامل مع هذه القضية.

نفس هذه القضيّة وقعت في دولة بورتوريكو، وهي من البلدان الصغيرة في أمريكا المركزيّة أيضاً. مع فارقٍ هو أنّ موضوع البحث هنا كان مرض السرطان، ونال شعب بورتوريكو شرف أن يُصاب بمرض السرطان، حتّى يتطوّر علم الطبّ في أمريكا[6]، وبالطبع، لن يعتذر منهم أحد، لأنّ إشراك الشعوب المتخلّفة في الأبحاث العلميّة لا يستدعي الاعتذار أبداً.

من اللافت أن تعلموا بأنّ جزءاً كبيراً من الأبحاث العلميّة في أمريكا يُجرى بواسطة منظمة السي. آي. أي والجيش الأمريكيّ، وذلك لتحقيق أهداف إنسانيّة مثل صناعة الأسلحة البيولوجيّة والكيميائية، اختراع الأدوية من أجل انتزاع الاعترافات من المتهمين والحصول على أجيال جديدة من المخدّرات. اختبار الانتشار الشامل لميكروب السعال الديكي عام 1955 في فلوريدا، اختبار مدى تأثير نوع من الغازات السامّة في مترو نيويورك عام 1960[7]، مشروع دراسة تأثير مخدرات ال اس دي نصف الصناعية على عدد من المواطنين الأمريكيّين في أعوام العقد 1950[8] والبحث حول أعراض مرض الجمرة الخبيثة الذي جرى على أكثر من مليون مواطن من المواطنين الأمريكيّين عام 1966، كلّها نماذج للمساعي الحقيقيّة والحثيثة للجيش الأمريكيّ ومنظمة السي. آي. أي في سبيل تطوير العلم وخدمة البشريّة، والتي لم تكن الحكومة الأمريكيّة ترغب في الكشف عنها. كم أنّ الحكومة الأمريكيّة متواضعة وخجولة حتى تتستّر على كلّ هذه الخدمات ثمّ تقول «لم أفعل ما يستحقّ أن أكشف عنه!».

الآن حيث إنّ النقاش بات حول الأنشطة العلميّة – البحثيّة للجيش الأمريكي، من اللافت أن تعلموا بأنّ هذا الجيش يقع في عداد أكثر جيوش العالم كفاءة من الناحية العلمية، ولكي تصل إلى هدفها المتمثّل في الاستفادة من الأسلحة الديمقراطية من أجل صون حقوق الإنسان في العالم، لم ولن توفّر أيّ جهدٍ يصبّ في إجراء الأبحاث والخطوات العلميّة، وهذا ما جعل الجيش الأمريكيّ يحقق النجاح في إنتاج وتخزين ما نسبته 45 بالمئة من الرؤوس النووية المتوفّرة حول العالم. طبعاً، هو أيضاً الجيش الوحيد الذي حاز شرف استخدام السلاح النووي، وبرقم قياسي للقتلى بلغ 344 ألف قتيل خلال القصف النووي لهيروشيما وناكازاكي. ومن أجل إدراك أهمية إجراء الأبحاث في الجيش الأمريكيّ، يكفي أن تعلموا بأنّ هذا الجيش ينوي إنفاق أكثر من ألف مليار دولار حتى العام 2035 من أجل البحث حول الأسلحة النوويّة وتطويرها.[9]


  • [1] Tuskegee؛ منطقة في ولاية آلاباما في الولايات المتحدة الأمريكية.
  • [2] William Jefferson “Bill” Clinton (Born 1946)؛ رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الثاني والأربعين والذي حكم بين العامين 1993 و2001.  
  • [3] نظرة على الاختبارات الأمريكيّة المهولة على الإنسان، وكالة مشرق الإخبارية، 14/8/2012 (http://www.mashreghnews.ir/fa/news/142461).
  • [4] كيف تنشر أمريكا المرض بين شعوب العالم؟، وكالة فارس للأنباء، 2/11/2013 (http://www.farsnews.com/newstext.php?nn-13920811001240)
  • [5] نظرة على الاختبارات الأمريكيّة المهولة على الإنسان، وكالة مشرق الإخبارية، 14/8/2012
  • [6] كيف تنشر أمريكا المرض بين شعوب العالم؟، وكالة فارس للأنباء، 2/11/2013
  • [7] قمع الأمل، ويليام بلوم، ص 30.
  • [8] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 726.
  • [9] تكاليف الأسلحة النووية تعادل 21 ألف دولار لكل أمريكي، وكالة أنباء فارس، 21/11/2011
المصدر
كتاب تاريخ أمريكا المستطاب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟