مواضيع

الفيليبين؛ الخطوة الثانية

الجزر الفيليبينيّة كانت الأرض الثانية التي اكتسبت في بداية القرن العشرين جدارة استيراد المنتجات الحضاريّة الأمريكيّة. طبعاً، كما جرت العادة، لم يكن الشعب الفيليبينيّ المتخلّف يدرك شيئاً عن القيم الحضاريّة الأمريكيّة ومنتجاتها، واضطرّ الأمريكيّون لإفهام الشعب الفيليبيني هذه الأمور بلغتهم الخاصّة.

نفس اللغة الأمريكيّة التي تمّ بواسطتها إفهام الهنود الحُمر، ذوي البشرات السمراء والمكسيكيّين.

طبعاً، نظراً إلى الموقع الجغرافي للفيليبين، أُجبرت السفن الحربيّة الأمريكيّة على قطع كلّ المحيط الهادئ (أي نصف الكرة الأرضيّة) لكي تنقل البضائع الحضاريّة (الحريّة، الديمقراطيّة و…) إلى تلك البقعة من الأرض. لكنّ هذه المسافة الطويلة لم تستطع أيضاً أن تمنع الأمريكيّين من نشر الحضارة وبسطها وتنميتها. يتحدّث مك كينلي[1]، الرئيس الأمريكي حينها، حول كيفيّة تصدير الحضارة إلى الفيليبين في جموع من القساوسة حول هذا الأمر قائلاً: «في واقع الأمر، لم أكن أرغب في الفيليبين، وعندما قدّمها الله إلينا كهديّة، لم أكن أعرف ما يتوجّب عليّ أن أفعل بها! في البداية فكّرت في أن أكتفي بالسيطرة على مانيل (عاصمة الفيليبين)، وثمّ أسيطر لاحقاً على لوزون (واحدة من مدن الفيليبين) وبعد ذلك أسيطر على سائر جزرها. قضيت ليالٍ طويلة في البيت الأبيض جاثياً على ركبتي وأطلب من الله أن يرشدني، وأخيراً، تمّ إرشادي في واحدة من الليالي وطُلب مني السيطرة على كلّ أراضي الفيليبين، لأنّ أهالي ذلك البلد لم يكونوا قادرين على إدارة الحكم في بلادهم وكانوا سيجعلون الفوضى تنتشر فيها. لم يكن التخلّي عن هذه الأراضي وتركها للألمانيّين أو الفرنسيّين صحيحاً أيضاً، لأنّهم كانوا بمثابة منافسين لنا. عليه، كان أفضل ما نقدر على القيام به هو السيطرة بشكل كامل على الفيليبين وبالطبع، كان علينا أن نعلّم أهالي ذلك البلد لكي يصبحوا مسيحيّين ومتحضّرين. سوف نقوم على ضوء المشيئة والإرادة الإلهيّة بأفضل ما نقدر عليه من أجل أهالي هذه الأرض. لأنّهم بشرٌ أيضاً ونظراء لنا في الخلق، وقد صُلب عيسى المسيح لأجلهم أيضاً.»[2]

تعلمون جيّداً أنّ صدق الأمريكيّين يؤدّي إلى قتل الناس. فكثيرون في أنحاء العالم قُتلوا من أجل أخلاق الأمريكيّين هذه. لقد قام الأمريكيّون في الفيليبين بكلّ ما كان بوسعهم فعله، وهذا ما وعد به الرئيس الأمريكي. على سبيل المثال، كانت واحدة من مناطق الفيليبين التي تُدعى كالكون[3]، تحوي على 17000 نسمة، لكنّها بعد حضور الفيلق العشرين من الجيش الأمريكي في تلك المنطقة فقدت كلّ سكّانها، ولم يبقَ منهم شخصٌ واحد أيضاً. من الواضح أنّهم كانوا يفتقدون إلى القدرة على فهم الديمقراطيّة الأمريكيّة.

يشرح أحد الجنود الأمريكيّين تفاصيل مشاركته في الكالكون كما يلي: «بعد تحقيق النصر في الكالكون، أحرقت بيدي أكثر من 50 بيتاً. لقد أمطرنا النساء والأطفال بالرصاص ولأنّ دماءنا كانت تغلي، اصطدنا السكّان الأصليّين في تلك المنطقة كما نصطاد الأرانب.»[4]

وقد جاء في تقرير الصحفي في مجلّة لجر فيلادلفيا[5] في نوفمبر من العام 1901 بشأن التدريبات وتعليم شعب الفيليبين الأساليب الحضاريّة ما يلي: «جنودنا في الفيليبين شديدو القسوة وعديمو الشفقة، ويقتلون شعب هذا البلد بنيّة إبادة الأجيال فيه. يمكن العثور بين القتلى على الرجال والنساء والأطفال والسجناء والأسرى ومثيري أعمال الشغب وكلّ من كان عمره أكثر من عشر سنوات ووردت شكوك بنيّته افتعال أعمال الشغب. ينظر جنودنا إلى الفيليبينيّين على أنّهم كالكلاب، ويمارسون أساليب التعذيب الجنسيّ بحقّ الناس بهدف انتزاع الاعترافات منهم، وقد أمطروا الأشخاص الذين سلّموا أنفسهم بشكل سلمي بالرصاص ونعتوهم بمثيري أعمال الشغب وألقوا بهم في الأنهر لكي يكونوا عبرة للذين يسكنون بقربها.»[6]

علينا أن نذعن ونقرّ بأنّ الأسلوب الأخير، أحدث ثورة في التدريب العمليّ بأقلّ التكاليف، وأدّى إلى تحقيق أكبر نسبة من اعتبار المجتمع المستهدف. فالجنود الأمريكيّون استطاعوا بأثمان بخسة (ثمن الرصاص الذي أطلقوه) وبالاستفادة من مواد مجانيّة وعديمة القيمة (الفيليبينيّين المستسلمين) أن يجهّزوا المستلزمات التعليميّة التي تخوّلهم التأثير على من يسكنون ضفاف الأنهر واستطاعوا تعليمهم عبر أسلوب استلهام العِبر. على أيّ حال، لا يستطيع أيّ أحد إنكار قدرة التأثير الاستثنائية التي ملكتها مشاهد الأجساد المتراكمة العائمة فوق الماء، على عقول وأذهان المستهدفين! من ناحية أخرى، أدّى التفوّق العسكريّ المطلق لأمريكا على الشعب الفيليبينيّ إلى أن تتضاعف خسائر الفيليبينيّين إلى حدّ كبير. تخيّلوا مشهد هجوم البوارج الأمريكيّة بقذائف تزن 250 كيلوغراماً على بيوت مصنوعة من قصب السكر وأغصان وأوراق الشجر، كيف ستكون النتيجة؟!

جرت العادة أن تكون أجساد الفيليبينيّين كثيرة لدرجة أنّ قسم الهندسة في الجيش الأمريكيّ بادر للقيام بخطوة إبداعيّة واستخدم هذه الأجساد لصناعة متاريس دفاعيّة، وهذا كان بمثابة الاستفادة القصوى من الأشياء التي تبدو عديمة الفائدة في الظاهر. طبعاً، لم يكن الفيليبينيّون يملكون القدرة على فهم واستيعاب هذه النقاط التعليميّة والحضاريّة، وكانوا يتّهمون الجيش الأمريكيّ بإهانة الأموات. وفي خضمّ هذه الأحداث وكما جرت العادة، ظهر بعض العاطفيّين والانفعاليّين من الناس الذين كانوا يجهلون دور وتأثير العنف والعقاب خلال التدريب وحاولوا إدانة جهود الجيش الأمريكي في الليل والنهار من أجل تعليم التحضّر، حقوق الإنسان، الديمقراطية والمسيحيّة للشعب الفيليبيني. مثل الصحفي البريطاني الذي وصف ممارسات الجيش الأمريكي في الفيليبين بأنّها «سلخ للناس وإبادة عامّة لهم دون أي شفقة».[7]


[1] William McKinley (1843 – 1901)؛ الرئيس الخامس والعشرين للولايات المتحدة الأمريكيّة، حكم بين العامين 1897 و1901.

[2] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 414.

[3] Calicon Island

[4] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 417.

[5] Philadelphia (Public Ledger)

[6] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 417.

[7] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 419.

المصدر
كتاب تاريخ أمريكا المستطاب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟