مواضيع

ترويج الفضائل الأخلاقيّة الأمريكيّة

يعلم الجميع أنّ ترويج صفاتٍ من قبيل العقلانيّة، الوفاء بالعهد، الصّدق و… عملٌ شاقّ. فكيف لو تقرّر أن تعلّم هذه الفضائل الأخلاقيّة لحفنة من السكّان الأصليّين، أي الهنود الحُمر! كان البيض يواجهون خلال سعيهم لتأسيس بلدٍ نموذجي، عامرٍ بالفضائل والأخلاق يُدعى «أمريكا»، آلاف العوائق والمشكلات؛ ومن هذه العوائق، تعليم الأخلاق للهنود الحُمر.

ولكي يتغلّبوا على هذا العائق، استعانوا بأسلوب «تعليم الأخلاق بشكل عمليّ». على سبيل المثال، كانوا يدفعون مئة مسكوكة ذهبيّة لكلّ من يسلّم الجنود الحكوميّين رأس رجلٍ من الهنود الحُمر، بينما كانت مكافأة قطع رأس سيّدة أو طفل من الهنود الحُمر وتسليمها لهؤلاء الجنود تساوي فقط مبلغ خمسين مسكوكة ذهبيّة![1] هذا الأسلوب في تحديد القيمة أفهم الجميع، والهنود الحُمر بشكل خاصّ، كم أنّ قيمة الرّجال أكبر، وعليه، يجب أن يحظى الآباء باحترامٍ أكبر! من ناحية أخرى أدّى تحديد ثمنٍ أقلّ لرؤوس الأطفال والنساء إلى أن يرغب عددٌ أقلّ من الأشخاص بقطع رؤوس الأطفال والنساء من الهنود الحُمر، وكان هذا الأمر يؤدّي إلى تعليم العطف والرأفة والاهتمام بالمستضعفين في العالم الجديد -أي أمريكا-.

آندريه جاكسون[2] -رئيس الولايات المتحدة الأمريكيّة بين عامي 1829 و 1837- كان من بين الشخصيات التي تجرّعت مرارات كثيرة من أجل تحويل السكّان الأصليّين إلى بشر وبذل جهوداً مضنية وكبيرة. لقد قال في مكان ما: «لو أنّنا سلبنا الهنود الحُمر كلّ أراضيهم أيضاً، لكنّا على الحقّ! الحقيقة هي أنّ مجموعة كبيرة من قبائل الهنود الحُمر ومقاتليهم لم تحترم قوّة الولايات المتّحدة. هم ظنّوا أنّنا شعبٌ صغير وعديم الأهميّة. التهم الجنود الحُمر من لحوم الثور الأمريكيّ (البوفالو) لدرجة أنّهم أصبحوا سماناً وكان ينبغي تأديبهم وجلدهم. نحن نبادر في مثل هذه الحالات إلى سفك دماء أعدائنا حتّى يعودوا إلى رشدهم.»[3]

أينما بحثتم في أرجاء العالم، لن تعثروا على أسلوب أفضل من هذا الأسلوب من أجل نشر التعقّل، ولتثقوا أنّ السياط أداة تعليميّة مهمّة من أجل ترويج ونشر الفكر والتعقّل! خاصّة عندما تكونون تابعين لشعب متحضّر ويكون من يواجهونكم سكّان أصليّون في مكانٍ ما، إلا أنّهم متوحّشون وبعيدون عن أيّ منطقٍ حضاري. طبعاً، أهمّ مؤشّر على فقدان الهنود الحُمر للعقل كان أنّهم استصغروا قوّة عظمى مثل أمريكا، فما هو الحل برأيكم مع جنونٍ كهذا سوى الجلد والموت؟!

من بين الفضائل الأخلاقية المُغفلة بين الهنود الحُمر والسكّان الأصليّين في أمريكا، التي تمّ تسليط الضّوء عليها بفضل جهود الجنرالات ورجال السياسة الأمريكيّين في الأرض المكتشفة حديثاً، هي قضيّة الالتزام بالاتفاق والوفاء بالعهد. فرجال السياسة الأمريكيّين وقّعوا طول القرن التاسع عشر اتفاقيات عديدة مع الهنود الحُمر. كان الهدف من هذه الخطوة تعريف الهنود الحُمر على ظاهرة تُدعى الاتفاقيّة وكان ذلك انطلاقة نحو توقيع المعاهدات، وطبعاً، كان الهنود الحُمر وبسبب كونهم أميّين، يكتفون بوضع بصمات أصابعهم!

في هذه الاتفاقيات، كان الأمريكيّون يعرّفون الهنود الحُمر على مفاهيم معقّدة من قبيل الاتفاق، المعاهدة، الوفاء بالعهد، الالتزام بالوعد والاتفاق و … وفي المقابل كانوا يحصلون على بعض آلاف الهكتارات من الأراضي التي تملكها قبائل الهنود الحُمر كمقابل لجهودهم. طبعاً، تكرّرت هذه القضيّة مرّات عديدة، والسّبب كان قدرة الهنود الحُمر المتدنّية على الاستيعاب! أي أنّ الأمريكيّين كانوا في كلّ مرّة يوقّعون مع الهنود الحُمر اتفاقيّة تقضي بالتخلّي عن الأرض مقابل السّلام، ثمّ كانوا يستولون على أراضي الهنود الحُمر. لكن ولكون أمريكا مكوّنة من شعب كبير، كانت تشعر مرّة أخرى بضيق المكان، فتبادر مرّة أخرى إلى توقيع اتفاق جديد والسيطرة على أراضٍ جديدة. لو أنّ الهنود الحُمر كانوا يتمتّعون بنسبة ذكاء أعلى، كانوا سيكتشفون عمق القضيّة منذ البداية! لكنّ تخلّفهم العقلي جعلهم يظنّون أنّ العهد والاتفاق شيءٌ ينبغي الالتزام به؛ ومن الطّبيعي أن الأمريكيّين أُجبروا مرّات ومرّات على نكث العهود والدّوس بأقدامهم على اتفاقياتهم مع الهنود الحُمر لكي يدحضوا هذا التصوّر الخرافي لديهم.

ولكي تكتشفوا عظمة الهمّة التي كان يتمتّع بها الأمريكيّون في سعيهم لترويج الفضائل الأخلاقيّة وبديهيّات من قبيل الالتزام بالعهد والاتفاق، يكفي أن تعلموا أنّ الأمريكيّين وقّعوا أكثر من 400 معاهدة مع قبائل الهنود الحُمر[4] ولم يحدث في معاهدة واحدة حتّى أن بدر عنهم سلوك «الوفاء بالعهد» الحضاري، وتمّ نقضها كلّها بفضل همّة الأمريكيّين. وفي نهاية المطاف، استوعب الهنود الحُمر وعلموا كيف ينبغي لأيّ شعبٍ حضاري أن يطبّق التزاماته حيال العهود والاتفاقيات.

عام 1823، ألقى الجيش الأمريكيّ القبض على الصّقر الأسود[5] الذي كان من رؤساء قبائل الهنود الحُمر ومن أكسل تلامذة مدرسة تعليم الأخلاق الأمريكيّة (وهو عجز طبعاً في أيّ وقت من الأوقات عن اكتساب درجة النجاح في هذا الصّف). طبعاً، كان قد تمّ قتل أفراد قبيلته قبله، لأنّه وحسب قول أحد ضبّاط الجيش الأمريكيّ «ضاق صدر رئيسنا! كان يحاول إصلاح الهنود الحُمر، لكن ولأنّهم لم يصلحوا قرّر أن يبيدهم من على وجه الأرض! فليمُت الهنود الحُمر إن لم تتوفّر لديهم إمكانيّة الصّلاح.»[6]

هذا السيّد الصّقر الأسود كان قد علّق على قضيّة تعليم الأمريكيّين الهنود الحُمر الفضائل الأخلاقيّة: «الهنديّ الأحمر الذي يكون سيّئاً بقدر الرّجال البيض، لا يستطيع أن يعيش في قبيلتنا. الرّجال البيض معلّمون سيّئون. هم يجلبون معهم كتابات واتفاقيات كاذبة، يبتسمون في وجه الهنود الحُمر لكي يخادعوهم، يصافحون الهنود الحُمر لكي يكسبوا ثقتهم ثمّ يُسكرونهم بالمشروبات الكحوليّة ويُفسدون نساءهم! لقد طلبنا من أصحاب البشرات البيضاء أن يدعونا وشأننا، لكنّهم قاموا دائماً بملاحقتنا وسدّوا أمامنا كلّ الطرق، والتفّوا كالثعابين حول رقابنا، لقد لدغونا بسمّهم. ونحن، أصبحنا مثلهم بشكل تدريجي. كاذبون ومراؤون، كسالى ونفتقد للعفّة، نعِد ولا نلتزم بوعدنا! صحيحٌ أنّ أصحاب البشرات البيضاء لم يقطعوا رؤوسنا، لكنّهم قاموا بما هو أسوء، لقد سمّموا قلوبنا.»[7]

طبعاً، لا بدّ أنّكم مقتنعون بأنّ تحويل الهنديّ الأحمر الذي يبدي رأيه بهذا النّحو حول شعب أمريكا العظيم إلى بشر هو أمرٌ في غاية الصعوبة، وقد يكون مستحيلاً أيضاً؛ ويمكنكم تصوّر كم كان الأمريكيّون مجبرين على استخدام السّيف لإصلاح الهنود الحُمر من أمثال هذا الصّقر الأسود!


[1] النّصف المستور من أمريكا، شهريار زرشناس، طهران، دار نشر صبح، الطبعة الثانية: 2008، ص 19.

[2] Andrew Jackson (1767 – 1845): سابع رؤساء الولايات المتحدة الأمريكيّة من العام 1829 حتى العام 1837.

[3] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 173.

[4] تاريخ أمريكا، هاوارد ين، ص 690.

[5] Black Hawk (1767 – 1838): قائد أحد قبائل الهنود الحُمر المقاتلة في أمريكا.

[6] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 178.

[7] تاريخ أمريكا، هاوارد زين، ص 177.

المصدر
كتاب تاريخ أمريكا المستطاب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟