مواضيع

الأقوال في شرح الحديث

وهي عديدة وتتفاوت في دقتها وقيمتها العملية والتربوية والحضارية واستيفائها للقواعد العامة والخاصة، منها:

القول الأول

إن الحديث الشريف هو من تعليق المحال، أي: إنه يفيد استحالة معرفة النفس؛ لأن معرفة النفس متعلقة بمعرفة الرب ومربوطة بها، ولأن الإحاطة العلمية بالله رب العالمين سبحانه وتعالى مستحيلة، فكذلك معرفة النفس مستحيلة؛ لأن المعلق على مستحيل هو مستحيل، كذلك ويستدل أصحاب هذا القول على استحالة معرفة النفس بقول الله تعالى: <وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إلا قَلِيلًا>[1]، أي: إن الروح بحسب رأي أصحاب هذا القول، هي من الأمور الخفية التي لا يعلم بحقيقتها وكنهها إلا الله سبحانه وتعالى، الذي استئثر بذلك ولم يطلع عليه أحد من خلقه.

وهذا القول في معرفة النفس خارج عما سبقت الإشارة إليه من أن المراد بالمعرفة هي المعرفة الممكنة في حق المخلوقين للأفعال والأسماء والصفات والكمالات الإلهیة، وليست المعرفة بالذات الإلهية، ولا المعرفية المطلقة بالأفعال والأسماء والصفات والكمالات الإلهية، والمستحيل بحسب العقل هي المعرفة بالذات الإلهية والمعرفة المطلقة بالأفعال والأسماء والصفات والكمالات الإلهية، وليست المعرفة الممكنة الضرورية والمفروضة على الإنسان التي لولاها لم يحصل التوجه مطلقاً لله ذي الجلال والإكرام، ولا طاعته ولا عبادته، من الأمور التي تتوقف على المعرفة، بل لا تعد ممكنة أبداً، ولا تعد العبادة توجهاً مقصودة لله ذي الجلال والإكرام وسيراً إليه؛ لأن ذلك يتوقف على المعرفة، وبدون المعرفة يعد أمراً غير ممكناً، فلا تكون للعبادة بدون المعرفة قيمة ولا فائدة فيها البتة.

وبذلك لا تقوم بدون المعرفة الممكنة بالله ذي الجلال والإكرام قائمة لدين إلهي مطلقاً، ولا يوثق بأي معرفة ويطمئن إليها على الإطلاق؛ لأنه لا ثبات لأي معرفة ولا اطمئنان لها في الحقيقة إلا بمعرفة الله سبحانه وتعالى، إذاً بدون المعرفة بالله سبحانه وتعالى تتهدم كل الأبنية التي تقوم عليها المعرفة اليقينية عند الإنسان كما هو واضح في بحث مصادر المعرفة في الفلسفة، قول الإمام الصادق (ع): «لا يدرك مخلوق شيئاً إلا بالله ولا تدرك معرفة الله إلا بالله»[2].

كما يتنافى هذا القول مع الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث الشريفة الكثيرة جداً، ولا حصر لها التي تحث الناس على السعي والاجتهاد والحرص على معرفة النفس ومعرفة الله ذي الجلال والإكرام، مثل قول الله تعالى: <سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ>[3]، وقول الله تعالى: <وَفِي الأرض آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ 20 وَفِي أَنْفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ>[4]، وفي الأحاديث الشريفة، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) أنه قال: «معرفة الله سبحانه أعلى المعارف»[5]، وقوله (ع): «ومن عرف الله كملت معرفته»[6]، وقوله (ع): «وثمرة العلم معرفة الله»[7]، وقوله (ع) في معرفة النفس: «أفضل العقل معرفة الإنسان نفسه، فمن عرف نفسه عقل، ومن جهلها ضل»[8]، وقوله (ع): «لا تجهل نفسك فإن الجاهل بمعرفة نفس جاهل بكل شي»[9]، وقوله (ع): «من لم يعرف نفسه بَعُد عن سبيل النجاة وخبط في الضلال والجهالات»[10]، وهذا الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة تفيد بثلاثة أمور رئيسية في الموضوع، وهي:

  • إن معرفة النفس ممكنة ومطلوبة.
  • إن معرفة النفس لازمة من أجل الهداية والنجاة والسعادة.
  • إن الجهل بمعرفة النفس يترتب عليه حتماً ضلال الإنسان وضياعه وتخبطه وسيره في طريق الفساد والشقاء الكامل والهلاك الفعلي والخسران المبين.

وأما السؤال عن الروح في الآية الكريمة المباركة، فهو سؤال عن الروح الذي هو سبب الحياة، الذي يقوى به الحيوان على كافة الوظائف الحيوية والإرادية، مثل: الحركة والإدراك والإرادة، أهو قديم أم حادث؟ أو هو سؤال عن حقيقة الروح وكنهها؟ فجاء جواب القرآن الكريم في نقاط مختصرة وحاسمة، وهي:

  • إنها حادثة وإنها حصلت بفعل الله وتكوينه، وإنه سبحانه وتعالى أوجدها بأمره الذي هو كلمة الإيجاد، وهي كلمة (كن)، قول الله تعالى: <إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ>[11]، وأمر الله سبحانه وتعالى في كل شيء هو ملكوت ذلك الشيء، والمراد به فعل الله المختص به الذي لاتتوسط فيه الأسباب الطبيعية الظاهرة ولا يتقدر بزمان أو مكان أو نحو ذلك، وهذا يعني: أن الأشياء المخلوقة التي يوجدها الله (عز وجل) هي على نوعين:
  • نوع يوجده الله (عز وجل) عن طريق الأسباب الطبيعية الظاهرة، مثل: خلق الإنسان عن طريق النطفة في رحم المرأة.
  • نوع يوجده الله (عز وجل) بكلمة الإيجاد (كن) فيكون مثل خلق آدم (ع) من طين، وخلق عيسى من غير أب.
  • إن للروح موقعاً من الوجود وخواصٌ وآثارٌ عجيبة بديعة.
  • إن ما عند الإنسان من العلم بالروح هو قليل من كثير، وهو في حجاب عن العلم بحقيقة الروح وكنهها لأنها لیست من جنس المادة.

وقال الفخر الرازي: أن قول الله تعالى: <وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا>[12] فيه استدلال على حدوث الروح؛ لأن النفس تكون عند الولادة خالية تماماً من كل المعارف والعلوم، ثم يحصل فيها العلم تدريجياً، فلا تزال في التغيير من حال إلى حال، وفي التبدل من نقصان إلى كمال، والتغير والتبدل من إمارات الحدوث[13].

القول الثاني

إن معرفة النفس مترتبة على معرفة الرب سبحانه وتعالى باعتبارها أثراً من آثاره، تجلياً من تجلياته، ونوراً من أنواره البهية، فلا تحصل معرفة النفس إلا بمعرفة الرب تبارك وتعالى، فإذا لم تحصل المعرفة بالرب تبارك وتعالى فلا تحصل المعرفة بالنفس، وإذا حصلت المعرفة بالرب تبارك وتعالى حصلت تبعاً لذلك المعرفة بالنفس، وعليه فكل من عرف نفسه فهذا دليل على أنه قد عرف ربه، قول الله تعالى: <وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ>[14]، أي: لا تكونوا من الذين نسوا الله وجهلوا معرفته بصفاته العليا وأسمائه الحسنى وأفعاله وكمالاته التي ترتبط بها صفات الإنسان وأفعاله وكمالاته الاختيارية، مثل: العلم والأعمال الصالحة، والذاتية، مثل: الفقر الذاتي والحاجة إلى الله سبحانه وتعالى في وجوده وحياته وبقائه وصفاته وأفعاله وكمالاته، وذل العبودية في مقابل عز الربوبية، فأنساهم الله (عز وجل) أنفسهم ومصالحهم بالخذلان فلم يعرفوها وضيعوا إنسانيتهم ومنافعهم، وصار أمرهم فرطاً، بتوهم الاستقلال في الوجود والأفعال والصفات والكمالات، فيترتب على ذلك الخروج عن ربقة العبودية وزيها، والوقوع في الغربة عن النفس ووحشتها والدخول إلى متاهة الضياع والانصراف عن كل عمل ينجيهم من العذاب الأليم والهلاك، ويعود عليهم بالصلاح والكمال والخير والسعادة، والسير في طريق العبثية والانشغال بالشهوات الحيوانية والملذات الحسية حتى ينتهي بهم المطاف إلى الشقاء الكامل والهلاك الفعلي والخسران المبين.

والخلاصة: أن الجهل بالله ذي الجلال والإكرام يترتب عليها الجهل بالنفس، والمعرفة بالله ذي الجلال والإكرام يترتب عليها المعرفة بالنفس.

وأساس هذا القول، هو أن المعرفة بالله ذي الجلال والإكرام لا تحتاج إلى غيره، وذلك لكمال ظهوره، قول الله تعالى: <اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرض ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ>[15]، أي: إن الله سبحانه وتعالى أجمل وألطف ما في الوجود، وأنه ظاهر بذاته، مظهر لغيره، مثل: النور الذي لا تحتاج رؤيته لغيره، وتحتاج رؤية غيره إليه، فالله سبحانه وتعالى نور في ذاته، ولا يوجد في الوجود ما هو أظهر وأجمل منه، ويشرق منه النور الذي يستنير به كل شيء، ويظهر من بركات وجوده وفيضه، ولو انقطع عن الأشياء لحظة لتحولت حالاً إلى ظلمات الفناء والعدم، وعليه: فجميع أنوار الوجود تأخذ نورها من نور الله سبحانه وتعالى، وكل مخلوق يستمد من نور الله سبحانه وتعالى بمقدار قابليته واستعداده وارتباطه بالله ذي الجلال والإكرام، وفي دعاء الجوشن الكبير المروي عن الإمام السجاد (ع)، عن أبيه عن جده عن الرسول الأعظم الأكرم (ص): «يا نور النور، يا منور النور، يا خالق النور، يا مدبر النور، يا مقدر النور، يا نور كل نور، يا نور قبل كل نور، يا نور بعد كل نور، يا نور فوق كل نور، يا نور ليس كمثله نور»[16]، وقيل إن ظهور الأشياء بالنور الإلهي هو عين وجودها وصلاحها وكمالها، وظهور الأجسام الكثيفة بالأنوار الحسية هو غير أصل وجودها وكمالها، وهو في غاية الوضوح.

واستدل أصحاب هذا القول على رأيهم بقول الإمام الحسين (ع): « كَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْكَ بِما هُوَ في وُجُودِهِ مُفْتَقِرٌ إلَيْكَ، أيَكُونُ لِغَيْرِكَ مِنَ الظُّهُورِ ما لَيْسَ لَكَ، حَتّى يَكُونَ هُوَ الْمُظْهِرَ لَكَ،
مَتى غِبْتَ حَتّى تَحْتاجَ إلى دَليل يَدُلُّ عَليْكَ، وَمَتى بَعُدْتَ حَتّى تَكُونَ الآثارُ هِيَ الَّتي تُوصِلُ إلَيْكَ، عَمِيَتْ عَيْنٌ لا تَراكَ عَلَيْها رَقيباً، وَخَسِرَتْ صَفْقَةُ عَبْد لَمْ تَجْعَلْ لَهُ مِنْ حُبِّكَ نَصيباً»[17]، وقول الإمام زين العابدين (ع): «بِكَ عَرَفْتُكَ وَاَنْتَ دَلَلْتَني عَلَيْكَ وَدَعَوْتَني اِلَيْكَ، وَلَوْلا اَنْتَ لَمْ اَدْرِ ما اَنْتَ»[18]، وقول الإمام الصادق (ع): «إنَّما عَرَفَ اللّه مَن عَرَفَهُ بِاللّه، فَمَن لَم يَعرِفْهُ بِهِ فلَيسَ يَعرِفُهُ»، وقوله (ع): «وَلَا تُدْرَكُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ إِلَّا بِاللَّه»[19]؟

وهذا القول صحيح في نفسه وتؤيده الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث الشريفة، عن الرسول الأعظم الأكرم (ص) وعن أهل بيته الطيبين الطاهرين (عليهم السلام)، ويمكن استفادته من نص حديث موضوع البحث، ويسمى الطريق المشار إليه فيه للمعرفة بالله سبحانه وتعالى: «طريق اللّم»، وهو الطريق الأكمل في المعرفة، ويقابله طريق الإن، الذي يعني أن النفس هي الطريق إلى معرفة الرب سبحانه وتعالى، أي: أن طريق اللّم يعني السير من الأعلى إلى الأسفل، وطريق الإن يعني السير من الأسفل إلى الأعلى.

وفي الحقيقة: فإن بين المعرفتين، معرفة النفس ومعرفة الرب، تلازم وعلاقة جدلية بمعنى يلزم من معرفة الرب معرفة النفس، ويلزم من معرفة النفس معرفة الرب، وأنه كلما زادت المعرفة بالرب زادت المعرفة بالنفس، وكلما زادت المعرفة بالنفس زادت معها المعرفة بالرب سبحانه وتعالى.

القول الثالث

إن من عرف حقيقة نفسه حق المعرفة فقد عرف وأيقن بأنها حادثة ولها محدث، وأنها مدبرة ولها مدبر، وأن الخالق الذي أحدثها وأنعم عليها بالوجود والحياة والبقاء ويدبر أمرها وينعم عليها بالرزق، هو حي بذاته وقديم منذ الأزل، وباقٍ إلى الأبد بلا بداية ولا نهاية لوجوده، أي: واجب الوجود بذاته وأنه قادر قدرة مطلقة على كل شيء ممكن، وغني عنا مطلقاً، لا يفتقر إلى شيء في وجوده وكماله، وهو واسع الرحمة ومتصف بجميع الكمالات ومنزه عن كل نقص وعيب وآفة، وهذه الصفات معلومة للعقل بالضرورة، وبها استحق أن يكون خالقاً وليس مخلوقاً، وبدونها لا يكون بينه وبين المخلوقات فرق، ويكون محتاجاً في وجوده إلى خالق، وبهذا لا يمكن فهم حدوث الكون وتفسيره، وبناء على ما سبق فإن الإنسان يستمد وجوده وحياته وبقاءه وصفاته وأفعاله وكمالاته من الله ذي الجلال والإكرام، ولا يستقبل في شيء من ذلك، وليس له شيء منه بدونه، وأن شكر الله سبحانه وتعالى وطاعته وعشقه واجب ثابت بحكم الفطرة والطبع السليم والعقل والمنطق والأخلاق على قادعدة: <هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ>[20]، وتسمى أيضاً: عرفان الجميل.

وأيضاً من عرف حقيقة نفسه عرف بأن نفسه جوهر بسيط مجرد عن المادة ومخالف للبدن، مما يدل على أن الوجود ليس منحصراً في علم الطبيعة والمادة، وأن هناك عالماً غير عالم الطبيعة والمادة أوسع منه وأشرف وجوداً وأعلى رتبة منه وأكثر متانة وقوة، وأنه المكان المناسب الذي ينبغي أن تسكنه الروح (النفس)، وأن فيه أنسها وأمنها من جنس ذلك العالم فتعشقه وتميل إليه وتنجذب بطبعها، وتسعى للتخلص من حجاب المادة والطبيعية، والوصول إلى ذلك العالم النوراني الواسع والإقامة فيه، فإن لم تصل فسوف تبقى في غربة وضياع ونقص واضطراب، سجينة مستوحشة وحزينة دائماً وتشقى وتهلك حتماً ويقيناً.

القول الرابع

إن من عرف حقيقة نفسه حق المعرفة علم اليقين بأنها الفقيرة إلى الله الغني الحميد سبحانه وتعالى في وجودها وحياتها وصفاتها وأفعالها وكمالاتها وأنها مملوكة له ملكاً كاملاً مطلقاً لا تستقل عنه في شيء، وأنها لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً ولا أي شيء آخر من صفاتها وشؤونها وأحوالها، فإنه بحسب نظرته وطبيعته وغريزة حب الكمال لديه وبحسب العقل والمنطق أيضاً يعشق ربه وينقطع إليه عن كل شيء سواه، وينصرف عن جميع الحجب والآثار إلى مصدر الفيض والنور والآثار، ويطيعه ويحسن عبادته لأنه أهل الطاعة والعبادة، ويسعى بصدق وإخلاص نية في مجاهدة النفس الأمارة بالسوء، والعبادة ويسعى بصدق وإخلاص نية في مجاهدة النفس الأمارة بالسوء والشيطان الرجيم، وتطهير النفس من دنس الذنوب والمعاصي والخطايا والآثام والجرائم والجنايات ورذائل الأخلاق وخبائث الصفات وتزكيتها وتخليصها من كدرات عالم المادة والطبيعة وظلماتها، ومن التعلق بحب الدنيا وزينتها وزخارفها ومن أسر الشهوات الحيوانية والملذات الحسية ونحوها، التي هي الحجب المانعة والغطاء للنفس عن تحصيل المعارف الإلهية والنفحات الربانية القدسية وعن المعرفة اليقينية بالله ذي الجلال والإكرام وحبه والأنس به والانقطاع إليه، وعن النظر إلى عالم الملكوت الأعلى، عالم النور والطهارة والقداسة، فیقدر تطهير النفس من دنس هذه الخبائث والكدرات وتزكيتها وتحليتها بشرائف الصفات وفضائل الأخلاق والخصال الحميدة وعمارتها بوظائف الطاعات والعبادات، فإنها تتحادى شطر الحق تبارك وتعالى ويحصل للعارف صفاء القلب، ويكون مستعداً للانتقال إلى عالم الملكوت الأعلى، عالم النور والطهارة والقداسة والإقامة فيه أبداً مع مصاحبة الأرواح الطيبة والملائكة المطهرين (عليهم السلام) لأن الجوهر الإلهي (الروح-النفس) في الإنسان، إذا صفا من كدورة المادة، وتطهر من الأخباث المعنوية، وتخلى عن الشهوات الحيوانية والعلائق الدنيوية، وتحكم في الأهواء والوساوس الشيطانية والأوهام والخيالات الباطلة والخرافات، وسيطر عليها، انجذب بحكم الطبع والمناسبة (المشابهة) إلى عالم القدس، وحدث فيه شوق تام إلى أشباهه من الجواهر المجردة الأرواح الطيبة والملائكة المطهرين (عليهم السلام)، ويرتفع منها إلى ما هو فوق الكل، ومنبع جميع الخيرات، ويستغرق في مشاهدة الجمال الحقيقي الكامل وسبحات الجلال، ومطالعة جمال الخير المحض والفيض الأقدس، ويصل إلى مقام التوحيد الخالص الذي هو نهاية المقامات غاية الطالبين والعارضين، فيفيض عليه رب الأرباب الجامع لكل الكمالات من أنواره البهيّة، ويستنير بالنور الإلهي البهي، ويستمد منه لطائف الحكمة، ويمتلئ من الشوق الإلهي الذي هو أفضل مراتب الشوق، ينتعش بالعشق الإلهي، وما يرد عليه من النفحات الغيبية وتظهر له من المزايا والإفاضات الرحمانية، والأنوار والألطاف الربانية، وتظهر فيه آثار الروحانية ويتحلى بالكمالات المعنوية، وتتفتح له أبواب الهداية وسبل المعرفة ويرى بعين قلبه حقائق الأشياء كما هي عليه، أي: يحصل له العلم النوراني اليقيني الذي لا يقبل الشك ولا يحتمل الخطأ، ويكون في غاية الظهور والجلاء، لاستفادته من الأنوار الإلهية والإلهامات الحقة (الشهود القلبي)، قول الله تعالى: <آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا>[21]، وتحصل له المعرفة المباشرة بالله سبحانه وتعالى، وهي معرفة الله بالله الذي هو أقرب إليه من حبل الوريد، قول الله تعالى: <وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ -يعني الإنسان- مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ>[22]، أي: وهي المعرفة الحقيقية العالية الكاملة الممكنة في حق المخلوقين لله ذي الجلال والإكرام؛ لأن الانقطاع إلى الله سبحانه وتعالى يرفع كل حجاب مضروب على القلب، فينفتح عين البصيرة وتحصل المشاهدة القلبية مباشرة بلا توسط وسط، ويتحصل منها العلم بالله ذي الجلال والإكرام الذي لا يقبل الشك ولا يتحمل الخطأ، فيذهل بمشاهدة أنوار الجمال وسبحات الجلال والكبرياء عن نفسه، وعن كل شيء ويفنى في المعشوق، ويبقى به ويشعر باللذة لا تشبهها لذة، ويخلو من جميع الآلام والحسرات ويكون أبداً مسروراً بذاته، مغتبطاً بحاله، مبهجاً بما يرد عليه من فيوضات النور الأول والخير المحض، ولا يسر إلا بتلك اللذات الروحية، ولا يغتبط إلا بها، فيصل إلى مقام ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولاخطر على قلب بشر، قول الله تعالى: <فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ>[23]، وهذه المرتبة من المعرفة بالله ذي الجلال والإكرام هي أعلى مراتب الوصول ونهاية درجات الكمال المقدر لنوع الإنسان، والغاية القصوى للعاشقين والطالبين، وتسمى: معرفة الله بالله. وفي الحديث عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، قول الله تعالى في الحديث القدسي: «فمن عمل برضائي ألزمه ثلاث خصال: أعرفه شكراً لا يخالطه الجهل، وذكراً لا يخالطه النسيان، ومحبة لا يؤثر على محبتي محبة المخلوقين، فإذا أحبني أحببته وأفتح عين قلبه إلى جلالي، ولا أخفي عليه خاصة خلقي، وأناجيه في ظلم الليل ونور النهار، حتى ينقطع حديثه مع المخلوقين، ومجالسته معهم، وأسمعه كلامي وكلام ملائكتي، وأعرفه الشر الذي سترته عن خلقي، وألبسه الحياء حتى يستحي منه الخلق كلهم، ويمشي على الأرض مغفوراً له، وأجعل قلبه واعياً وبصيراً، ولا أخفي عليه شيئاً من جنة ولا نار، وأعرفه ما يمر على الناس في القيامة من الهول والشدة، وما أحاسب به الأغنياء والفقراء والجهال والعلماء، وأنومه في قبره وأنزل عليه منكراً ونكيراً حتى يسألاه، ولا يرى غم الموت وظلمة القبر واللحد وهول المطلع، ثم أنصب له ميزانه وأنشر ديوانه، ثم اضع كتابه في يمينه فيقرؤه منشوراً ثم لا أجعل بيني وبينه ترجماناً، فهذه صفات المحسنين»[24].

وخلاصة هذا القول: أن المعرفة بحقيقة النفس تترتب عليها المعرفة الحقيقية العالية الكاملة الممكنة في حق المخلوقين بالله ذي الجلال والإكرام، وهذه المعرفة بالله ذي الجلال والإكرام يترتب عليها عشقه، وليس مجرد محبته، وبطبيعة العشق الذي هو من مختصات الإنسان، فإنه يستولي تماماً على العاشق، ويجعل اهتمامه كله مشدوداً إلى المعشوق، ويخلق نوعاً من التوحيد بين العاشق وبين المعشوق، ويجعل العاشق منقطعاً تماماً عن كل شيء غير المعشوق، ويتباهى بالتضحية من أجله، ويتظاهر حياله بالعبودية والتفاني، ويسمى: فناء العاشق في المعشوق. ومن شأن العاشق لله ذي الجلال والإكرام أن يتجلى أثر العشق في العبادة والطاعة بصورة عامة، وفي العبادة والطاعة العينية على المعشوق بشكل خاص، مثل: أن يتعين عليه القتال في سبيل الله (عز وجل) أو الصبر على السجن والأذى أو الإنفاق ونحو ذلك.

ومن شأن الانقطاع إلى الله ذي الجلال والإكرام أن يرفع كل حجاب مضروب على القلب، فتنفتح عين البصيرة وتحصل المشاهدة القلبية، وتظهر في العارف العاشق المنقطع، آثار الروحانيات من العلم بحقائق الأشياء ولطائف الحكمة، وتتقرر الحقائق في عقله كتقرر القضايا الأولية فيه، وتحصل له معرفة الله بالله، وهي المعرفة الحقيقية العالية الكاملة الممكنة في حق المخلوقين التي تمثل أعلى مراتب الوصول، ونهاية درجات الكمال المقدرة لنوع الإنسان، وهي الغاية القصوى للعارفين الطالبين العاشقين، وهكذا تكون المعرفة بالنفس أفضل الطرق للمعرفة الكاملة بالله، ونحصل على معنى وافي للحديث الشريف موضوع البحث.

ونتوصل مما سبق إلى النتائج المهمة التالية:

  • إن معرفة النفس هي الطريق الأفضل والأدق لمعرفة الإنسان بربه سبحانه وتعالى الذي إليه منتهاه، منتهى الطلب ومنتهى الرجوع والحساب والأعمال القلبية، مثل: الاعتقادات، والجسمية، مثل: الصلاة، هي التي تربي النفس الإنسانية التربية المناسبة ليسنخها وإن كانت الأعمال القلبية والجسمية صالحة، كانت النفس المستكملة بها سعيدة ومصلحة في سعيها ورابحة في صفقتها، وإن كانت الأعمال القلبية والجسمية سيئة كانت النفس المستكلمة بها شقية وخائبة في سعيها وخاسرة في صفقتها.
  • إن تطهير النفس وتزكيتها وسيلة إلى تحصيل المعرفة الحقيقية العالية الكاملة الممكنة في حق المخلوقين بالله ذي الجلال والإكرام، حيث تحصل للعارف العاشق المنقطع بالله سبحانه وتعالى عن كل شيء غيره، المعرفة لله بالله، وهي معرفة حضورية مباشرة يقينية لا تقبل الشك، ولا تحتمل الخطأ، ولايمكن أن تحصل هذه المعرفة للإنسان بدون تطهير النفس وتزكيتها، وهي تختلف عن المعرفة الاستدلالية التي تحصل بالنظر إلى النفس وآياتها كأثار ومعلولات لله سبحانه وتعالى، واليقين الاستدلالي مشوب ولا يرقى إلى مستوى اليقين الخالص الناجم عن الشهود القلبي الذي يشير إليه هذا القول لإبرازه.
  • إن الرحمة الإلهية بحكم العناية الإلهية مبذولة للكل، غير مضنون بها على أحد من الخلق، غير أن حصولها موقوف على صفاء مرآة القلب وتطهير النفس من الدنس والخبائث؛ لأن منشأ العلم ومناطه في الحقيقة هو التجرد وصفاء القلب وطهارة النفس، فكلما زاد تجرد النفس وطهارتها وصفاء القلب ازداد الإنسان إيماناً ويقيناً ومعرفةً، وعليه لا تحجب الأنوار العلمية والأسرار الربوبية عن قلب من القلوب لبخل من جهة المنعم تبارك وتعالى، وإنما يحصل الاحتجاب من جهة القلب لما يوجد فيه من كدورة وخبائث واشتغاله بما يمنعه من تحصيل المعارف الحقة ونيل الفيوض الربانية والألطاف الإلهية.
  • إن الله سبحانه وتعالى مشهود لخلقه غير غائب ولا محجوب عنهم، إلا أن تحجبهم غفلتهم وذنوبهم وأعمالهم السيئة عنه، وأن المحبوب الحقيقي للإنسان فطرته وتكوينه، هو الذات الإلهية المقدسة الجامعة لكل الكمالات، وأصل خير ونعمة وكمال للموجودات كافة، وكل حب روحي لغيره يجب أن يكون بحسب العقل والمنطق امتداداً له ومستمداً منه.

إضاءة قرانية

قول الله تعالى: <قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ۖ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا>[1]، أي: إن الاكتراث للناس عند الله سبحانه وتعالى إنما هو لعبادتهم له ودعائهم إياه، وبدون الطاعة والعبادة والدعاء فإنه لا قدر ولا منزلة لهم عنده جل جلاله، ولا يهتم ولا يكترث لهم ولا يعتد بهم، ولا يكونوا عنده بشيء يبالي به ولا يستحقون عنده جل جلاله الذكر والحب والعناية أبداً، فالذي يعطي الإنسان القيمة والوزن والمقام الرفيع عند الله جل جلاله هو الإيمان والطاعة والتوجه إلى الله ذي الجلال والإكرام بالدعاء والعبادة، وبدون ذلك يفقد الإنسان قيمته ووزنه ومقامه الرفيع، ويتحول إلى كائن حقير، وهذا أمر واقعي موافق للحكمة الإلهية البالغة، وليس أمراً مزاجياً ومخالفاً لمقتضى الرحمة، والحكمة تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، كما قد يتوهم الجهلة والحمقى؛ لأن الإنسان إذا عرف حقيقة نفسه حق المعرفة فقد عرف بأنه مخلوق وله خالق، وأن الخالق واجب الوجود بذاته غني مطلق جواد كريم رحيم، وجامع لكل الكمالات، ومنزه عن كل نقص وعيب وآفة، وأن الإنسان فقير في نفسه محتاج إلى خالقه في وجوده وحياته وبقائه وصفاته وأفعاله وكمالاته، غير مستقل عنه في شيء من ذلك، ويحصل له الكمال والغنى ويستحق الرحمة والنعيم من الله تبارك وتعالى بطاعته والتوجه إليه بالعبادة والدعاء، واكتساب صفات كماله، صفات الجمال وصفات الجلال، والتخلق بأخلاقه، فيسلك طريق العشق والمحبة له، والانقطاع إليه عن كل شيء غيره، وذلك بحكم العقل وبمقتضى الفطرة والطبع السليم وحب الكمال لديه، فإذا لم يفعل ذلك وسلك طريق الجحود والنكران والمعصية فهو دليل على جهله وحمقه وعناده واستكباره، بالامتناع عن قبول الحق وعدم الإذعان له، ولمخالفته الفطرة التي فطر عليها، وحكم العقل والمنطق، ومن كانت هذه صفته فلا خير فيه ولا خير يرجى منه، ويتركه الله جل جلاله لنفسه، ولما اختاره لها ولا يكترث به ولا يهتم له؛ لأنه غني عنه تماماً، ولأن الإنسان بسبب عناده بامتناعه عن قبول الحق وتحليه بالصفات القبيحة والأخلاق الذميمة، واختيار طريق الباطل والضلال والرذيلة والشر، قد انسلخ من إنسانيته وفقد قيمته وكرامته ومنزلته ومقامه الرفيع، بمحض إرادته وسوء اختياره، وأصبح بعيد عن الحق والهدى والفضيلة والرشاد ومستحقاً للهلاك والعذاب الأليم في الدارين الدنيا والآخرة، قول الله تعالى: <وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ>[2]، فقد أمر الله سبحانه وتعالى بطاعته وعبادته؛ لأن الطاعة والعبادة له توافق العقل والمنطق والفطرة، وهو الطريق الوحيد الواقعي والفعلي إلى النجاة من الشقاء والهلاك والوصول إلى الكمال الممكن المقدر للإنسان، وتحصيل الرحمة والسعادة والفوز بالرضوان الإلهي والنعيم المقيم، ولا طريق غيره إلى ذلك على الاطلاق وضمنه لهم الإجابة المطلقة، إذا كان المطيع والعابد والداعي بحسب الحقيقة، مريداً بحسب العلم الفطري، وهذا من لطف الله تبارك وتعالى بعباده، ونعمته العظيمة عليهم، وفي الحديث الشريف، عن الإمام الصادق (ع): «من أُعطيَ الدعاء أُعطيَ الإجابة، ومن أُعطيَ الشكر أُعطيَ الزيادة، ومن أُعطيَ التوكل، أُعطيَ الكفاية فإن الله (عز وجل) يقول في كتابه: <وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ>، وقال: <لَئِن شَكَرتُم لَأَزيدَنَّكُم>، وقال: <ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ>»[3]، وفي المقابل فإن المعصية وترك الدعاء والعبادة لله سبحانه وتعالى، مخالف للعقل والمنطق والفطرة، وطريق إلى النقص والحقارة والدناءة والانسلاخ من الإنسانية، وإلى الشر والشقاء والهلاك والعذاب الأليم في الدارين الدنيا والآخرة، وهو دليل على الغرور والعناد والاستكبار؛ لأن في الطاعة والعبادة اعتراف بالفقر والحاجة إلى الله سبحانه وتعالى وإظهار إلى ذل العبودية له، وفي ترك الطاعة والعبادة استكبار واستنكاف عن إظهار ذل العبودية لله (عز وجل).

وبناء على ما سبق فقد بعث الله تبارك وتعالى رسله الكرام (عليهم السلام) إلى الناس لهدايتهم إلى طاعته وعبادته، رحمة منه بهم لينتفعوا بعبادته ويستغنوا بطاعته، وقطعاً لعذرهم وإقامة الحجة المبالغة عليهم، وفي الآية الشريفة المباركة حث على الطاعة والعبادة وترغيب فيها وتشويق إليها وإنذار شديد اللهجة إلى المغرورين الحمقى المستكبرين عن طاعته وعبادته، وتحذير لهم من العواقب الوخيمة التي تترتب على سوء اختيارهم وإعراضهم عن طاعة الله سبحانه وتعالى وعبادته.

القول الخامس

من عرف حقيقة نفسه وعرف أنها جوهر بسيط مجرد، ومتعلقة بالجسد (البدن) تعلق تدبير وتصرف، لا يعزب عنها شيء من أفعاله وأحواله، ولا يصدر عنه شيء إلا بأمرها وتدبيرها، وأنها تستقبل بتدبير الجسد، لا يشاركها في تدبيره غيرها، ولو تعددت الأنفس (الأرواح) المدبرة في الجسد الواحد لفسد واضمحل. عرف بأن لهذا العالم (الكون) مدبراً واحداً يستقل بتدبيره لا يشاركه في تدبيره غيره، ولا يغيب عن علمه شيء فيه، ولو شاركه غيره في تدبير العالم، ولو جهل بشيء مما يحدث فيه، لخرج العالم عن سلطته وتدبيره وفسد واضمحل، قول الله تعالى: <لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ>[4]، وقوله تعالى: <وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ>[5]، أي: لو كان المدبر في السماوات والأرض (العالم – الكون) آلهة شتى غير الله سبحانه وتعالى، الذي هو فاطرهما وخالقهما لفسدتا واضمحتلتا وفسد واضمحل كل من فيهما من المخلوقات؛ لأن الآلهة المتعددين سوف يكونون مختلفين ذاتاً، متفاوتين علماً وقدرةً، متباينين في الإرادة والتدبير لاستحالة اتفاقهم في شيء، وسيكون كل واحد منهم قادراً على فعل ما يريد من الخلق والتدبير، وهذا يقتضي تميز ملك كل إله عن ملك الآلهة الآخرين، واختلاف نظام كل إله في ملكه عن نظام الآلهة الاخرين في أملاكهم، ولحدث بينهم التحارب والتغالب والاختلاف، ولعلا بعضهم على بعض، فيتعارض التدبير والنظام في الكون، فيحدث بسبب ذلك فساد الكون واضمحلاله، وأيضاً لو جهل الله سبحانه وتعالى شيئاً في الكون لخرج عن سلطته وتدبير وانتهى إلى الفساد والاضمحلال، ولأن نظام الكون (العالم) واحد ودقيق ومحكم ومنسجم الأجزاء، ويعاضد بعضه بعضاً، وفي أكمل ما يكون من الصلاح والانتظام، فهذا يدل بشكل يقيني وقاطع على أن المدبر للكون رب واحد أحد صمد لا شريك له، وأنه ويعلم بكل شيء يحدث فيه، وفي الآية الشريفة المباركة دلالة على ثلاثة أمور رئيسية، وهي:

  1. وجوب أن يكون للعالم (الكون) مدبر واحد، وأن يكون عالماً بكل شيء فيه لكي لا يفسد الكون ومن فيه.
  2. أن يكون ذلك الواحد هو الله سبحانه وتعالى رب العالمين فاطر السماوات والأرض وخالقهما.
  3. أن الله سبحانه وتعالى غني مطلق (واجب الوجود لذاته) وجامع لكل الكمالات، ومنزه عن كل نقص وعيب وآفة وغيره من الموجودات فقيرة في ذاتها، تستمد وجودها وبقاءها وصفاتها وأفعالها وكمالاتها منه وحده لا شريك له.

وأيضاً من عرف حقيقة نفسه بأنها جوهر بسيط مجرد، وأنها غير داخلة في الجسد دخول الممازجة، ولا خارجة عنه خروج المفارقة، وأنها ليست في مكان مخصص منه، ولا يخلو منها مكان منه، ولايمكن للإنسان إدراكها بحواسه، ولا تصور حقيقتها وكنهها بعقله، أي: يعرف وجود النفس وصفاتها وأسمائها وأفعالها وكمالاتها، ولا يعرف حقيقتها وكنهها، فقد عرف ربه بالنسبة إلى العالم الكلي (الكون) فيعرف وجوده وصفاته وأسماءه وأفعاله وتدبيره وكمالاته المعرفة الممكنة في حق المخلوقين، ويعرف وجوب التسليم له وطاعته فيما يأمربه وينهى عنه، ويعرف استحالة إدراكه بحواسه، وتصور حقيقة ذاته وكنهه بعقله، وذلك لأن عالم الإنسان نموذج مصغر للعالم الأكبر الكلي، قول الرسول الأعظم الأكرم (ص): «قد علم أولوا الألباب أن الاستدلال على ما هنالك لا يعلم إلا بما هاهنا»[6]، وقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع): «تحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر»، وقوله (ع): «إن الصورة الإنسانية هي أكبر حجة الله على خلقه، وهي الكتاب الذي كتبه الله بيده، وهي الهيكل الذي بناه بحكمته، وهي مجموع صور العالمين، وهي مختصر من اللوح المحفوظ، وهي الصراط المستقيم، وهي الصراط الممدود بين الجنة والنار»[7].

ومن الملاحظ أن الصورة الإنسانية تمثل مجموع صور العوالم الثلاثة:

  • الجسم الذي يمثل عالم المادة (الطبيعة).
  • الروح التي تمثل عالم البرزخ (الوسط)، بين المادة والمجردات.
  • العقل الذي يمثل عالم المجردات وتشتمل على طريق الجنة وعلى طريق النار.

قول الله تعالى: <وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا 7 فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا 8 قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا 9 وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا>[8]، وقوله تعالى: <وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ>[9]،ولديها القابلية للتلقي من جنود الرحمن: العقل والملائكة، ومن جنود الهوى والشياطين ونحو ذلك، مما تنفرد به الصورة الإنسانية عن غيرها من صور الموجودات.

وأيضاً من عرف حقيقة نفسه وعرف أنها تمثل حقيقته وجوهر وجوده، وأساس وحدة شخصيته وكيانه، وإليها يشير بقوله: (أنا) وإليها ينسب جميع أجزائه وكلياته وصفاته وأحواله وأطواره، فيقول: حياتي وطفولتي وشبابي وشيخوختي وسمعي وبصري وفؤادي ورأيي، وقمت وسمعت وأردت وفكرت وقدرت ونحو ذلك، وهو يعلم بأن نفسه غير كل ذلك، فقد عرف بأن قول الله سبحانه وتعالى: عرشي وسمائي وإرادتي وفعلي ونحو ذلك هي من ظهوراته وتجلياته وأنها غيره، قول الإمام الرضا (ع): «كنهه تفريق بينه وبين خلقه»[10].


  • [1] الفرقان: 77
  • [2] غافر: 60
  • [3] الكافي، جزء 2، صفحة 65
  • [4] الأنبياء: 22
  • [5] يونس: 61
  • [6] بحار الأنوار، جزء 1، صفحة 316
  • [7] جامع الأسرار، السيد حيدر الآملي، صفحة 383
  • [8] الشمس: 7-10
  • [9] البلد: 10
  • [10] بحار الأنوار، جزء 4، صفحة 228

  • [1] الإسراء: 85
  • [2] التوحيد، صفحة 143
  • [3] فصلت: 53
  • [4] الذاريات: 20-21
  • [5] غرر الحكم: 8964
  • [6] نفس المصدر: 7999
  • [7] نفس المصدر: 5486
  • [8] نفس المصدر: 3220
  • [9] نفس المصدر: 10337
  • [10] نفس المصدر: 9034
  • [11] يس: 82
  • [12] الإسراء: 85
  • [13] التفسير الكبير، الفخر الرازي، جزء 7، صفحة 393
  • [14] الحشر: 19
  • [15] النور: 35
  • [16] مفاتيح الجنان، دعاء الجوشن الكبير
  • [17] مفاتيح الجنان، دعاء عرفة
  • [18] مفاتيح الجنان، دعاء أبي حمزة الثمالي
  • [19] التوحيد، صفحة 143
  • [20] الرحمن: 60
  • [21] الكهف: 65
  • [22] ق: 16
  • [23] السجدة: 17
  • [24] الميزان، العلامة الطباطبائي، جزء 7، صفحة 175-176
المصدر
كتاب معرفة النفس طريق لمعرفة الرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟