مواضيع

جنّة الواحد بالمئة

لا بدّ أن قارئي هذا الكتاب قد التفتوا لحدّ الآن كم أنّ أمريكا استثنائية ورائعة! كيف تتوقّعون أن تكون مرحلة شباب وكهولة الذي كانت ولادته وطفولته بهذا النحو الرائع والاستثنائي؟! ولكي تصل أمريكا إلى ما وصلت إليه اليوم، كان لا بدّ أن يتمّ تلامس صابونة حقوق الإنسان والديمقراطيّة أجساد العديد من الأشخاص الآخرين.

أشخاصٌ مثل النساء، الفقراء، العمّال و … الذين كانوا يشكّلون نسبة مئوية متدنّية (حوالي التسعة وتسعين بالمئة) من سكّان أمريكا، وكان من الطبيعي أن يبادر أصحاب الجدارة والكفاءة في أمريكا (الذين كانوا يشكّلون نسبة مئوية كبيرة تبلغ حوالي الواحد بالمئة) إلى وضع خطط لكيفيّة تنظيف أجساد كلّ فئة وجماعة بصابونة حقوق الإنسان والديمقراطيّة بحيث تُؤتي أفضل وأحسن النتائج.

اليزابيث اسبرينغز كانت فتاة نشيطة وسعيدة تعمل في واحدة من مزارع أمريكا عام 1756. كتبت في رسالة وجّهتها إلى والدها ما يلي: «أنا واحدة من العمّال الذين يقضون الليل والنهار في اصطبل الأحصنة ويحملون البضائع الثقيلة، لكنّني لا أملك قيمة الكلب أيضاً! فرئيسي في العمل يقيّد قدميّ ويديّ ويجلدني بقسوة لم يجلد بدرجتها أيّ حيوان آخر. الطعام الوحيد الذي يعطوننا إياه هو الذرة. لا أملك حذاء ولا جوارب ولا ثياب! لقد بتّ شبه عارية وأنا مجبرة على لفّ نفسي بأحد الأغطية ثمّ النوم في الاصطبل.»[1]

طبعاً، ولأننا أوضحنا سابقاً بشأن ميّزات الجلد ودوره في نشر الديمقراطيّة وحقوق الإنسان، لا نجد حاجة لأن نعيد توضيح الأمر مجدّداً. فالجميع مدركون لكون أمريكا أرض المساواة، والمساواة بين المرأة والرّجل كانت تستدعي أن تعمل النساء في الورش إلى جانب الرجال لكي يحصل جميع أفراد المجتمع على حقوقهم بشكل متساوٍ. كانت ظروف هذه الورش إنسانيّة لدرجة أنّ الرجال والنساء كانوا ينتفعون بإمكاناتها بشكل متساوٍ: «ورش مظلمة وفاقدة للأنوار، مليئة بالصراصير والفئران، ذات نوافذ صغيرة وقليلة ومتسخة، بردها قارصٌ في الشتاء وصيفها لاهب وحارّ. كان علينا أن نعمل حوالي الثمانين ساعة في الأسبوع، لأنّ يومي السّبت والأحد لم يكونا من أيام العطلة، وكان أصحاب الورش يقولون بأن إذا لم تأتوا يوم الأحد إلى العمل، فلن يكون هناك داعٍ لأن تأتوا إلى العمل على الإطلاق!»[2] فالعمل أيام السّبت والأحد شكّل سرّ نجاح أمريكا، وإلا فلو أنّ الأمريكيّين أرادوا قضاء أيام العطلة بالتجوّل العبثيّ، لم تكن أمريكا لتصبح أمريكا الحاليّة!

مري جونز هي واحدة من السيّدات اللواتي كنّ يعملن لفترة في أوائل القرن العشرين في إحدى مصانع أمريكا، وقد شرحت نماذج لدقّة أصحاب المصانع والعمال من السيّدات الأمريكيّات وجهودهم الجسيمة في العمل:

«كانت الفتيات العاملات مجبرات على العمل بشكل يومي ونقل حمولات تحتوي على عبوات تزن بين 40 إلى 50 كيلوغرام، ثمّ تعمل على غسلها، ولهذا السّبب كنّ دائماً مبلّلات بالمياه من أعلى رؤوسهنّ حتّى أخمص أقدامهنّ، وكنّ يُصبن سريعاً بأمراض السلّ والروماتيزم! لأنّ إمكانيّات التهوئة لم تكن متوفّرة في أماكن الورش وكانت الروائح الخانقة للمواد الأوليّة تنتشر في الأجواء في كل مكان. كان رؤساء الورش قد عيّنوا أوقاتاً محدّدة للفتيات يستطعن فيها الذهاب إلى المراحيض، وإذا تأخّرت إحداهنّ أو ذهبت إلى المرحاض أكثر من المرّات المسموحة لها، كانت تواجه الشّتم، الضرب والطرد أيضاً. كانت هؤلاء الفتيات يتقاضين مقابل كلّ هذه الأعمال المضنية 3 دولارات أسبوعيّاً والتي لم تكن تكفي لتأمين ما يحتجنه من الطعام واللباس أيضاً.»[3]

جميع خبراء الاقتصاد حول العالم يعتقدون بأنّ مفتاح النجاح هو هذا! الكمّ الكبير من العمل وتقاضي الأجر الزهيد مقابله! فلو استطاع صاحب أيّ مصنع التعامل مع عمّاله بهذا النّحو، فسوف يتمكّن سريعاً من تحقيق النجاح وسوف يبني بدل المصنع الواحد، عشر مصانع أو قد يبني مئة مصنع أيضاً! هكذا استطاعت أمريكا تحقيق نسبة كبيرة من العمالة والقضاء على الكسل والبطالة في الولايات المتحدة. كان أصحاب أمريكا الحقيقيّون (أي أكثريّة الواحد بالمئة) يعلمون بأنّه لا يمكن من خلال التراخي والبطالة التحوّل إلى قوّة عظمى، ولذلك حاولوا ضمن مشروعهم الشامل لمكافحة الكسل والبطالة نشر وترسيخ ثقافة العمل حتّى بين الأطفال. على سبيل المثال، في أواخر القرن التاسع عشر، كان يعمل في ولاية بنسلفينيا لوحدها آلاف الأطفال بين سنّ السابعة والسادسة عشرة في مناجم الفحم. كانوا يعملون في أجواء خانقة بالكامل، ومليئة بالرطوبة على عمق مئات من الأمتار تحت الأرض، بينما كانت المياه تصل إلى أعلى ركابهم.[4]

برأيكم، أليس العمل بهذا النحو والإفادة أفضل من اللعب والتراخي والتكاسل؟ من الواضح كم أنّ هذا المشروع كان يصبّ في صالح مستقبل هؤلاء الأطفال وأمريكا. والآن، وكما يقول محافظ فيرجينيا، كان يصاب أربعة من كلّ خمس أطفال ويموتون[5]، على كلّ حال، لقد كان هذا الأمر مشكلتهم هم حيث ترعرعوا وتربّوا على الرقّة والضعف والتراخي ولم يكونوا جديرين بالعيش في مجتمع العمل والجدّ، مجتمع أمريكا العظمى.

كتب أحد الشعراء الأمريكيّين ويُدعى ادوين ماركهام[6] في كانون الثاني/ يناير من العام 1907 في مجلّة كاسموبوليتين[7] في وصف عمل الأطفال في أمريكا: «بإمكانكم على مدى العام أن تروا في نيويورك وسائر مدن أمريكا أطفالاً مجبرين على العمل بجانب آبائهم وأمهاتهم من أجل تأمين لقمة الخبز. وذاك في أيّ وقت من الليل والنهار! فتية شاحبو اللون وفتيات نحيلات بوجوه داكنة، انحنت ظهورهم تحت ثقل البضائع الثقيلة التي يحملونها.»[8]

طبعاً، كان بالإمكان العثور على حالات نادرة من الذين لا يدركون فلسفة كلّ هذا الحجم من العمل، وكانوا يحاولون بتذمّرهم واعتراضهم عرقلة وإيقاف اندفاعة أمريكا العظمى نحو الحضارة والتنمية والتقدّم، ولحُسن الحظّ، باؤوا بالفشل! من بين هؤلاء ماري آلن ليز[9] من أعضاء حزب المزارعين في أمريكا التي قالت عام 1890 في كنزاس ما يلي: «لقد أصبحت وول ستريت مالكة هذا البلد، ولم تعد الأمور تشير إلى وجود حكومة الناس للناس، بل هناك فقط حكومة وول ستريت التي تحكم الناس. أصحاب رؤوس الأموال في وول ستريت يتحدّثون عن إنتاجيّة أمريكا المضاعفة بهدف جني المزيد من الأرباح، بينما يموت في كلّ عام عشرات الآلاف من الأطفال اليافعين نتيجة الجوع، وأكثر من مئة ألف فتاة شابّة في نيويورك مجبرات على بيع شرفهنّ وعفّتهنّ وأجسادهنّ من أجل الحصول على كسرة من الخبز ولتجنّب الموت جوعاً! بينما يكدّس العشرات من أصحاب رؤوس الأموال في وول ستريت مليارات الدولارات من الثروات، يبحث مئات الآلاف من الأمريكيّين الجياع عن العمل.»[10]

لو أنّ هذه السيّدة كانت تعلم بأنّ قرية معمّرة أفضل من مئة مدينة مدمّرة، لما كانت لتنطق بهذا الكلام! ففي النهاية، من الأفضل كثيراً لأمريكا وجود عشرين أو ثلاثين من أصحاب رؤوس الأموال الضخمة وذلك سيعود عليها بالفائدة أكثر من وجود الآلاف من الجياع العاطلين على العمل الذين لا يليقون بشيء سوى إراقة ماء وجه دولة محترمة مثل أمريكا! أولئك الذين يتوقعون أن يكون اقتصاد أمريكا تابعاً لمشاعر الرومانسيّين من الناس، واقعون في الخطأ بشدّة. لأنّه ينبغي أن تُدار دولة مثل أمريكا بشكل مدروس لا انطلاقاً من المشاعر والعواطف!

وبين هذه السلوكيّات الاقتصاديّة المنطقيّة، يمكننا أن نشير إلى مشروع القضاء على الإنتاج الإضافيّ للمواد الغذائية في عهد الرئيس الأمريكي روزفلت[11] والذي كان مشروعاً إبداعيّاً لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكيّة. ضمن هذا المشروع، تمّ التخلّص من آلاف الأطنان من الحبوب والأطعمة وأُلقيت في البحر من أجل الحفاظ على سعر منتجات الزراعة الأمريكيّة، ولكي لا يؤدّي دخول المنتجات الإضافيّة إلى السوق إلى كسر الأسعار.[12] هذا المشروع أدّى بالإضافة إلى حفظ أرباح الزراعة وتثبيت الأسعار، إلى توفير الطعام للأسماك والكائنات البحريّة وفي نتيجة الأمر، تمّ صون البيئة أيضاً، وثبت للجميع أنّ الحكومة الأمريكيّة لا تهتمّ فقط لحقوق الإنسان والدفاع عنها، بل هي تبذل الجهود الجسام أيضاً من أجل صون حقوق الأسماك والكائنات المائيّة أيضاً وتضع ذلك على رأس لائحة أعمالها. ولا بدّ أنّكم مقتنعون بأنّه لا ينبغي في هذه الحالة الاكتراث لتذمّر البعض من الذين لا يدركون قيمة اللحظة ويقولون بأنّ التخلّص من كلّ هذه الكميات من الأطعمة وإلقاؤها في البحر كان خطوة غير عقلائية وغير مطابقة لعلم الاقتصاد، لأنّه كان يجدر بالحكومة أن تقدّم هذه الأطعمة للآلاف من الأمريكيّين الجياع!

ورد في أسطورة معاصرة أنّ الأب المقدّس في السماوات وهب أرضاً وسيعة لعباده البيض والأوروبيّين لكي يحوّلوها إلى جنّة، وكي لا يكونوا بحاجة من أجل الذهاب إلى الجنّة السماويّة إلى الإحسان والموت! وهم قاموا بهذا الأمر بدقّة، وأصبحت أمريكا تلك الجنّة الموعودة على الأرض! جنّة لأصحاب رؤوس الأموال البيض والأوروبيّين الأثرياء! طبعاً، لا يضمن أحدٌ أن يكون هناك مكانٌ في هذه الجنّة للسود وأصحاب البشرات الملوّنة، الفقراء، ومن هم بلا حسب أو نسب وأمثال هؤلاء!

يقول أحد القساوسة ويُدعى راسل كانول[13] والذي تخرّج من كليّة الحقوق في جامعة ييل[14] في أمريكا، وألقى أكثر من 5000 كلمة في أنحاء أمريكا، حول هذه الجنّة على الأرض ما يلي: «مسؤوليّة الشعب الأمريكيّ تحتّم عليه أن يكون غنيّاً. أولئك الذين يصبحون أثرياء هم أكثر أعضاء المجتمع صلاحاً. لأنّ ثروة المجتمع سُلّمت لهم وحوّلوها إلى مؤسسات ضخمة! لكنّ الإشفاق على الفقراء أمر خاطئ. لأنّ الفقراء عوقبوا بسبب ذنبهم، وابتلوا بالفقر. كلّ فقير في أمريكا أصبح فقيراً بسبب ضعفه ونقصه، وهذا ما يجعل الأثرياء في أمريكا عباد الله الصالحين!»[15]

من أنواع العذاب التي يُبتلى بها الفقراء في جهنّم أمريكا، الجوع. مع بدايات تأسيس الولايات المتحدة الأمريكيّة هجم عددٌ من الجياع في هذا البلد على إحدى المقابر، وأخرجوا جسداً مضى على دفنه يوماً أو يومين من قبره والتهموه. وأولئك الذين لم يكن لديهم أيّ رمق كانوا ينتظرون موت من هم أضعف منهم لكي يجعلوا من أجسادهم طعاماً لأنفسهم يقتاتون عليه. في إحدى الأيام، قتل قرويٌّ زوجته لكي يبقى حيّاً بضعة أيام بتناوله لجسدها.[16] إذا شعرتم بالإشفاق على حال جياع أمريكا، تذكّروا كلام القسيس كانول الذي قال بأنّ فقراء أمريكا يدفعون ثمن ضعفهم ومساوئهم، ولتكبحوا بذلك لجام الشفقة في نفوسكم!

بعد قرنين من تأسيس أمريكا (في أواخر القرن 19) كانت أوضاع كلّ شيء على أحسن ما يرام في أمريكا وتسير نحو التقدّم، ما عدا حالة الفقراء الذين كانوا أشبه بالطفيليّات عديمة الفائدة على وجه جنّة الأرض هذه! ففي نيويورك كان يعيش مئات الآلاف في مناطق سكنيّة غير منظّمة وسراديب معتمة، وكانت تتربّص بهم أمراض السلّ، الحمى النمشية إضافة إلى الجوع. كانت الأحياء مليئة بالنفايات والفئران والحشرات. كان سكّان هذه الأحياء يؤمنون مياه الشرب من النهر الذي يُسكب فيه بشكل يومي 13 مليون عبوة من المجارير.[17] كان العديد من الفقراء ينامون على قارعة الطريق وبين النفايات، ولأنّه لم تكن في هذه النقطة من نيويورك أنابيب للمجارير، كانت مجارير البيوت تجري من كلّ مكان إلى هذه الأحياء وتصل إلى السراديب التي يقطنها الفقراء، وهذا الأمر تسبّب بتفشّي أمراضٍ معدية كالوباء، التيفوئيد والحمى النمشية في هذه المنطقة من مدينة نيويورك.[18]

وإذا كنتم تظنّون أنّ كلّ هذا العذاب كان يؤدّي إلى أن يعقل فقراء أمريكا ويصبحوا أثرياء، فأنتم واقعون في الخطأ! في واقع الأمر، كان كلّ همّ وغمّ الأثرياء في أمريكا فكرة أن لماذا لا تقدر عقول الفقراء الناقصة على استيعاب هذا الأسلوب البديهيّ لجني الثروات؟!

جزء من هؤلاء الفقراء كانوا عمّال سكّة الحديد الذين كانت أجورهم عادة مغايرة لكلّ شيء آخر في أمريكا وكانت تشهد تنامياً سلبيّاً!

أي أنّ أصحاب شركات سكك الحديد كانوا يحاولون جاهدين زيادة ثرواتهم، ومن أجل تحقيق هذا الهدف كانوا يقلّصون باستمرار أجور العمّال. لكنّ العمّال الفقراء لم يكونوا يقدمون على أيّ خطوة مقابل تراجع أجوره! فإما أنهم كانوا يعترضون ثمّ يتمّ طردهم، والنتيجة كانت البطالة والفقر أو يواصلون عملهم ولا يحقّقون أي نتيجة سوى البطالة والفقر المدقع! وحيث أنّ عقول الفقراء لا تعمل، عثر عدد من العاملين في مناجم الفحم في كلرادو -التي كانت ملكاً لعائلة راكفلر[19] حسنة السّمعة، الصالحة وصاحبة رؤوس الأموال- على أسلوب ثالث لحلّ مشكلة تراجع الأجور، والتي كان من الواضح عدم وجود جدوى منها منذ البداية.

عام 1914، اعتصم أحد عشر ألفاً من عمّال المناجم هؤلاء اعتراضاً على أجورهم البخسة ولهذا السّبب تمّ طردهم جميعاً من وظائفهم. لكنّهم لم يتراجعوا ونصبوا الخيام حول المناجم وواصلوا اعتراضهم. لو كنتم مكان عائلة راكفلر وواجهتم أحد عشر ألفاً من عمال المناجم الغاضبين والناكرين للجميل، هل كان سيكون أمامكم خيار غير إخبار الشرطة؟ وبعد تدخّل الشرطة اتضح أنّ الأمور أكبر من أن يقدر عدد من الضبّاط على حلّها، ولذلك تمّ استدعاء عدد من سرايا الحرس الوطني في الولايات المتحدة وبعد أن تمّت محاصرة عمّال المناجم الذين كانوا يعتصمون مع عائلاتهم داخل الخيام، تمّ رميهم جميعاً بالرّصاص، وبذلك بلغت هذه القصّة خواتيمها. طبعاً، ولكي يتمّ إتمام العمل على أكمل وجه، تمّ إحراق الخيام أيضاً وقُتل وجُرح المئات من عمّال المناجم وعائلاتهم وسيقَ الآلاف منهم إلى السّجون.[20] طبعاً، لم تؤدِّ هذه الحادثة إلى أن ينجو عمّال المناجم من الفقر، لأنّ أيّ فقير لم يصبح ثريّاً بواسطة الاعتصام!ّ

ما هي أمريكا وأين تقع؟

أمريكا خليطٌ من الحضارة، حقوق الإنسان، الحريّة، الرفاهية والعديد من الأمور الأخرى! طبعاً، الحضارة، حقوق الإنسان، الحريّة والرفاهية، كلّها من نصيب المواطنين الأمريكيّين مئة بالمئة، و«العديد من الأمور الأخرى» هي من نصيب الآخرين! المواطنون الأمريكيّون مئة بالمئة هم عبارة عن الرجال ذوي البشرات البيضاء وأصحاب رؤوس الأموال، الذين تزداد أصفار ثرواتهم كلّ يوم. وإذا كنتم متردّدين في هذا التعريف، فمن الضروري أن تراجعوا هذه الأسطر:

أمريكا مكانٌ لا يعتبر المسؤوليّات والأعمال الشاقّة من شأن النساء، أمور مثل المشاركة في الانتخابات! لهذا السبب، عندما توجّهت سيّدة تُدعى سوزان براونل آنطوني[21] -من قادة حركة إحياء حقوق النساء- في العام 1872 إلى واحدة من مراكز الاقتراع لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكيّة وألقت ورقة باسمها في الصندوق، تمّ اعتقالها وحوكمت وأُجبرت على دفع 100 دولار.[22] في تلك الأيام كان العامل الأمريكي يتقاضى 3 دولارات في الأسبوع! من الطبيعي أن عندما لا يرتأي القانون أن تشارك النساء في عمل صعب وشاقّ مثل الانتخابات، فإنّ هذه الخطوة التي بادرت إليها السيدة أنطوني مثّلت خرقاً للقانون ولم تكن أمريكا المكان الذي يقدر على استيعاب أيّ خرق للقانون، حتّى لو كان من يخرق القانون سيّدة فاضلة ومحترمة!

طبعاً، بعد سنوات، استطاعت السيدات الأمريكيّات بإصرارهنّ ومثابرتهنّ، دفع رجالهنّ إلى منحهنّ الحقّ في المشاركة في أمور صعبة مثل الانتخابات، وكانت النتيجة أن تمّ منحهنّ حقّ المشاركة في الانتخابات، وإضافة إلى ذلك مُنحن أيضاً حقوقاً مثل التوظيف في الجيش، العمل في خدمة العلم وقيادة الطائرات الحربيّة، المشاركة في فرق التعذيب في سجن أبو غريب والتعرّي بشكل كامل في الأفلام السينمائيّة، لكي لا «يتذمّرن» فيما بعد بسبب عدم المساواة بينهنّ وبين الرجال الأمريكيّين!

أمريكا مكانٌ «يتساوى فيه الجميع، لكنّ البعض أكثر تساوياً من البعض الآخرين!»[23]، أي أنّ حوالي التسعة وتسعين بالمئة من الناس متساوون مع بعضهم البعض، ونسبة الواحد بالمئة الآخرين منهم – أي المواطنين الأمريكيّين بشكل جذري – متساوون مع بعضهم أكثر من الآخرين. هذا هو الأمر الذي اعترض عليه قادة اتحاد العمّال الصناعيّين في العالم[24] وقد تمّت محاكمتهم على ذلك عام 1918 مدّة خمسة أشهر. فلتتوقّعوا كيف يكون العقاب عندما تكون المحاكمة بهذا النحو!

صرّح بيل هيوود[25]، أحد الأعضاء في هذا التشكيل، في المحكمة بالقول: «العديد من عمّال أمريكا يُطلق عليهم اسم المشرّدين فاقدي الحسب والنّسب. أولئك الذين لا يملكون حتّى غطاءً يستخدمونه للنوم، وهم مجبرون على العثور على عمل، وأن يتركوا عائلاتهم لسنوات ويتناولوا أسوء الأطعمة ويناموا في أكثر الأماكن تعفّناً وأن يجعلوا من الأواني التي يتناولون فيها طعامهم هدفاً لرصاص الشرطة. لقد كان لا بدّ للذين تتراجع أجورهم يوماً بعد يوم على تلقّي الصفعات والجلد بالسياط من رجال القانون، ولسنا نعرف السّبب الذي كان يدفع القساوسة المؤمنين والعطوفين إلى تشجيع رجال القانون على ضرب العّمال أكثر وبقسوة أشدّ!»[26]

أمريكا مكانٌ فريدٌ بقوانينه النموذجيّة على المستوى العالمي! فقوانينها فريدة لدرجة أنّها تتجذّر في أعماق شعبها وتسكن قلوبهم. في العام 1986، حُكم في كاليفورنيا على رجلٍ أسمر البشرة بالسجن المؤبّد وجريمته كانت أنّه سرق «قطعة بيتزا»! كانت قد تمّ وضع هذه العقوبة وفق قانونٍ يُدعى «قانون الضّربة الثالثة»![27] من البديهي أن هذه القوانين المحكمة هي القادرة حصراً على أن تكفل تطبيق حقوق الإنسان! من حقوق الإنسان، حقّ تملّك الإنسان لكلّ قطع البيتزا التي اشتراها! عندما ينقض أحد السّود هذا الحقّ ويسرق قطعة من بيتزا خاصّة بمواطن أمريكيّ آخر، سيكون في واقع الأمر قد حرم ذاك المواطن من حقّه الإنساني ولا بدّ أن يتمّ حبسه إلى الأبد. في واقع الأمر، لقد تحوّلت أمريكا إلى أمريكا الحاليّة بفضل هذا النوع من القوانين!

قوانين أمريكا شاملة وعالميّة لدرجة أنّها تضمن حقوق الحيوانات المتوحّشة أيضاً، إضافة إلى حقوق الإنسان! فوفق واحدة من هذه القوانين، استطاع «أحد الكلاب» في السادس عشر من أغسطس عام 2014 التقدّم في واحدة من الانتخابات الرسميّة بالكامل وبفارق كبير من الأصوات على منافسه (الذي كان رجلاً أمريكيّاً!) وحصل على منصف رئاسة البلديّة في واحدة من مدن مينه سوتا[28]!

بالطبع، لا بدّ أن تملك القوانين التي تسمح لكلبٍ بالمشاركة في انتخابات رئاسة البلديّة والفوز فيها أيضاً، الحلّ المناسب لإدارة المدينة بواسطة رئيس البلديّة الذي سلف ذكره!

أمريكا مكانٌ تتحلّى فيه النّخب والسياسيّون بشكل خاصّ باعتقاد عميق بالله. الإله الذي لطالما وقف إلى جانب المواطنين الأمريكيّين بشكل جذري والذين يمثّلون نسبة الواحد بالمئة. ومن بين هؤلاء النّخب المؤمنين، نذكر جون ساليوان[29]، رئيس تحرير مجلّة دموكراتيك ريفيو[30]. وقد صرّح في مكان ما بالقول: «مصرينا هو أن نتقدّم ونتسامى في هذه القارة التي أصبحت من نصيبنا وفق المشيئة الإلهيّة.»[31] لقد كان إيمان رجال السياسة الأمريكيّين عميقاً لدرجة أنّهم كانوا يؤمنون بالتسليم المطلق للتقدير الإلهيّ، حتى وإن أدّى ذلك إلى القضاء على الآلاف من الناس. كان السيناتور جونسون[32] يعتقد في هذا الخصوص: «على مدى التاريخ، كانت الحرب سبباً لمقتل البشر والدمار والإبادة الشنيعة، لكنّ وقوع الحرب كان أيضاً بناء على المشيئة الإلهيّة وأداة لتحقيق الغاية الرئيسيّة وتقدّم وسعادة البشر!». وقد تكبّدت المجلّة[33] التي تنشر المفاوضات الرسمية للكونغرس الأمريكي في 11 شباط عام 1848 عناء تفسير قول جناب السناتور وأوضحت قائلة: «إنّ تقدير ونصيب العرق الأبيض وقوم الأنجلوسكسونيّين[34] هو أن يوسّعوا حدود منطقتهم قبل اختتام الحرب ويسيطروا على المساحة بين المحيط الأطلسي والمحيط الهادئ.»[35]

والسناتور آربرت بيفريج[36] هو أيضاً من السياسيّين المتديّنين في أمريكا الذين كانوا يعتقدون بتوكيل الله الشعب الأمريكيّ بمهمّة خاصّة: «إزالة الحضارات الحقيرة والشعوب المتسوّسة على يد الحضارة الأمريكيّة الراسخة، هو جزء من المشروع الإلهيّ اللامتناهي. يجب أن نستحوذ على التجارة العالميّة، وهذا ما سيحصل. نحن نقتدي بأمّنا (بريطانيا) في تحقيق هذه الغاية المهمّة. نحن نوزّع بضائعنا في أنحاء العالم، وسوف نحاصر ببوارجنا المحيطات ونشكّل قوّة تتناسب مع عظمتنا ونؤسس مستعمرات ضخمة ترفع راياتنا وتحسب الحسابات لها عند قيامها بأيّ خطوة.»[37

بالفعل، أيّ بلد يقدر على النّهوض برسالة بهذه الأهميّة والأولويّة أكثر من أمريكا؟ أيّ مكان من العالم يملك مثل رجال السياسة العارفين بمسؤوليّاتهم والصادقين والصريحين الذين يشرحون المشاريع الإلهيّة بهذه الصراحة ودون خجل أو تورية ويبذلون الغالي والنّفيس من أجل تحقيقها؟ لقد وقع الاختيار على حضارة أمريكا لكي تكون المنفّذة للمشاريع الإلهيّة الدوليّة حول العالم، وهذه الصلابة تنبع من كون أمريكا لا تعرف صديقاً ولا غريباً عندما تهمّ بإزالة الكائنات الحقيرة والرذيلة والمتوحّشة من على وجه هذه اليابسة. وقد بلغت المواصيل حدّ قتل 2000 شخص من الأمريكيّين على يد شرطة هذا البلد بين العامين 2007 و2012 وفق تقرير الإف. بي. آي، وإنّ احتمال أن يُقتل أيّ أمريكيّ على يد الشرطة في هذا البلد تبلغ نسبته 9 أضعاف احتمال موته بسبب الأحداث الإرهابيّة!

طبعاً، وفق ما نقله تقرير الصحيفة الأمريكيّة يو. إس. إي. توداي[38] في 15 أغسطس عام 2014، يتمّ سنويّاً إطلاق الرصاص على حوالي الـ 400 شخص من ذوي البشرات الملوّنة في أمريكا بواسطة شرطة هذا البلد. أنا واثقٌ من أنّكم أدركتم مبرّر قتل ذوي البشرات الملوّنة واستوعبتم أنّ قتلهم يساوي تماماً قلع جذور الحضارات الحقيرة، وهذا الأمر يقع ضمن إطار المهامّ الذاتيّة للحكومة الأمريكيّة. ولكي تحظوا بتصوّر سليم حول حزم الشرطة الأمريكيّة وتقيّدها بالقوانين خلال مواجهة الاحتجاجات في ديسمبر من العام 2014 في فرغوسن -التي انطلقت احتجاجاً على قتل السّود على يد الشرطة الأمريكيّة-، لا بدّ أن تعلموا بأنّ الشرطة أطلقت الرصاص على فتى يبلغ من العمر 12 عاماً، لأنّه كان يحمل لعبة البندقيّة الخاصّة به في الشارع! ولا بدّ من إطلاع أولئك الذين انزعجوا من هذه الخطوة التي قامت بها الشرطة الأمريكيّة بأنّ هذا الفعل يصبّ تماماً في اتجاه صون حقوق الإنسان، الحريّة والديمقراطيّة والدفاع عنها، وهي خطوة استباقيّة، لأنّه عادة ما يتحوّل سارق البيض إلى سارق جمال! والطّفل الذي يحمل بيده «لعبة البندقيّة» وينزل إلى الشارع، سوف يحمل في الغد سلاحاً حقيقيّاً إن لم يتمّ تأديبه، ثمّ سوف ينزل إلى الشارع ومن المحتمل أن يهدّد أمن المواطنين الحقيقيّين والأمريكيّين فعلاً. في مثل هذه الحالات، يحكم العقل السليم بمعالجة الحادثة قبل وقوعها!

وهكذا أصبحت أمريكا، أمريكا الحاليّة. أرض متحضّرة، مزدهرة، ثريّة ومعمّرة وهي قدوة للبشر بأجمعهم! لم يعد مهمّاً في هذه الحالة إن كتب شخصٌ مثل ألكسيس دوتوكويل[39] في كتاب الديمقراطيّة في أمريكا[40]: «لا أعرف أيّ شعب يهوى المال بقدر الشعب الأمريكي بحيث يكون للمال مثل هذه المكانة في قلوبهم. الشعب الأمريكيّ مجموعة من التجّار والمغامرين.»[41]

طبعاً، ليس من المهمّ أن يأتي شخصٌ مثل مارك توين[42] في بداية القرن العشرين ويكتب في إحدى الصحف: «أمريكا أشبه بسيّدة عظيمة، مع تنورة ملوّثة وعفّة مخدوشة ومسحوقة نتيجة النهب، بينما روحها مترعة بالحقارة والجشع، وجيوبها مليئة بالدماء وفمها مليء بصرخات التظاهر بالتديّن المرائية.»[43]

ما يهمّ هو أنّ أمريكا جنّة مليئة بالأموال وأرضٌ لا تحتاج سوى إلى المال لكي تستمتع بلذائذها. جنّة مغمورة بحقوق الإنسان، الحريّة، الديمقراطيّة و


[1] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 144.

[2] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 430.

[3] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 447.

[4] النّصف المستور من أمريكا، شهريار زرشناس، ص 63.

[5] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 66.

[6] Edwin Markham (1852 – 1940)

[7] Cosmopolitan

[8] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 439.

[9] Mary Elizabeth Lease (1850 – 1933): محاضرة، كاتبة وناشطة سياسيّة في أمريكا.

[10] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 384.

[11] Franklin Delano Roosvelt (1882 – 1945): الرّئيس الأمريكي الثاني والثلاثين والذي حكم الولايات المتحدة الأمريكية منذ العام 1933 حتى العام 1945.

[12] النّصف المستور من أمريكا، شهريار زرشناس، ص 90.

[13] Russel Herman Conwell (1843 – 1925)

[14] Yale University

[15] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 350.

[16] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 39.

[17] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 291.

[18] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 391.

[19] Rockefeller family: عائلة راكفلر الصناعيّة، المصرفيّة والسياسيّة، هي واحدة من أقوى وأثرى العائلات في الولايات المتحدة الأمريكيّة.

[20] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 469.

[21] Susan Brownell Anthony (1820 – 1906): ناشطة اجتماعيّة مناصرة لحقوق الإنسان في أمريكا.

[22] ييسرائيل والصهيوديمقراطية، السيد هاشم مير لوحي، طهران، دار نشر المعارف، الطبعة السادسة: 2012، ص 289.

[23] مقتبس من رواية «قلعة الحيوانات» لكاتبها «جورج اورول»

[24] Industrial Workers of the World (IWW): اتحاد العمّال الدولي الذي تمّ تأسيسه في العام 1905 ميلادي.

[25] William Dudley Haywood (1869 – 1928)

[26] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 491.

[27] ييسرائيل والصهيوديمقراطية، السيد هاشم مير لوحي، ص 329.

[28] Minesota State

[29] John Louis O’ Sullivan (1813 – 1895)

[30] Review؛ مجلّة أمريكيّة تُعنى بتسليط الضوء على شؤون الاقتصاد الوطني والدّولي والتي تُنشر من قبل مصرف رزرو سنت لوويس الفدرالي.

[31] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 203.

[32] Henchel Vespasian Johnson؛ رجل سياسي أمريكي ومحافظ ولاية جورجيا الحادي والأربعين.

[33] Congressional Record: المرجع الرسمي لنشر مفاوضات الكونغرس في الولايات المتحدة الأمريكيّة.

[34] Anglo – Saxons: قوم سكنوا بريطانيا منذ القرن الخامس ميلادي.

[35] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 209.

[36] Albert Jeremiah Beveridge: مؤرّخ وسياسيّ أمريكي وسناتور ولاية اينديانا.

[37] تاريخ أمريكا المستور وغير المحكي، نصير صاحب خلق، ص 70.

[38] USA TODAY

[39] Alexis de Tocqueville (1805 – 1859): مفكّر فرنسي في مجال العلوم السياسيّة.

[40]Democracy in America، 1835.

[41] النصف المستور من أمريكا، شهريار زرشناس، ص 14.

[42] Mark Twain (1835 – 1910)؛ مؤلف وكاتب ساخر أمريكي.

[43] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 425.

المصدر
كتاب تاريخ أمريكا المستطاب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟