مواضيع

مراتب معرفة الله

معرفة الإنسان بالله سبحانه وتعالى ليست على درجة واحدة عند جميع الناس وعند جميع الموحدين، بل تختلف وتتفاوت باختلاف وتفاوت المقامات العلمية والروحية للأشخاص، فإن الله تبارك وتعالى يتعرف لكل واحد من خلقه على مقدار قابليته واستعداده وقوة منطقه وإدراكه التي هي في الحقيقة انعكاسات لطهارة نفسه وتزكيتها ولصفاء قلبه ونورانيته، فيوحد كل إنسان بما ظهر له وتعرض عليه به، ويمكن تقسيم معرفة الإنسان بالله سبحانه وتعالى إلى أربع مراتب ودرجات رئيسية وهي:

  • معرفة المقلدين الذين صدقوا بالدين الإلهي الحق وبعقيدة التوحيد واتبعوا أئمة الحق والهدى والدين (عليهم السلام) سيراً على الطريق الذي سار عليه آباؤهم وأجدادهم وأسلوب حياتهم وطريقتهم من غير أن تكون لهم حجة أو برهان صحيح، وهذه المعرفة ليست بمعرفة حقيقية ولا معبرة عند العقلاء وعند الموحدين الحقيقيين.
  • معرفة أهل النظر والبرهان والاستدلال الذين حكموا بعقولهم وبالبرهان الصحيح القاطع على وجود الله سبحانه وتعالى وعلى صفاته العليا وأسمائه الحسنى وأفعاله الصالحة الحكيمة وكمالاته، وذلك عن طريق النظر في الآيات الآفاقية والأنفسية، وفي نتائج العلوم الطبيعية والإنسانية، وبالاستناد إلى المنطق والرياضيات، والنظر في المبادئ العامة في الوجود والمفاهيم الكلية، مثل: الواجب والممكن، والعلة والمعلول، وبطلان التسلسل إلى ما لا نهاية ونحو ذلك، والاستفادة من كل ذلك الإيمان بالتوحيد بجميع أقسامه، مثل: توحيد الذات، توحيد الصفات، توحيد الأفعال، توحيد العبادة وتوحيد الربوبية وغيرها، واتباع الدين الإلهي الحق والصراط المستقيم والنهج القويم نهج الاعتدال والطريقة الوسطى والعمل بمقتضى ذلك في جميع الأمور وجميع شؤون الحياة الخاصة والعامة والاهتداء إلى أئمة الحق والهدى والدين واتباعهم والأخذ منهم والاقتداء بهم.
  • معرفة المؤمنين المخلصين الذين اطمأنت قلوبهم بالله تبارك وتعالى والأنس به عن طريق الفطرة من غير اكتساب برهاني، وتيقنوا بأن الله سبحانه وتعالى هو نور السماوات والأرض كما وصف نفسه هو بذلك، قول الله تعالى: <اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ>[1]، فمالوا نحوه وانقطعوا إليه واستغنوا به عن كل شيء سواه صدقاً وعدلاً، وتمسكوا بالدين الإلهي الحق والصراط المستقيم ونهج الاعتدال القويم والطريقة الوسطى واتبعوا أئمة الحق والهدى والدين (عليهم السلام)، واقتدوا بهم في كل شيء وأخذوا منهم الدين وحدهم وكفروا بغيرهم والجبت والطاغوت.
  • معرفة أهل الرياضة والمجاهدة الروحية والشهود القلبي والمكاشفة والفناء في الله ذي الجلال والإكرام والبقاء به، وهي الدرجة العليا والمرتبة القصوى، وغاية كل طالب وعارف، التي يُعرف الله ذو الجلال والإكرام فيها بنفسه وبدون واسطة، أي: معرفة الله بالله، قول الإمام علي بن أبي طالب (ع): «اعرفوا الله بالله»[2]، وقول الإمام زين العبادين (ع): «بك عرفتك وأنت دللتني عليك ودعوتني إليك ولولا أنت لم أدر ما أنت»[3]، ولا يكون الوصول إلى هذه المرتبة من المعرفة بالله ذي الجلال والإكرام والوقف عليها إلا بكرم الله تبارك وتعالى وفضله وإحسانه وتوفيقه وتسديده لعبده، قول الإمام الحسين (ع): «منك أطلب الوصول إليك وبك استدل عليك فاهدني بنورك إليك وأقمني بصدق العبودية بين يديك»[4]، وهذه المعرفة هي أكمل المعرفة بالله ذي الجلال والإكرام؛ لأن المعرفة بالمكاشفة والشهود القلبي هي السبيل إلى المعرفة بحقائق الوجود على ما هي عليه، بيقين قاطع لا يقبل الشك ولا يتحمل الخطأ، وذلك عن طريق المكاشفة والذوق العشقي العرفاني والفناء في الله ذي الجلال والإكرام والبقاء به، قول الإمام الحسين (ع): «إلهي علمني من علمك المخزون، وصني بسر اسمك المصون، وحققني بحقائق أهل القرب، واسلك بي في مسالك أهل الجذب»[5]، وتسمى هذه المعرفة معرفة الله بالله، وهي معرفة حضورية يقينية لا تقبل الشك ولا تحتمل الخطأ، والطريق إليها هو تزكية النفس وتطهیرها من دنس الذنوب والمعاصي والخطايا والآثام والجرائم والجنايات، وتخليصها من حجاب المادة والطبيعة بتجريدها عن التعلق بحب الدنيا والاستغراق في الشهوات الحيوانية والملذات الحسية، وضبط قوى النفس تحت سلطة العقل والدين الحنيف، وتصفية القلب المعنوي وصقله عن طريق المجاهدة والزهد والرياضات الروحية التي أقرها الشارع المقدس، وطبقاً للشريعة الإلهية وآدابها، والمداومة على الذكر والصلاة وسائر العبادات والطاعات والتفكر في خلق الله سبحانه وتعالى وآياته الآفاقية والأنفسية والكتابية، فيشرق على صفحة قلب العارف المجاهد نور مبدأ الفيض وتطبع عليه صور حقائق الوجود كما هي عليه، ويحدث بذلك عروج روحي للملأ الأعلى وتحول عقلي نوراني عظيم في الإنسان العارف وتحصل له معرفة الله ذي الجلال والإكرام بالله تبارك وتعالى التي هي غاية كل طالب وعارف.

[1] النور: 35

[2] الكافي، جزء 1، صفحة 85

[3] مفاتيح الجنان، دعاء أبي حمزة الثمالي

[4] مفاتيح الجنان، دعاء عرفة

[5] مفاتيح الجنان، دعاء عرفة

المصدر
كتاب معرفة النفس طريق لمعرفة الرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟