مواضيع

ألفباء العبوديّة والمدنيّون المتدرّجون (المقسّمون إلى درجات!)

مرّت أعوام طويلة، وضاق الأمريكيّون ذرعاً من تربية السّود والعمل على تحويلهم إلى بشر! فالأمريكيّون بشرٌ على كلّ حال ولديهم الحقّ في أن يتعبوا من عمل صعب مثل رعاية العبيد. لذلك بدأ يتمّ الترويج بين بعض الأمريكيّين رويداً رويداً لإنهاء فكر مدرسة العبوديّة بشكل تدريجي. فسكّان الولايات المتّحدة الأمريكيّة كانوا إضافة إلى ميلهم ورغبتهم بالحريّة وحقوق الإنسان، يحبّون أيضاً الرأسماليّة والتحوّل إلى مجتمعٍ صناعي؛ وعلى هذا الأساس كانوا يؤمنون بأنّ رعاية العبيد ليست عملاً سليماً. لأنّ العبيد لم يكونوا عمّالاً صناعيّين مهرة لكي يصلحوا للعمل في المصانع والورش الصناعيّة. في واقع الأمر، كان الشماليّون يعتقدون بأنّ رعاية العبيد لم تعد عملاً نافعاً! فعندما يمنح السيّد طعام ولباس العبد، دون أن يتمكّن عبده من العمل لصالحه، ستتجذّر بداخل العبيد رويداً رويداً صفات من قبيل الكسل والبطالة و …. وهذا ليس مفيداً للعبيد ولا لمن يملكهم ولا للحضارة الأمريكيّة أيضاً. الحضارة الأمريكيّة في غنى عن حفنة من الطفيليّين في المجتمع! ما السّبب في تحويل أصحاب البشرات السمراء الذين كانوا على وشك أن يتحضّروا إلى أشخاصٍ تنابل وكسالى يعتاشون على تعب غيرهم؟!

لكنّ الجنوبيّين الذين كان هوى وحبّ الأرض والمزارع يعشعش في قلوبهم كانوا مؤمنين بأن رعاية العبيد – رغم متاعبها ومشاكلها – ما زالت مفيدة وضروريّة وتؤدّي إلى رفع مستوى انتفاع العبيد السّود من الحضارة. طبعاً، مقابل تعليم الحضارة للعبيد، كان الجنوبيّون يستفيدون أيضاً من جهودهم المجانيّة في أراضيهم، وهذا العمل المجّاني كان يصبّ أيضاً في صالح السّود، لأنّ العمل كان – رغم كلّ شيء – أفضل من البطالة وإشباع رغبات الذات!

أصبحت الخلافات بين سكّان الولايات الشماليّة والجنوبيّة في أمريكا حول هذه القضيّة جديّة لدرجة أنّ الأمور سارت نحو اندلاع الحرب.

على أيّ حال، بعد مقتل مئات الآلاف من كلا الطرفين ووقوع سائر الأحداث الممتعة الأخرى – مثل دفن المئات من ذوي البشرات السّمراء الذين كانوا يتوهّمون أنّهم يقاتلون من أجل الحريّة وهم على قيد الحياة، والذين نالوا شرف «الموت دفناً وهم أحياء» على أيدي الجنوبيّين أو موت الآلاف من أسرى هذه الحرب جرّاء الجوع وتخلّف مئات الآلاف الذين قُطّعت أيديهم أو أرجلهم في الحرب – انتهت هذه الحرب بخير وعافية، وكما يقول آبراهام لينكلن[1]: «هدفنا من هذه الحرب كان صون الوحدة في أمريكا ومنع تقسيمها. أنا أعتقد بأنّ إلغاء العبوديّة سيؤول إلى صون الوحدة في ما بين الولايات الأمريكيّة ولو أنّ صون الوحدة كان سيتمّ دون إلغاء العبوديّة، لما كنت اهتممت بقضيّة العبيد.» [2]

للأسف، بعد أن تمّ إنهاء قضيّة العبوديّة والاستعباد، حُرم ذوو البشرات السمراء من مرحلة ضاغطة وحقيقيّة من تعليم الحضارة بشكل مجّاني، وكان ذلك يُعدّ خسارة كُبرى لمجتمع السّود الافريقيّين بأكمله، وللبشريّة جمعاء أيضاً. لكنّ هذه القضيّة لم تؤدِّ إلى أن ينتهي التمييز بين أصحاب البشرات السمراء والبيضاء، أو بمعنى آخر، بين المتحضّرين و«المتوحّشين». على أيّ حال، كان أصحاب البشرات البيضاء من اخترعوا الحضارة، وقد تعلّم أصحاب البشرات السمراء الذين كانوا متوحّشين منذ البداية ونال بعضهم شرف وجدارة العبوديّة شيئاً من الحضارة في هذه المدرسة المجانيّة. يتّضح إذاً أنّه كان هناك فرقٌ بين البيض والسّود في أمريكا ولا زال هذا الاختلاف حاضراً، هو أمرٌ منطقيّ، وخلافاً لما يدّعيه البعض، لا علاقة له بالتمييز العرقي؛ ولهذا السّبب، عندما تزوّج أمريكيٌّ أبيض البشرة ويُدعى هوغ ديفيس بسيّدة سمراء البشرة، حكمت عليه محكمة فيرجينيا بالجلد بالسّياط بسبب تنجيسه لجسده عبر الزواج بسيّدة سمراء اللون.[3] حقيقة الأمر هي أنّ أمثال السيّد ديفيس لم يكونوا ملتفتين إلى هذا الفارق الطبيعي بين البيض والسّود؛ حسناً، ما هو علاج مثل هذه الغفلة؟ ليس سوى الضّرب بالسّوط، وبقوّة أيضاً!

لحسن الحظّ أنّ غالبيّة الشعب الأمريكي لم يكونوا يملكون أفكاراً غير حضاريّة كما كان السيّد ديفيس هذا، وكانوا يتبعون عقولهم بدل الانحياز إلى مشاعرهم! أهميّة التمييز بين البيض والسّود كانت بديهيّة لدرجة أنّ أغلب الكنائس والآباء الروحيّين في أمريكا كانوا يؤيّدونها أيضاً، وكانوا يعتبرون أنّ العبوديّة والعمل والجلد إنّما هو تقديرٌ إلهيّ لذوي البشرات السمراء وكانوا يذكّرون خراف الله السّوداء (هذا هو الاسم اختاره الآباء الروحيّون للعبيد السّود الذين كانوا يقطنون أمريكا) بأنّ الله قد خلقهم لكي يكونوا بخدمة سادتهم من ذوي البشرات البيضاء، وأنّ الله لو رغب، لكان خلقهم ببشرة بيضاء ولجعلهم أناساً متحضّرين! ونفس أنّهم سود وافريقيّون وعديمو الحضارة، يدلّ على أنّهم من الدّرجة الثانية.

على أيّ حال، كان أمام الأمريكيّين طريقٌ طويل وشاقّ حتّى يتمكّنوا من إقناع السّود بكونهم من «الدّرجة الثّانية». هذا في الوقت الذي لم تكن لتستوعب فيه العقول الصغيرة بشكل عامّ للسود هذا المفهوم، وكانوا يفكّرون بشكل طفولي بأنّهم وبسبب امتلاكهم الأرجل والأيدي والعيون مثلهم مثل ذوي البشرات البيضاء، فهذا يثبت أنّهم بشرٌ أيضاً ويجب أن يتمتّعوا بكافّة الحقوق الإنسانيّة – شأنهم شأن ذوي البشرات البيضاء -. هذه النّقطة إنّما تشير إلى أنّ الأساتذة من ذوي البشرات البيضاء عجزوا عن إيصال مفهوم حقوق الإنسان بشكل عميق إلى ذوي البشرات السمراء. لأنّ ذوي البشرات السمراء لو تعرّفوا على حقوق الإنسان مثل الهنود الحُمر، لكانوا ذهبوا في حال سبيلهم، وما كانوا سيثيرون أعمال الشّغب من أجل التساوي مع ذوي البشرات البيضاء.

ابتكر عدد من العلماء الأمريكيّين الأعضاء في مجموعة كوك لوكس كلان[4] بعض الأساليب الإبداعيّة لترسيخ الفارق الجذريّ بين البيض والسّود في أذهان ذوي البشرات السمراء. بدأت هذه المجموعة نشاطها بعد إلغاء العبوديّة وكان أعضاؤها متواضعين لدرجة أنّهم كانوا أثناء أنشطتهم التعليميّة يغطّون وجوههم بالنُّقب البيضاء لكي لا يشعر أحدٌ بالخجل أمام الخدمات التي يقدّمونها. من أساليبهم هذه، كانت اللينشينج[5]. ووفق هذا الأسلوب، كان أعضاء المجموعة يذهبون فجأة ودون مقدّمات إلى أحد العبيد السّود المعتقدين بالمساواة بين البيض والسّود لكي يفاجؤوه. ثمّ كانوا يرشّون عليه من أعلى رأسه حتى أخمص قدميه مادة البتومين ويبادرون بعدها إلى حرقه! كان لهذا الأسلوب فائدتان: الأولى هي أنّ سائر السّود كانوا يعتبرون ويخرجون من رؤوسهم أيّ فكرة ذات صلة وخطيرة بشأن المساواة بين البيض والسّود، والثانية هي أنّ الرّجل الأسود المحروق كان يُخرج من رأسه الأفكار المعادية للحضارة كفكرة المساواة بين البيض والسّود حتّى الأبد!

طبعاً، كان من الممكن وفق تشخيص أعضاء المجموعة أن يتمّ الحرق بشكل جماعيّ أيضاً. على سبيل المثال، في شهر أيار عام 1866، قام عدد من أعضاء كوك لوكس كلان – فرع ولاية تنسي في ممفيس – بالهجوم على حيّ تابع لذوي البشرات السّمراء، وأحرقوا 90 بيتاً و4 كنائس وأقدموا على حرق 48 رجلاً من السّود وتمّ تخفيض عقوبة 5 نساء من السّود أيضاً، والاكتفاء بالاعتداء عليهنّ.[6] كلّ هذا إنّما يدلّ على الرّحمة والرأفة في قلوب أعضاء هذه المجموعة حيال النساء، وكان الهدف من ذلك أن يتعلّم السّود هذه السلوكيّات منهم ويعاملوا نساءهم بعطفٍ ورحمة!

في أنحاء أمريكا، خضع الآلاف من السّود لتدريبات هذه المجموعة وتمّ لفت أنظارهم بشأن حقيقة عدم تساوي السود مع البيض بشكل جيّد. لكن للأسف، فإنّ سائر ذوي البشرات السمراء الذي لم يحالفهم الحظّ ولم يتمّ «حرقهم بالبتومين» أو «إعدامهم»، لم يقدروا على نسيان فكرة المساواة المنحطّة هذه، وكانت النتيجة أنّ هذه الأفكار غير المحبّذة استمرّت وتواصلت. تكتيك إعدام السّود الذين يعتقدون بالمساواة كان من بين أكثر أنواع الأساليب التعليميّة تشويقاً التي انتهجتها مجموعة كوك لوكس كلان. فوفق هذا الأسلوب، كان يتمّ انتقاء السّود ومن ثمّ يُبادر إلى تعليقهم بواسطة حبل معلّق بإحدى الأشجار أو بسقف منزلهم بحيث تكون المسافة بين أصابع أقدامهم والأرض بضعة ميليمترات فقط! (وكان يتمّ ربط أيديهم من الخلف أيضاً)، هذا الأسلوب كان يكفل مئة بالمئة محو الأفكار الخاطئة من قلوب وأعماق السّود! (لأنّ السّود المعلّقين كانوا يحاولون بشكل مضحك الوقوف على رؤوس أقدامهم ليتجنّبوا الاختناق، وكان الموت يأتيهم عندما كانوا يشعرون بالتّعب!)

لحسن الحظّ، أدّى إصرار الكثير من الأمريكيّين البيض إلى أن تترسّخ قضيّة «الاختلاف العرقي» كرؤية حضارية! على سبيل المثال، قال أحد الطلاب الجامعيّين السّود خلال فترة الحرب العالميّة الثانيّة بشأن الاختلافات بين العرقين في أمريكا ما يلي: «ينادوننا في الجيش بالأسود الأحمق، وفي القوة البحريّة تتمّ الاستفادة من السّود فقط للعمل في المطابخ. يفضّل مديرو الأعمال والاتحادات العمّاليّة أيضاً عدم الاستفادة من السّود. جلدنا وتعذيبنا وحرقنا مستمرّ. نحن محرومون من الحقوق المدنيّة ويُطلق علينا اسم «العبد الأسود».»[7]

طبعاً، لم تكن لدى هذا الطالب الجامعيّ الأسود القدرة على استيعاب هذه النقطة بأنّه لطالما كان هناك وما زال تقسيم لكلّ شيء، فهناك «الدرجة الأولى» المرغوبة أكثر من «الدرجة الثانية»، ومن الطبيعي أن يُصنّف البيض على أنّهم من «الدّرجة الأولى» ويُصنّف السّود على أنهم من «الدّرجة الثانية». طبعاً، كان الجيش الأمريكيّ قد أدرك هذا الأمر جيّداً. ولهذا السبب، عندما كان يتمّ في الحرب العالميّة الثانية نقل القوات من أمريكا إلى أوروبا، كان الجنود السّود يجلسون في الطبقات السّفلى من السّفن والتي كانت تفتقد إلى النوافذ والتهوئة وكانت قريبة من غرفة المحرّك، وكان يتمّ إسكان الجنود البيض في الطبقات العلويّة وكانوا يتمتّعون فيها بالنور والهواء الطلق. كان هذا الأسلوب في التعامل يحيي في الأذهان ذكريات الأجداد السّود الذين قدموا من أفريقيا ويُذكّر الجنود السّود بمن كانوا وأين كانوا وإلى المكانة التي اكتسبوها بفضل ألطاف البيض!

كانت القوات الجويّة الأمريكيّة وفيّة قدر الإمكان لهذا الأصل الحضاري. على سبيل المثال، كان أحد قادة هذه القوات يؤكّد على أن توظّف القوات الجويّة الأمريكيّة السود كحرّاس أو عاملي نظافة أو طهاة فقط، وأن لا يتمّ توظيفهم في الوظائف التخصصيّة حتّى وإن كانوا قد تعلّموا كيفيّة صناعة الطائرات وكانوا مهرة في عملهم.[8]

كما تعلمون، فإنّ كلّ الأجهزة ومن بينها الصّليب الأحمر في بلد متحضّر مثل أمريكا، حسّاسة بشكل كبير تجاه الشؤون الحضاريّة؛ ولهذا السّبب كان الصّليب الأحمر في أمريكا يفصل بين الدماء المتبرّع بها من قبل ذوي البشرات البيضاء وذوي البشرات السمراء، وكان يستخدم دماء البيض فقط عند حقنها في أجساد البيض. وسط هذه الأجواء، حاول أحد الأطباء من ذوي البشرات السمراء والذي كان قد ابتكر أسلوب تخزين الدم (بنك الدم)، أن يقلب الموازين الحاكمة ويُنهي عمليّة الفصل بين الدماء المتبرّع بها من قبل البيض والسّود. كان يدّعي أن لا وجود لأيّ فرق بين دماء مختلف الأعراق من الناحية العلميّة! وبالطّبع، لقد كان مخطئاً، ولذلك تمّ طرده من عمله لكي لا يطلق مثل هذه الادّعاءات ويمارس مثل هذه الأخطاء. [9]

خلاصة الأمر أنّ هذا الأساس الحضاري بقي راسخاً بهمّة العديد من الناس والمسؤولين الأمريكيّين، ولهذا السّبب، باتت أعداد المعتقلين السّود في السّجون الأمريكيّة تبلغ ثلاث أضعاف عدد السّجناء البيض، وفي كلّ 24 ساعة يتمّ قتل 28 من ذوي البشرات السّمراء الأمريكيّين عبر إطلاق الرّصاص. طبعاً، أثبت السّود في أمريكا أيضاً بأنّ جلودهم أكثر ضخامة ممّا يعتقد الجميع، وأنّهم لا يقدرون على استيعاب وجود فرق بين السّود والبيض. لذلك كانوا يثيرون أعمال الشغب كلّ فترة ويهدّدون الحضارة الأمريكيّة، وكانت الشّرطة الأمريكيّة تُجبر خلافاً لرغبتها على أن تتمنّى عليهم الكفّ عن إثارة أعمال الشغب والعودة إلى منازلهم! ووسط أعمال الشغب هذه كان البيض الأمريكيّون البؤساء يتمنّون بأن يا ليت أجدادنا لم يفكّروا بنشر الحضارة في أوساط السود في أفريقيا!


[1] Abraham Linclon (1809 – 1856): رئيس الولايات المتّحدة الأمريكيّة السادس عشر والذي حكم البلاد منذ 1861 حتى تاريخ اغتياله في عام 1865.

[2] النّصف المستور من أمريكا، شهريار زرشناس، ص 53.

[3] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 47.

[4] Ku Klux Klan: حركة اجتماعيّة عنصريّة في أمريكا نشأت لمحاربة ذوي البشرة السّمراء.

[5] Lynching

[6] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 270.

[7] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 553.

[8] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 548.

[9] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 548.

المصدر
كتاب تاريخ أمريكا المستطاب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟