مواضيع

العبيد السّود المعلّقون بالحضارة

قيل منذ القدم أنّ كلّ من يجلس في منصب أعلى، يواجه قدراً أكبر من المشاكل! وقد باتت هذه الآن حكاية الأمريكيّين! فبقدر ما يكون الشّعب أكبر وأكثر حضارة، تكون مشاكله أكثر وأكبر! لم يكن الشعب الأمريكيّ العظيم قد وُلد بعد، حين اضطرّ لأن يواجه مشكلة تتمثّل في تحويل الهنود الحُمر المتوحّشين إلى بشر، وبالطّبع، بلغت هذه المشكلة خواتيمها بخيرٍ وعافية بعد إصلاح الهنود الحُمر وجعلهم أناساً متحضّرين.

كانت أمريكا لا تزال تُعاني من مشاكل الهنود الحُمر حين واجهت مشكلة جديدة، أصحاب البشرات السمراء! وللصدفة، كانوا هم أيضاً شأنهم شأن الهنود الحُمر متوحّشين وغير متحضّرين، وكانت عمليّة جعلهم بشراً معضلة جديدة استطاع الأمريكيّون عبر التفوّق عليها إثبات عظمتهم وتحضّرهم.

قد تتساءلون، لماذا اختلق الأمريكيّون كلّ هذه المشاكل لأنفسهم؟ والجواب هو أنّ أمريكا كانت تستشعر منذ البداية وجود رسالة تاريخيّة عظيمة على عاتقها، وهي تعريف العالم -خاصّة الشعوب والمجتمعات المتوحّشة- على الحضارة، الحريّة، حقوق الإنسان، الديمقراطية والكثير من الأمور الأخرى الجيّدة والمفيدة – مثل الهمبرغر، المشروبات الغازيّة، القنبلة النوويّة، المصارعة الحرّة و… -. طبعاً، أنتم لا تتوقّعون أبداً أن يقصّر الأمريكيّون في هذه المهمّة الخطيرة والمسؤوليّة العظيمة تجاه البشريّة والتاريخ. خلاصة الأمر، ترويض العبيد السّود بدأ منذ علم الأمريكيّون – وقبلهم أجدادهم الأوروبيّين – بوجود ملايين الكائنات الافريقيّة السوداء والوحشيّة في افريقيا.

هل يُمكن برأيكم اعتبار الكائنات التي لا تحمل البنادق، ولا تملك المدافع، ولا تملك قوّة مواجهة الأوروبيّين والأمريكيّين وليست قادرة على منع أسرها واستعبادها، في عداد البشر؟ تحويل ذوي البشرات السمراء إلى بشر شمل عدّة مراحل وتمّ بتخطيط علمي.

المرحلة الأولى: الغربلة

المرحلة الأولى هي عبارة عن التعرّف على السّود واستقطاب السّود الذين كان يُمكن توقّع امتلاكهم إمكانيّة وأهليّة التحوّل إلى بشر! كانت هذه المرحلة تُنجز بواسطة «صائدي العبيد». صائدو العبيد كانوا أوروبيّين ضحّوا بأنفسهم وألقوا بها وسط مصاعب العيش في أفريقيا المتوحّشة، وكانوا يجوبون الغابات في الليل والنهار ويقطعون صحاريها ويتعرّفون على السّود الذين كانت ملامح وجوههم تشير إلى إمكانيّة أن يصلحوا ويصبحوا بشراً، ثمّ يستقطبونهم ويرشدونهم عبر الاستعانة بالأغلال والسياط باتجاه السواحل الغربيّة لأفريقيا. سبب استخدام الأغلال كان أنّ ذوي البشرات السوداء لم يكونوا يفهمون لغة البشر وبالتالي، كان متعذّراً إرشادهم إلى المسار المؤدّي إلى سواحل غرب أفريقيا. فكان من الضروري أن يتمّ تقييدهم جميعاً بالأغلال وأن يقوم رجلٌ أوروبي بإمساك هذه الأغلال وسوقهم باتجاه الساحل! والسياط كان أداة تسريع وتنظيم سرعة قافلة السّود!

ومن أجل فهم عمق جهود ومساعي صائدي العبيد، يكفي أن نعلم أنّه طوال 4 قرون، تمّ اصطياد حوالي الخمسين مليوناً من السّود وتوجيههم نحو السواحل الغربيّة للقارّة الإفريقيّة![1]

المرحلة الثانية: اكتشاف المواهب

المرحلة الثانية من هذا المشروع، تمثّلت في اكتشاف مواهب ذوي البشرات السّمراء. يكتب أحد الأوروبيّين ممّن شهدوا هذه المرحلة في وصفها ما يلي: «عندما كان أصحاب البشرات السمراء الذين تمّ اصطيادهم يصلون إلى سواحل غرب إفريقيا، كان يتمّ تجريدهم جميعهم – رجالاً ونساءً – من ملابسهم وفحص أجسادهم تحسّباً لوجود عيب أو نقص فيها. ثمّ كانوا يضعون على صدور ذوي البشرات السمراء السالمين أداة حديديّة محمّاة في النّار (وهي في واقع الأمر كانت علامة للشركات والأشخاص الذين يبيعون العبيد) لكي يتّضح لمن تعود ملكيّة هذا العبد الأسود. وفي النهاية، كان يتمّ نقل ذوي البشرات السمراء الذين يحملون علامات الشركات إلى منطقة خاصّة بحمل العبيد ونقلهم، إلى أن يحين موعد نقلهم.» [2]

المرحلة الثالثة: نقل المواهب

لكنّ المرحلة الثالثة من هذا المشروع، تتضمّن تفاصيل تربويّة دقيقة كثيرة لأصحاب البشرات السمراء – الذين حازوا مكانة العبوديّة وسوف نذكرهم بهذا الاسم من الآن فصاعداً -. كثيراً ما كان يحدث في هذه المرحلة بأن تنفصل الأم عن ابنها أو زوجها أو … أي أنّ أحدهم كانت لديه موهبة التحوّل إلى بشري وتلقّى بصدره حرارة العبوديّة وبات مستعدّاً لأن يتمّ نقله، والآخر كانت تتمّ إعادته كالبضائع الفاسدة ويُتخلّى عنه بسبب فقدانه للموهبة الضروريّة! حسناً، كان أصحاب البشرات السّمراء ولعدم إحاطتهم بهذه الأمور وعدم معرفتهم بمقولات مهمّة مثل الموهبة و …. يتصرّفون في مثل هذه الحالات بأساليب غير حضاريّة مثل البكاء والنّواح والإغماء والضعف! وذلك لحجج واهية من قبيل أنّ لقاءهم سيتأخّر إلى حين يحين موعد يوم القيامة وأنّهم لن يرون بعضهم وسوف يشتاقون لبعضهم البعض و ….

لكنّ الأوروبيّين والأمريكيّين المتحضّرين والمتقدّمين كانوا لا يعيرون أيّ اهتمامٍ لهذه المشاعر التافهة والمعيبة، ويركّزون كلّ اهتمامهم وتفكيرهم على تحويل العبيد ذوي البشرات السّمراء إلى بشر، ولم يكونوا يسمحون لمثل هذه المشاعر بأن تحول دون نشر الحضارة والتقدّم بين ذوي البشرات السّمراء. الأمريكيّون صانعو العبيد -الذين كانوا يصنعون من ذوي البشرات السّمراء المتوحّشين، عبيداً يعرفون ألفباء الحضارة – كانوا يحاولون – وبسبب ضيق الوقت – استغلال كلّ الفرص من أجل تعليم العبيد.

السيد باربوت نفسه الذي ذكرناه بالخير سابقاً قال حول هذا الأمر: «كانوا يجمعون العبيد ويضعونهم في مستودعات السّفن الخاصّة بنقل ذوي البشرات السّمراء. كانوا يضعونهم داخل طبقات يبلغ ارتفاع كلّ منها خمسين سانتي متر فقط وكان يتمّ غلّ أيدي العبد وإجلاسه في مكان ضيّق أشبه بالتابوت، ولم يكن يقدر على التحرّك من مكانه أو أن ينام على جنبه، وكان عادة ما يتمّ غلّ أيدي العبيد ورقابهم وتثبيت الأغلال بأرض المستودع، ولأنّ الأغلال لم تكن تُفكّ في اليوم الواحد أكثر من مرّة واحدة، كان المستودع يمتلأ عادة ببول وغائط العبيد. كان التعفّن الناجم عن الفضلات البشريّة – وسط الأجواء المظلمة والرّطبة لمستودعات السّفن الخشبيّة – تُنشئ أجواء خانقة وكان العديد من العبيد يُصابون لهذا السّبب بالموت أو الجنون، كما أنّ بعضهم كان يقوم خلال ساعات التفسّح فوق سطح السفينة بإلقاء نفسه في المحيط لكي ينجو بنفسه من الموت التدريجي ويخلّصها من العودة إلى المستودعات.»[3]

أنتم ملتفتون إلى أنّ هذه الأحداث والوقائع ناجمة عن نفس الضغوط التي أسلفنا الحديث عنها! عندما يكون من المقرّر أن يتمّ حمل أكبر عدد من العبيد إلى أمريكا على متن سفينة، فإنّ أفضل أسلوبٍ هو النقل بالأقفاص أو بما يشبه التوابيت، وطبعاً، كان العبيد خلال الطريق يتعرّفون حقّ المعرفة على مفاهيم من قبيل النظام، الإنتاجيّة، قيمة الهواء الطّلق والأهمّ من كلّ شيء هو الحريّة! هؤلاء العبيد كانوا يُجبرون على أن يستلقوا على المدى الساعات الأربع وعشرين في أماكنهم وأن لا يتقلّبوا عبثاً يميناً ويساراً ويتعلّموا القيام بكلّ ما يحتاجونه من قبيل دخول الحمام، تناول الطعام والاستجمام في الهواء الطلق في غضون 20 إلى 30 دقيقة، وهذا إنّما كان يؤدّي إلى أن يدركوا قيمة الوقت ويتعلّموا كيفيّة الالتزام بالنظام أيضاً.

ولو أنّ أحد السّود بقيَ يتجوّل في غابات أفريقيا وأدغالها حرّاً، كيف كان يقدر على التعرّف على هذه المفاهيم؟ الأذكياء من العبيد هم من كانوا يتعلّمون بفضل أسلوب نقلهم مفاهيم معقّدة من قبيل الحدّ الأقصى من الإنتاجيّة وأكبر قدر من كثافة الأرباح. وفي حال لم يتمكّنوا من التعرّف على هذه المفاهيم، فإنّ ذلك كان يرجع إلى كونهم أغبياء! فالأمريكيّون لم يقصّروا أبداً في تعليمهم – من النواحي العمليّة والتجريبيّة وإجراء الورش – ولم يوفّروا جهداً في سبيل ذلك!

التعرّف على ترشيد الاستهلاك، الصّمود وسط الظروف الصّعبة والعلوم الطبيّة، كان من بين الفوائد الأخرى لهذه الرحلة التعليميّة للعبيد: «كانت السُّفن تمتلئ خلال هذه الرّحلات بأنواع الأمراض مثل دوار البحر، ارتفاع الحرارة والإصابة بالرّجفة، الإسهال، صداع الرأس، الالتهابات، الإمساك المعوي، الخراج المتفعن، تعفّن اللثة وأمراضٍ من هذا القبيل. وكان سبب هذا الأمر يعود إلى النّقص في الطعام وفساد الأطعمة وكون الأطعمة مملّحة ويُضاف إلى ذلك طبعاً النّقص في توفّر مياه الشّرب وتلوّث المياه وتعفّنها. في يومٍ من الأيام واجهنا إعصاراً قويّاً وأصيبت في الوقت نفسها سيّدة من العبيد التي كانت حاملاً بآلام الولادة ولأنه لم تكن هناك أيّ إمكانيّة لمساعدتها، ارتأى قبطان السّفينة أنّ المصلحة تكمن في إلقاء السيّدة تعيسة الحظّ في البحر وإراحتها! »[4] أنتم ملتفتون إلى أنّ هذه الحالة الأخيرة كانت من بين المساعدات التي كانت تُقدّم للنساء الحوامل، وقد كان العبيد يتعرّفون عليها للمرّة الأولى في حياتهم، وذلك بشكل مجّانيّ أيضاً.

المرحلة الثالثة لمشروع «نشر الحضارة بين ذوي البشرات السمراء الإفريقيّين بواسطة مدرسة العبوديّة» انتهت عندما وطأت أقدام العبيد أمريكا. أنتم تعلمون بأنّ نفس «أن تطأ قدم أحد العبيد أمريكا» كان يحتاج كمّاً كبيراً من الموهبة والجدارة، لأنّ العديد من السّود لم يكونوا يملكون شرف نيل هذه المفخرة! على سبيل المثال، من بين 106 عبيد تمّ نقلهم عام 1741 على متن سفينة سي فلاور، كان 60 عبداً منهم فقط يملكون جدارة رؤية أمريكا، لأنّ 46 منهم لقوا حتفهم بسبب عدم امتلاكهم لهذه الجدارة وعدم تحمّلهم الجوع.

طبعاً، أولئك الأشخاص الستّون الذين بقوا أحياء أيضاً، بقوا أحياءً لأنّهم تناولوا اللحم والكباب![5] لا يهمّ كثيراً كون هذه اللحوم لحوم أجساد رفاقهم من ذوي البشرات السّمراء. فالعبد يجب أن يطيع أوامر مالكه حتّى ينجح في أن يصبح بشريّاً، خاصّة عندما يكون مالكه مهتمّاً برفع جوعه!

المرحلة الرّابعة: تقسيم المواهب

لكنّ المرحلة الرّابعة من المشروع، كانت تبدأ بتعرية أجساد العبيد مرّة أخرى. وهل كان يمكن أن يتمّ إلباسهم ثياب الحضارة فوق ثيابهم الافريقيّة البالية والممزّقة؟! كان بائعو العبيد يسوقون العبيد الجدد إلى متاجر ومراكز إنتاج وتوزيع العبيد في مختلف أماكن الولايات المتّحدة الأمريكيّة، ويعرضونهم للبيع وهم بأجسادٍ عارية بالكامل. فعلى كلّ حال، كان من حقّ من يرغبون في شرائهم أن يروا البضاعة التي سينفقون أموالهم من أجلها!

وفي هذه المرحلة أيضاً، كان من المحتمل أن يتمّ فصل الأمّ عن ولدها، أو أن تحدث أمورٌ من هذا القبيل، وقد تطرّقنا إليها وشرحناها مسبقاً. كان أهمّ تطوّر في حياة العبد الأسود يحدث في هذه المرحلة. فقد كانت تسنح له الفرصة لأن يعمل بجانب عائلة متحضّرة ويتلقّى السياط إلى أن يصبح بشراً. وفق هذا القانون، يُعتبر العبد جزءاً من أملاك صاحبه ومن حقّ هذا المالك أن يتحكّم بقرار حياة وموت عبده وسائر الأمور الأخرى المرتبطة به. أي أنّ صاحب العبد كان لديه الحقّ بإنهاء حياة عبده، أو جلده بالسياط وتأديبه ودفعه للعمل كحقّه في قطع رأس إوزّته، أو جلد حماره أو دفع حصانه للجري والعمل. تذكرون أنّنا ذكرنا في بداية الكتاب أسباب كون أصحاب البشرات السّمراء في عداد الحيوانات! ومشرّعو القوانين في أمريكا وضعوا مثل هذا القانون لهذا السبب المنطقي – أي كون ذوي البشرات السمراء من الحيوانات – ونفّذوه على مدى أكثر من 3 قرون.

المرحلة الخامسة: العبوديّة في مدرسة الحضارة

كلّ المراحل الأربعة الأولى كانت مقدّمة لتحقيق المرحلة الخامسة! أي أنّ صائدي العبيد والسماسرة والمتاجرين بالعبيد و … كلّهم كانوا يحاولون إيصال العبيد السّود إلى المستهلكين لكي يتمّ استهلاكهم. كان لتجارة العبيد عدّة فوائد أساسيّة: الفائدة الأولى تمثّلت في أنّ العبيد كانوا الأدوات الأساسيّة لبناء الحضارة الأمريكيّة، ولم تكن هذه الحضارة لتُبنى لولا وجودهم. ثانياً، هؤلاء العبيد كانوا دون أن يعلموا من بناة الحضارة الأمريكيّة أيضاً، ومن الطبيعي أنّهم خرجوا في هذا المسار بشكل تدريجي من حالة التوحّش التي كانت لديهم وارتقوا من كونهم عبيداً سوداً إلى مرتبة المدنيّين من الدرجة الثالثة، وفي بعض الأحيان أيضاً، إلى مدنيّين من الدرجة الثانية.

على سبيل المثال، الأمريكيّون الذين يسكنون في الولايات الجنوبيّة كانوا يحاولون منذ سنوات زراعة الأراضي الشاسعة المجاورة لهم، لكنّهم كانوا يواجهون العوائق، إلى أن ظهر العبيد! ثمّ وبفضل ذكاء الأمريكيّين البيض وقدرتهم على الإدارة، وأيضاً بفضل جهود الأبقار والعبيد السّود، زُرعت هذه الأراضي الموروثة من الهنود الحُمر المنقرضين والتي بلغت مساحتها آلاف الهكتارات، بالذرة وقصب السكّر! لم يكن العبيد السّود يبذلون جهداً يُذكر، كانوا يحرثون الأرض فقط، بمساعدة الأبقار طبعاً! ثمّ ينثرون البذور، يسقون الأرض وفي نهاية المطاف، يحصدون المنتجات ويأخذونها إلى المستودعات ويسلّمونها للسادة البيض؛ طبعاً كان من الضّروري أن يُجلدوا بالسياط في كافّة المراحل حتى يعملوا بدقّة وبشكل جيّد ومنظّم. وأنتم تدركون جيّداً أنّ الحضارة لا تنشأ بشكل جيّد ومنظّم دون أن يكون العمل دقيقاً!

كان السادة البيض قد ابتكروا أسلوب الجلدِ بالسياط من أجل بثّ روحيّة الدقّة والتنظيم وزيادة السّرعة ورفع مستوى الجودة في عمل العبيد. فأيّ حصانٍ أو حمار يعمل في أيّ مزرعة كان بالإمكان أن يتلقى حسب الضرورة بعض الجلدات أو الضّربات بالعصا، لكنّ العبيد السّود كان لا بدّ أن يتلقّوا يوميّاً مئتي جلدة بالسياط على الأقل، فهذه كانت حصّتهم الإلزاميّة التي لو لم يحظوا بها، لما كانت الأعمال سارت على ما يُرام ولبقيت الحضارة الأمريكيّة ناقصة وفي منتصف طريقها. كان من الممكن أن يتمّ نسيان حصّة العبيد السّود اليوميّة من الطعام – التي كانت حصّة أو اثنتين يوميّاً في بعض الأحيان -، إلّا أنّه كان من المستحيل أن ينسى السادة توزيع حصص الجلد اليوميّة على عبيدهم أو إنقاصها قليلاً والتقصير في منحهم إياها. كان لا بُدّ لكل عبدٍ أن يتلقّى جلداته اليوميّة، وطبعاً، كان محتملاً أن يتلقّى العبيد السّود الذين يعملون أفضل وأكثر من الآخرين نسبة أقلّ من الجلد، كهديّة مقابل جهودهم.

المشاركة في بناء الحضارة – خاصّة عندما تكون الحضارة بعظمة أمريكا – لم يكن أمراً يقدر على القيام به أيّ عبدٍ أسود. لهذا السّبب كان العديد من العبيد يفقدون أرواحهم بسبب فقدانهم للجدارة والقدرة، وكان السّادة يقومون بدفنهم في نفس تلك الأراضي الزراعيّة من أجل زيادة الإنتاجيّة، ولكي تؤدّي أجسادهم عمل السّماد على الأقلّ، وتزيد من خصوبة الأراضي الزراعيّة، ويلعبوا بذلك دوراً – وإن كان محدوداً – في تسامي الحضارة الأمريكيّة.

ولكي تحظوا بصورة واضحة ودقيقة حول حجم الآلام والجهود التي كان السّادة الأمريكيّون يتجرّعونها من أجل تربية العبيد السّود وتحويلهم إلى بشر، يكفي أن تحسبوا كم أنّ جلد 100 إلى 500 عبدٍ في اليوم، وذلك وفق قاعدة الـ 150 إلى 200 جلدة يوميّاً عملٌ شاقّ ومُضنٍ! أي أنّ صاحب المزرعة كان يتوجّب عليه أن يوزّع بشكل يومي حوالي المئة ألف جلدة سياط – بما يتناسب مع سنّ وجنس العبيد وحجم عملهم وجودته – ويحرص على أن لا يبقى عبدٌ واحدٌ جائعاً يريد المزيد من الجلد والتعذيب. بينما كان غالبيّة العبيد – من إناث وذكور – وبأعمار تتفاوت بين 6 إلى 60 سنة يملكون وجوهاً شبيهة ببعضها البعض!

ثمّ بعد إنجاز الأعمال اليوميّة، كان من الضروري أن تُبثّ المعنويّات والنشاط وأجواء التسلية بين العبيد، فتُقام مراسم الرّقص والفرح والطرب والغناء بينهم، وفي حال لم يشارك أحد العبيد في الغناء والرّقص، كان سيتلقّى حصّته الليليّة من الجلد أيضاً![6] بعد كلّ هذا التفصيل، ستكتشفون مدى صعوبة العمل وقسوته على السادة البيض طوال 3 قرون من رعاية العبيد، وكم تكبّدوا من الجهد والعناء من أجل إرساء الحضارة الأمريكيّة.

هذا إضافة إلى أنّ بعض السادة الأمريكيّين المبدعين ابتكروا أساليب أشدّ إجهاداً من أجل تدريب وتحويل العبيد السّود إلى بشر. أساليب من قبيل: إحماء أجساد العبيد بالحديد المحمّى بالنار، إحراقهم بالنيران مباشرة، إلقائهم في طناجر مليئة بالمياه المغليّة و …. كلّ هذه الجهود التي كانوا يبذلونها كانت تؤول إلى أن يكتسب السّود الافريقيّون المتوحّشون وعديمو الفائدة – بعد الارتقاء إلى مرتبة العبوديّة- القيمة ويتمّ بيعهم وشراؤهم بمبلغ قد يصل إلى ألف دولار.[7]


[1] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 46.

[2] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 44.

[3] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 45.

[4] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 65.

[5] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 65.

[6] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 230.

[7] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 242.

المصدر
كتاب تاريخ أمريكا المستطاب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟