مواضيع

بين المعرفة والعبادة

جاء في الحديث القدسي: «كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف، فخلفقت الخلق لكي أعرف»[1]، والحديث يدل على أمور عديدة، منها:

  • الغني المطلق والرحمة الواسعة لله رب العالمين سبحانه وتعالى، والفقر المطلق لجميع الموجودات سواه في وجودها وبقائها وصفاتها وأفعالها وكمالاتها.
  • إن خلق المخلوقات وإيجاد الموجودات الممكنة كلها كان بإرادة إغنائها، أي إخراجها من المطلق (العدم) إلى الغنى النسبي (الوجود النسبي)، وإيصالها إلى كمالها الممكن اللائق بها والمقدر لها، والذي يختلف باختلاف قابلياتها واستعداداتها.
  • إن الغاية من الخلق هي المعرفة بالله ذي الجلال والإكرام، وعليه يجب أن يكون الطريق إليها واضحاً وبالغاً وفي متناول جميع الناس.

وبحسب الحقيقة والواقع: فإن الطرق إلى المعرفة بالله ذي الجلال والإكرام كثيرة ومتنوعة إلا أن المعرفة بالنفس هي أفضل الطرق إلى المعرفة الحقيقية العالية الكاملة الممكنة بحق المخلوقين بالله ذي الجلال والإكرام سبحانه وتعالى، وهي في متناول جميع الناس كما سيتضح في شرح الحديث موضوع البحث.

وفي المقابل، قول الله تعالى: <وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ>[2]، والآية الشريفة المباركة نص على أن العبادة هي الغاية من خلق الجن والإنس، الكائنات العاقلة التي تملك حرية الإرادة والاختيار، وعليها عهدة التكليف والعمل بالدين الإلهي والشريعة السماوية المقدسة، وهذا يعني أن وصول الإنسان إلى كماله اللائق به، والمقدر له بمقتضى الحكمة الإلهية البالغة والرحمة الربانية الواسعة الذي خلق من أجله وكلف بطلبه والوصول إليه، وحصوله على السعادة الحقيقية الكاملة في الدارين الدنيا والآخرة، لا يكون إلا بسلوك طريق العشق والمحبة لله رب العالمين والتقرب إليه بالعبادات والطاعات والتسليم إليه في جميع ما يأمر به وينهى عنه.

ويمكن الجمع بين النصين: النص على أن المعرفة بالله ذي الجلال والإكرام هي الغاية من الخلق، والنص على أن العبادة هي الغاية من الخلق بالقول:

  • إن المعرفة الحقيقیة بالله ذي الجلال والإكرام يجب أن تفضي وتقود إلى العبادة والتسليم لله سبحانه وتعالى في جميع ما يأمر به وينهى عنه، أي أن المعرفة بالله ذي الجلال والإكرام، وأنه جامع لكل الكمالات، ومنزه عن كل عيب ونقص وآفة، ومعرفة صلته بالعالم والإنسان، وأن العالم وخلق الإنسان فيض من قدرته المطلقة ورحمته الواسعة، وأن إليه يرجع الإنسان وجميع الخلائق في يوم القيامة للحساب والجزاء، وأن لا مفر من ذلك ولا مهرب، يترتب عليه حتماً بحسب العقل والمنطق والفطرة والطبع الإنساني السليم رد فعل، هو اختصاصه بالطاعة المطلقة والعبادة الصادقة بنية خالصة، وأن لا قيمة للمعرفة بدون الطاعة والعبادة ولا يترتب عليها أثر ولا يستحق صاحبها الثواب عند الله تبارك وتعالى.
  • إن المعرفة مقدمة ضرورية للعبادة الصحيحة المقبولة، فلا تحصل العبادة الصحيحة المقبولة ولا يحصل التكامل الروحي المطلوب والقرب من الله العلي الأعلى بدون المعرفة به، ولا قيمة للعبادة ولا تصح ولاتقبل بدون المعرفة، ولا تعد سيراً حقيقياً وفعلياً إلى الله ذي الجلال والإكرام بدون المعرفة به، بل تعد سيراً إلى غيره وإلى المجهول.
  • إن العبادة الصادقة والصحيحة تفتح الباب على مصراعيه لمزيد من المعرفة بالله ذي الجلال والإكرام، قول الله تعالى: <وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ>[3]، أي: إن الذين نصبوا أنفسهم وجاهدوا في حقنا ولوجهنا الكريم، ومن أجل الدعوة لنا وإعلاء كلمتنا كلمة الحق المبين جهاراً علمياً وعملياً، مادياً ومعنوياً على أحسن وجه وأكمله بصدق وإخلاص نية، فلا ينصرفون عن الإيمان والطاعة فنأخذ بأيديهم ونؤيدهم ونوفقهم ونسددهم ونهديهم إلى أفضل الطرق للوصول إلينا والقرب منا والفوز بالرضوان والثواب الجزيل والنعيم المقيم، مثل: طريق جهاد النفس، وطريق جهاد الأعداء بالمال والنفس ونحو ذلك، وإن الله تبارك وتعالى دائماً وأبداً لمع المحسنين المجاهدين فيه بصدق وإخلاص نية بالنصر والعون والهداية وذلك لكمال عنايته المباركة بهم على قاعدة: <هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ>[4]، أي: إن جزاء الإحسان في العقيدة والعمل هو الإحسان في المكافأة والثواب والفوز بالمراد، فمن كان الله تبارك وتعالى معه لم يخذل وكان النصر والظفر والفلاح حليفه وفاز بمطلوبه.

وقول الله تعالى: <يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ>[5]، أي: إن تتقوا الله بطاعته فيما يأمركم به وينهاكم عنه وترك معصيته وتسلكوا طريق عشقه ومحبته وتجاهدوا أنفسكم بصدق وإخلاص، وتجردوها من حب الذات والأنانية ومخالب الشيطان الرجيم والتعلق بعالم الدنيا والمادة والاستغراق في الشهوات والملذات الحسية من أجل مرضاته، فإنه يجعل لكم شرحاً للصدور وثباتاً في القلوب وتسكيناً في النفوس وقوةً في البصيرة ونوراً ملكوتياً في العقول تمشون به في الناس، وستستطيعون به التفريق بين الهدى والضلال، والحق والباطل في العقيدة، وبين الصواب والخطأ في الرأي في مختلف الأمور والشؤون، وبين الفضيلة والرذيلة في الأخلاق، وبين الحلال والحرام، والطاعة والمعصية في العمل، وبين الصديق والعدو، والسعيد والشقي في العلاقات، ويتبين لكم به المخرج من الشبهات والمحذورات والمآزق، وتحصل لكم به النجاة من كل ما تخافونه وتحذرون منه، ونحو ذلك من الصفات الحسنة والخصال الحميدة والمكاسب العظيمة، كما يستر علكيم تبعات ذنوبكم وأعمالكم السئية ويغفرها لكم؛ لأن الله تبارك وتعالى ذو فضل عظيم على الناس، ورحمة واسعة بعباده، فينيلكم بركات السماوات والأرض وخيراتها بصدق إيمانكم وأعمالكم الصالحة، وماسبق يدل على الأمور المهمة التالية:

  1. إن التقوى والأعمال الصالحة هي طريق الوصول إلى الكمال وعنوان الخير والسعادة والصلاح والفلاح للإنسان.
  2. إن أحرى الناس بموافقة الحق والصواب هم أهل المجاهدة.
  3. كل من جد واجتهد في طلب مرضاة الله تبارك وتعالى تحصل له من الهداية والمعونة والأسرار في تحصيل مطلوبه أمور إلهية خارجة عن مقدوره وتدبيره.

وبناء على ما سبق يتبين لنا بأن بين المعرفة وبين العبادة تلازم وعلاقة جدلية تبادلية، يؤثر من خلالها كلاً منهما -المعرفة والعبادة- في الآخر، إذ تفضي المعرفة الحقيقية بالله ذي الجلال والإكرام إلى العبادة الصادقة الصحيحة المقبولة، وتفتح العبادة الصحيحة المقبولة الباب على مصراعيه لمزيد من المعرفة بالله ذي الجلال والإكرام والهداية إلى الحق والصواب.


[1] بحار الأنوار، جزء 84، صفحة 199

[2] الذاريات: 56

[3] العنكبون: 69

[4] الرحمن: 60

[5] الأنفال: 29

المصدر
كتاب معرفة النفس طريق لمعرفة الرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟